لكل تاريخ سمات ولكل ماض مميزات، كما لكل دولة خصوصيات ، تصنع الفرق بينها وأخريات ،وتَميز مستقبلها عن باقي التوجهات والمسارات. ولعل من استقرأ تاريخ المغرب يلفي هذا التمايز الحاصل بينه وبين كثير من البلدان , ويدرك خصوصية تطبع وقائع تاريخه وتسم محطات متباينة شكلت شخصية هذا البلد الذي طالما كان تاريخه محط إعجاب الآخر ومثار فضوله ، ولا أدل على ذالك من الكتابات الغزيرة التي تناولت حقبا مختلفة من ماضيه ، بل إن بعض الناس أفنوا عمرا في إقتفاء أحداث مرحلة من مراحل هذا التاريخ كالصحفي الإنجليزي « والتر هاريس » أو ألف كتبا اهتمت به مذ تأسيس أول دولة ( الأدارسة) حتى تنظيم المسيرة الخضراء كما الشأن بالنسبة للكاتب » بيرنارد لوغان »، وهذا بالضرورة يفرض علينا باعتبارنا أحق الناس بالبحث في تاريخنا إعادة النبش في تربته وإخراج بعض رفات الأحداث المهمة المنسية ثم إعادة وصلها ببعضها قصد الإجابة عن مجموعة من التساؤلات التي ظلت عالقة في مشجب المخزن. لا شك أن أشخاصا بعينهم استطاعوا أن يخلدوا أسماءهم في الغابرين بين مجموعة من رجال السلطة بالمغرب ، إذ أنه لا يكاد يذكر اسم واحد منهم حتى يتعرف عليه بسهولة عامة الناس فضلا عن مثقفيهم، تفوق هؤلاء لم يكن بمحض الصدفة، بل بعد جهد جهيد ومخططات رسموها لأنفسهم حتى تمكنوا وبلغوا غايتهم، فأصبحوا يمثلون صلة الوصل بين الحاكم والشعب عن طريق تحكمهم في دواليب السلطة وامتلاكهم لأهم المعلومات الأمنية التي تمثل الوتر الحساس للبلد، في المقابل ، هابهم الشعب فاستحكمت هيبتهم في قلوبهم واعتاد كبار الساسة ورجال الدولة اللجوء اليهم قصد فض نزاعاتهم باعتبار وزنهم داخل دار المخزن، أضف إلى ذالك ارتباط كل فشل أو نجاح بأسماءهم، وتحميلهم مسؤولية أي خطإ قد ينعكس سلبا على المغاربة ،ورغم اختلاف طرائق تدبيرهم للحكم فإنهم بالكاد يجتمعون في أمر محوري؛ هو استحالة بلوغهم مرتبة الملك أو السلطان ،حيث ظل هذان الأخيران يعتليان قمة هرم الحكم في المغرب ،فلا يعلوا عليهما أحد من خدمهم ولو كان أخا محبوبا أو ابنا مقربا. لكن ! وبما أن لكل قاعدة استثناء، فإن رجلا من رجالات المخزن خرق هذه القاعدة وشكل استثناء ظل محل استفهام واستغراب على مر فترة حكمه، بل لا يزال إلى الآن ،نصب ملِكه بنفسه، تكفل بتربيته ، واستأثربحكم البلاد من شمالها إلى جنوبها بقبضة من حديد؛ إنه أحمد بن موسى الملقب ب « با احماد »، أو « ميكيافيلي العرب » كما يحلوا للبعض أن يسميه . من هو با احماد؟ كيف وصل إلى الحكم؟ وكيف ناضل من أجل تنصيب المولى عبد العزيز سلطانا على المغرب رغما عن محمد بن الحسن وآل الجامعي؟ وماطبيعة علاقته بعائلة آل الجامعي التي كانت تطمح لاحتكار الحكم؟ هذه قصة ملك غير متوج تمكن من مفاصل السلطة وحكم المغرب يوما كان فيه ملكه منشغلا بألعابه، بعد وفاة والده، أبا عمران موسى بن أحمد بن مبارك الذي كان يجمع وظيفتي الحاجب والصدر الأعظم ، في مراكش جراء إصابته بوباء « التيفوئيد » الذي أناخ كلله بالمغرب مطلع عام 1879، إعتقد با احماد أنه سيخلف الأب في المنصبين معاً. غير أن قدره سبق فعله فحال دون ذالك وتبددت أحلامه في تركيز السلطة بين يديه. فقد فضل السلطان الحسن الأول حينها تقسيم الوظيفتين جاعلا با حماد حاجبا، معينا محمد بن العربي الجامعي صدرا أعظما، ورغم عدم رضى ابن المتوفي إلا أنه سيستفيد من منصبه كثيرا مستقبلا، إذ خول له امتياز الاقتراب المستمر من السلطان عبد العزيز. هذا الأخير الذي سيجعل منه صدرا أعظما له فيما بعد، عقب إيثار المولى الحسن الأول محمد بن العربي بن المختار الجامعي لتعيينه صدره الأعظم ، انتقل المنصب بعده إلى أخيه المعطي الجامعي… الأمر الذي حز كثيرا في نفس باحماد ، ابن الرجل الذي ظل سدا منيعا في وجه الجوامعية فحال بينهم والوصول الى السلطة لسنوات عديدة، هذا التفضيل طبعا لم يأت عبثا وإنما كان مبنيا على أساس علاقة المصاهرة التي جمعت بين السلطان الحسن الأول وآل الجامعي. إذن هو تفهافت حول السلطة وصراع محتدم خلف كواليس دار المخزن سيفرز فيما بعد نتائج لو علمها أصحابها من قبل لفروا من الحكم فرارهم من الموت… اعتمد با احمد على مساندة والدة السلطان السيدة رقية لأنه كان الخادم الوفي لزوجها ونفذ رغبته في تولية ابنه العرش بعد وفاته، وظل هدفه الدائم أن يحافظ على حالة الاستقرار، وهو ما كانت تحرص عليه والدة المولى عبد العزيز والمولى عبد الحفيظ ، وهي سيدة تركية اسمها رقية ، تم جلبها من القسطنطينية إلى المغرب، عرفت بذكائها وقوة شخصيتها . يقول الكاتب الإنجليزي « والتر هاريس » أنها لعبت دورا سياسيا في البلاد ولم تتردد في توجيه النصائح إلى زوجها بخصوص شؤون الدولة. على أي حال، كان من الواضح أن تأثيرها على الخصوم مكنها من بسط نفوذها على السلطان إلى أن توفي، وضمنت بالتالي تولي ابنها العرش . ورغم منصبه المتواضع استطاع بااحماد أن يستغله أحسن استغلال ،فحافظ على بعض النفوذ، وسعى في سبيل كسب ود أطراف ستساعده في الإطاحة بآل الجامعي واستعادة زمام الحكم. و نفس الدور الذي اضطلع به الأب موسى بن أحمد في تسهيل عملية انتقال الحكم سيلعبه الابن بعد وفاة الحسن الأول لضمان انتقال العرش بسلاسة إلى المولى عبد العزيز الذي سيجعل منه صدره الأعظم. من الحجابة إلى الصدارة بعد تولي السلطان الحسن الأول الحكم خلفا لوالده محمد الرابع، في مرحلة سيطر فيها الأوربيون على مالية المغرب وتونس ومصر عبر تكبيلهم بقروض ثقيلة، حاول التخفيف من أثر ذلك على الدولة من خلال نهج سياسة التقشف. هذا السلطان الذي عقد في عهده مؤتمر مدريد عام 1880 حيث تم الاعتراف بعدم تبعية المغرب لأية قوة أجنبية، مع حصول أكثر من ثلاثة عشر دولة أجنبية على امتيازات كبيرة داخل المغرب، واجه تمرد القبائل وحاول بسط سيادة الدولة على جميع المناطق، فكان يخرج في حملات عسكرية لمحاربة القبائل المتمردة. وفي عام 1894 خرج في حملة للقضاء على القبائل الثائرة بجبال الأطلس، رفقة حاجبه المقرب، أحمد بن موسى، فحدث ما يرويه الكاتب لويس أرنو، الذي عاصر تلك المرحلة، في كتابه «زمن المحلات السلطانية» « إن السلطان أقام في خيام نصبت خلال حملته العسكرية في جبال الأطلس، وذات يوم سقط مغمى عليه، فحملوه إلى داخل الخيمة حيث توفي، ومباشرة بعد ذلك جمع باحماد، وكان داهية، جميع الوزراء الذي كانوا حاضرين وأخبرهم بوفاة السلطان ووصيته بأن يولى بعده المولى عبد العزيز، وأمرهم بكتمان الخبر إلى أن يعودوا إلى العاصمة، وحذرهم من أنه في حال علمت القبائل بوفاة السلطان فإنها ستهجم على الركب. وفي صباح اليوم التالي، خرج المعسكر مبكرا عائدا إلى الرباط، ووضع السلطان، ميتا، في مركبه فوق حصانه جالسا كأنه حي، لا يرى منه إلا جانب من وجهه خلف الستار، فكان الجميع يتصرف وكأن السلطان حي، وبين الحين والآخر يدخل باحماد رأسه خلف الستار ويتصنع بأنه يتحدث إلى السلطان وبأنه يأخذ منه الأوامر، ثم يوزع الأوامر في الحاضرين، إلى أن وصل المعسكر إلى الرباط، حيث تم فتح ثغرة في سور القصر لإدخال جثة السلطان التي تعرضت للتلف بعد أسبوع من السفر، وذلك لأن العادة جرت على ألا تدخل جنازة الميت من نفس الباب الذي يدخل منه الأحياء ». وفاة المولى الحسن شكلت مرحلة جديدة في تلك الفترة ، وأفرزت فريقين متضادين : من يدعم تنصيب محمد بن الحسن خلفا له، ومن يدافع عن توريث المولى عبد العزيز ، لذا، نشب صراع كبير بين الجوامعية الذين دعموا الإبن الأكبر محمد بن الحسن، والحاجب بااحماد ؛ الرجل الذي قاتل باستماتة من أجل تنفيذ وصية الحسن الأول بتوريث العرش ابنه عبد العزيز، وبعد مد وجزر ومكايد ومؤامرات بين الفريقين استطاع الحاجب القوي البرهنة على قوة نفوذه وفعالية قوته فنفذ قراره التاريخي بتعيين شاب مراهق على العرش، حتى علماء الإسلام لم يقدروا على الاعتراض رغم أن التعيين يتنافى ومبادئ البيعة وفق المفهوم الملكي للسلطة الذي يمنح الابن البكر أحقية العرش، كما يتناقض وأسس الإسلام المتمثلة في ضرورة توفر شرطي البلوغ والرشد لتولي الحاكم. لكن ،ومع الخطوة الكبيرة التي قام بها تمهيدا للاطاحة بآل الجامعي والظفر بالصدارة العظمى ، فقد ظل بااحماد يشغل منصب الحجابة ، فيما احتفظ محمد بن العربي بن المختار الجامعي بمنصب الصدر الأعظم، وفي الوقت الذي بدأ فيه الأخوان الجامعي يدركان أن البساط يسحب من تحت أقدامهما سارعا لتدبير مصيدة تقضي على شبح نكد عليهما رغد العيش، غير أن بااحماد لم يكن اقل فطنة، إذ استشعر خطة آل الجامعي ونصب هو الآخر كمينا أطاح الخصوم قبل أن يطيحوا به. فبعد مبايعته في الرباط و ضمانه ولاء رجال الدين والأرستقراطيين بفاس وتثبيت إقامته بمدينتهم ، غادر المولى عبد العزيز الرباط صوب فاس؛ التي كانت بمثابة مركز ديني وجامعي وبها كانت تحاك المؤامرات، إضافة إلى النفوذ الكبير الذي كانت تمارسه ساكنتها على باقي القبائل ، وهناك حشد آل الجامعي أنصارهم كما تقول بعض الروايات التاريخية، للتنكيل ببااحماد وإجهاض عملية تنصيب المولى عبد العزيز،، غير أن بااحماد كان له رأي آخر؛ فقد اتفق مع آل البخاري، الأسرة العريقة التي تصارعت فيما مضى من أجل الظفر بالمناصب في دار المخزن، وعوض انتظار وصول فاس وملاقاة مصير معلوم، سابق بااحماد الزمن وقرر التوقف في مدينة مكناس، حيث حاكم من آل البخاري، موال له ، وهناك كانت المفاجئة. يصف والتر هاريس المشهد بدقة متناهية فيحكي » نجحت لقاءاته مع قبائل مكناس في الهدف المرسوم لها. لقد استقبله سكان مكناس بحفاوة في المدينة التي بناها مولاي اسماعيل في عهد لويس الرابع عشر، وفاس لم تعد تبعد سوى ب 32 ميلا وأصبحت أقرب الآن. استوعب با احماد ظروف هذا الوضع بشكل جيد لأنه يعلم أن نفوذه سيتقلص بمجرد أن يضع قدميه في فاس. وفي وقت يعتمد خصومه على سكان فاس وأقارب السلطان الذين يعيشون في العاصمة، يجد با احماد نفسه وحيدا لأن الفاسيين هم من جلبوه إلى القصر ويتحينون الفرصة للإيقاع به، مما يعني أن الوقت حان لاتخاذ قرارات حاسمة. لا أحد كان بإمكانه توقع موعد العاصفة، والأخوان الجامعي ينتظران بلا شك وصوله إلى فاس ليحيكا المؤامرات ضده، بينما يبدي با احماد اللباقة أمام الوزيرين القويين. بعد أيام من وصولهما إلى مكناس، بدأت الاستعدادات لعقد الاجتماع الصباحي مثلما جرت العادة. دخل الوزير الحاج المعطي إلى القاعة بجلبابه الأبيض وسط صف الخدم والفرق التي حيت قدومه. كان السلطان مولاي عبد العزيز وحيدا مع حاجبه با احمد عندما دخل الوزير وانحنى أمامه منتظرا أن يعطيه السلطان فرصة الحديث. بنبرة باردة، طرح مولاي عبد العزيز سؤالا على الوزير ولا يبدو أن الجواب الذي حصل عليه قد أعجبه ليتطور المشهد بعدها على نحو مثير.. انبرى الحاجب با احماد لمهاجمة الوزير الحاج المعطي وتوبيخه واتهامه بخيانة الأمانة وفساد الذمة وبارتكابه جرائم سياسية، وفجأة استدار وطلب من السلطان أن يقوم بتوقيف الوزير، وأومأ إليه مولاي عبد العزيز بالموافقة على ما قاله. بعد لحظات، ظهر رجل في وضعية مؤثرة للغاية وهو يبكي يجره الحرس وسط سخرية من كان حاضرا في المكان. تمزقت ملابسه بعد أن جره الجنود بعنف، وتجريده من «الرزة» التي كان يضعها على رأسه. لم يستحمل الوزير الأكبر متابعة ما يتعرض له شقيقه الوزير محمد الصغير الذي تم إلقاء القبض عليه قبل أن يهم بمغادرة بيته ولم يبد أية مقاومة وتم اقتياده بعدها إلى السجن. تتمة هذه القصة قد تكون ربما أكثر الصفحات سوداوية في فترة حكم السلطان عبد العزيز، حيث تم إيداع الوزيرين السابقين معا بسجن تطوان وتكبيلهما بالسلاسل داخل الزنزانة، ليفارق الحاج المعطي الحياة بعد عشر سنوات… » هكذا بدل أن يبتلع بااحماد الطعم الذي وضعه له آل الجامعي بفاس،بدد أحلام الجوامعية في مكناس وقضى على مستقبلهم، ليشغل بعدها منصب الصدر الأعظم، فيتحكم في البلاد والعباد ، ويزج بالمغرب في دوامة من الأحداث المثيرة التي تناسلت عقب موته. لم يطل مكوث السلطان عبد العزيز بفاس طويلا ، فانتقل إلى الجنوب لتدعيم ركائز حكمه في تلك المناطق، التي كانت تشهد ثورات ونزاعات مسلحة.. استطاع قدوم السلطان أن يهدأ من وطأة النزاعات التي خفت عن ذي قبل. قصر بأموال الشعب بعد استثباب الأمن في المناطق ، انصرف بااحماد إلى بناء قصر فاخر للسلطان عبد العزيز، شارك في تشييده وزخرفته ثلة من أمهر الحرفيين والصناع التقليديين في البلد، ليشكل بعدها محط انبهار لدى الأجانب ومعلمة تاريخية لا تزال شاهدة على الأحداث إلى اليوم ، يصف هاريس جمال قصر الباهية قائلا » وتكلف با حماد بعقد المصالحة بين القبائل الغاضبة والتحضير، بأموال الشعب، لبناء قصر فخم للسلطان. لم تتوقف أشغال البناء طيلة ست سنوات، وانهمك أمهر الصناع والحرفيين القادمين من مدن مغربية متعددة في تشييده وبنائه، لتكون النتيجة قصرا رائعا تستخدمه الإقامة الفرنسية كمقر خاص بها. أطلق على القصر اسم «الباهية» والتي تعني «المتألقة» و«الجميلة» وضم غرفا وقاعات متجاورة مزينة بأشجار الليمون والصنوبر والأروقة التي تعلوها أفاريز خشبية مزخرفة بألوان زاهية بمواد طبيعية. ساحة القصر يتداخل فيها الزليج والرخام وتحيط بها أربع قاعات كبيرة بالأروقة والأقواس. يمتد «الباهية» على مساحة واسعة وكرس أهميته بالطريقة العصرية التي طبعت بناءه. أهم قاعات قصر الباهية هي القاعة الشمالية، وهي من أكبر قاعات القصر حيطانها مكسوة إلى النصف بالزليج، ونوافذها مفتوحة على الحديقة الأندلسية دائمة الاخضرار، وتعلوها أعمدة من الجبص، وسقف خشبي بألواح مزخرفة ذات طابع إيطالي. في آخر زيارة لي إلى قصر الباهية بمراكش، رافقني أحد أبناء المدينة للقيام بجولة داخل القصر، واستفدت كثيرا من الشروحات التي قدم لي بعد أن علمت أنه عمل في ورشات بنائه ويعرف كل زواياه وأركانه. كنت قد زرته قبل ذلك بعد أن تلقيت دعوتين من الحاجب باحماد لتناول مأدبة عشاء معه، ومازالت تلك الليالي ماثلة في ذهني وأنا أتذكر عبق الياسمين الذي كان يعطر الأجواء والحدائق الخضراء اليانعة في فصل الربيع. وعندما توضع موائد الأكل الشهية، تعزف الفرق الموسيقية أغان مغربية بشكل عذب يتناهى من البهو المجاور لقاعة الأكل… » سلطان منغمس في اللهو في الوقت الذي انهمك فيه بااحماد في تسيير شؤون البلاد وإخماد الفتن التي تشتعل على حين غرة هنا وهناك ، كان السلطان عبد العزيز منشغلا بعالم الألعاب يقول كابرييل فيير: «كان ثملا من الفرحة، فظل طوال فترة بعد الزوال يتسلى بتلك اللعبة الجديدة، ( يقصد سيارة ثلاثية العجلات بمحرك ميكانيكي) يقودها، ويدور بها حول نفسه، ويتنقل في كل الاتجاهات وسط البلاط، ثم أقبل الليل، والسلطان لم يشف بعد غليله من تلك الآلة، ولذلك أمر ثلاثين عبدا أسود ليحملوا فوانيس وشموعا يضيئون له بها سبيله في ذلك السباق المجنون، وظل كذلك إلى أن تملكه الإعياء، وألزمه بأن يتخلى عن تلك الآلة ويدخل إلى غرف القصر». ولع السلطان بالسيارات ذات المحرك، جعله لا يكتفي بواحدة، فأمر بشراء أربع اختارهن من كتاب إشهار مصور، من بينهن سيارة كانت تقودها ملكة فرنسا، ماري أونطوانيت. وبلغ ولع المولى عبد العزيز بالسيارات حدودا لا توصف بالرغم مما جنته عليه من غضب العلماء، الذين عابوا عليه انسياقه وراء مخترعات الأوربيين التي كانوا يعتبرونها تُلهي السلطان عن واجباته والتزاماته أمام الرعية. لقد تمادى السلطان المولى عبد العزيز في انخراطه الأوربي إلى حد أنه كان يغامر بسمعته وعرشه في سبيل استعادته لحريته في الحركة والفعل، ففي يوم كان مستقرا فيه بفاس بقصره الصيفي بمنطقة فاس البالي بينما نساؤه بقصره الشتوي، أراد السلطان أن يرافقنه ليستمتعن بمشاهدة ألعابه، فقام رفقة صديقه الفرنسي كابرييل فيير بحملهن في سيارتين يسوقها كل واحد منهما وبرفقته اثنتان من زوجات السلطان، ولكثرتهن ولتخوف المولى عبد العزيز من رد فعل أهل فاس، كانا يقومان بالعملية في الواحدة ليلا ولمدة أسبوع كامل، فيما النساء يعدن في النهاية على ظهور البغال إلى قصرهن. ، منبهرا بوسائل اللهو الحديثة التي يصنعها الأوربيون ، وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى سنه ،فهو ككل الأقران يحب اللعب ويميل إلى اكتشاف كل ما هو جديد وفريد ، هذا الجانب الطاغي على شخصية السلطان استغله بعض وزراءه فيما بعد للإطاحة به ، فسلكوا جميع الطرق ، ونقبوا في شتى البلاد وخارجها للبحث عن شىء يستهوي عبد العزيز ويستميل قلبه ، وفي هذا قصة طريفة يرويها هاريس ، يقول فيها « فكر وزراء السلطان الشاب مولاي عبد العزيز في إيجاد صيغة توفر لهم هامشا من الحرية في تسيير شؤون الدولة وتقليص نفوذ الملك. لتحقيق هذا المسعى، كان من الضروري إيجاد شيء يشغل بال الملك عديم التجربة الذي ظل بعيدا عن تسيير المجلس الوزاري، مما يعني الخروج عن العادات المغربية، ولم يعش أي سلطان من قبل هذا الوضع الاستثنائي. أدرك الوزراء أن نفوذهم لا يتمثل فقط في حبس الملك داخل القصر لأنه قادر على الثورة على عزلته، وقد يلقي عليهم القبض ويعذبهم. سحبوا إذن هذا السيناريو من مخططهم، وأجمعوا على أن السلطان بحاجة إلى ترفيه بشكل يجعله يصرف الاهتمام عن تسيير البلاد. المغرب لوحده غير قادر على توفير كل مصادر الترفيه الضرورية، وكل ما يمكن أن يرفه عن السلطان موجود في البلاد، فلديه النساء والمجوهرات والأحصنة وكل ما يحصل عليه أي سلطان شرقي. وللحصول على أشياء أكثر أناقة، كان من الضروري التواصل مع الأوروبيين للحصول عليها، وكان الأمر مقصودا لأنها كانت بداية السقوط. خطوة كهذه تعني تراكم الديون الخارجية وجر المغرب شيئا فشيئا إلى فقدان استقلاله. كان وجود مستشار كفء كفيلا بتجنيب المغرب هذا السيناريو، لأن عبد العزيز يفتقر إلى ملكات حكم وتسيير البلاد ولم تكن لديه الرغبة في الحكم رغم أنه كان ذكيا وذا تفكير عميق ويحب أن يتقن كل ما يقوم به. لم يكن إذن من السهل أن يتم تمديد التسلية التي ظل يتمتع بها السلطان بمدينة مراكش، البعيدة عن طنجة بمائة ميل، وتواصلها مع أوروبا كان بطيئا مما يجعل البضائع والشحنات تصل متأخرة نظرا لطول المسافة. وفي بعض الأحيان تجبر العواصف الأطلسية السفن على تأخير رحلاتها لعدة أسابيع. حققت مصادر اللهو الهدف المرجو منها وبدأ التفكير في وسائل لهو جديدة، بعد أن استمتع السلطان بالألعاب النارية والدراجات وكاميرات التصوير. في تلك الأثناء، تواردت أنباء عن وصول سيرك إلى أحد الموانئ المغربية الصغيرة، وهو ما يعني أنه ليس سوى سيرك أوربي بئيس، لكنه حظي باستقبال شعبي كبير كما لو أنه السيرك الشهير «بارنوم». بعث خدام القصر رسائل ملكية إلى القياد والولاة لدعوة السيرك، وقطع «الرقاصون» من كافة الاتجاهات مئات الأميال، ليتم استقدام السيرك ببضائعه وممثليه الاثني عشر وخيوله قاطعين السهول والتلال استجابة للدعوة الملكية. وكثر الحديث في البلاد عن وصول هذا السيرك واستأثر باهتمام الناس. تركز الاهتمام على هؤلاء الضيوف وتحولت صراعات القبائل وتربص القوى الأوروبية بالمغرب إلى مسائل تحتل المستوى الثاني من اهتمام القصر. كانت صاحبة السيرك سيدة إسبانية شديدة البدانة وضخمة الجثة، ويبدو من الصعب التكهن بسنها، وتثاقلت خطوات البغلة التي كانت تحملها وتحملت عناء هذه الرحلة الطويلة المتعبة. لم يكن لهذه السيدة أي حضور في العروض التي قدمتها المجموعة، ولهذا السبب منعها الحراس من الدخول إلى القصر، واستشاطت غضبا فور سماعها بقرار منعها مرافقة الفرقة لتقديم العروض أمام السلطان. واقتضت أوامر صاحب الجلالة على أن الدخول مقتصر فقط على الممثلين دون سواهم. وتنفيذا لهذا الأمر، بقيت السيدة البدينة واثنان من عمال السيرك خارج الجهة المقابلة التي كان يجلس فيها السلطان في خيمته الواسعة ليشاهد العروض، ويفصل بينهما حائط ارتفاعه عشرون قدما. تناثرت الحجارة المستخدمة في إصلاح مرافق القصر وبقايا مواد البناء في المكان الذي كانت تجلس فيه السيدة الاسبانية، وناهز ارتفاعها وهي مكدسة الجدار الفاصل بين الساحتين. مع مرور الوقت وتزايد حنق السيدة، بدأ الملل يتسلل إليها رغم أنها لم تتوقف عن مشاهدة مجموعة من الغزلان وقطيعا من الماعز البري وهي تسير في الحديقة. لم تتحمل صاحبة السيرك أن تقطع كل هذه المسافة وتتحمل كل المشاق لكي يتم منعها في النهاية من مشاهدة العروض في حضور السلطان، لتخطر فجأة ببالها فكرة تكديس الحجارة ومواد البناء أمام الحائط. كان الأمر شاقا عليها لأنها لم تتعود على القيام بهذا الجهد، لكنها تلقت مساعدة لم تكن تتوقعها.. علا توترها بسبب بطء ما كانت تقوم به، ليقفز إلى جانبها أيل ذكر، استدرجته بهدوء نحوها ودفعته في مواجهة الجدار ليساعدها على تسلقه. في الجهة المقابلة من الجدار، ظل السلطان مستمتعا بالعروض المقدمة أمامه، وفجأة تغيرت ملامحه دون أن ينبس بأي كلمة وعيناه مصوبتان نحو الحائط الممتد أمامه.. ظهر وجه السيدة الاسبانية البدينة على الحائط وملامح الغضب والحنق بادية عليه، وبدأت تتفرس في السلطان بفضول وهو جالس في خيمته. عندها تحرك الحرس المرافق للملك ولوحوا إليها بأيديهم أن تختفي وترحل عن المكان، وهو ما لم يحصل إذ ظهر الجزء العلوي من جسدها بعد أن رفعها الأيل بقرنه أكثر على الجدار. وأخيرا ظهرت السيدة على الحائط متمسكة به بشدة وهي تسعى بكل قواها للتشبث به لتحمي نفسها من السقوط قبل أن تهوي إلى الأرض.. عندها ظهر الأيل وقفز أمام الخيمة متجاوزا الجدار، واستدار لينطح صاحبة السيرك الاسبانية وتسقط بعيدا على مسافة متر ونصف، ليتحول المكان إذ ذاك إلى ساحة من الفوضى.. حاول الوزراء أن يجبروا الاسبانية على الاختفاء من المكان، وهو ما كانت المسكينة تسعى إليه أيضا، وظل السلطان صامتا ومستمتعا بالجلبة التي عمت المكان، فيما فطن العبيد إلى فكرة إبعاد الأيل القوي برميه بالحجارة لكي يغادر الساحة… » رحيل بااحماد إذا كان بااحماد قد شكل استثناء بين الذين ملكوا مفاتيح دار المخزن على مر تاريخ المغرب، فإنه لم يشكل استثناء لسنة الحياة التي لا تحابي أحدا، وككل بشر ، جميع البشر، أسلم الحاجب الوزير ابن الحاجب الوزير روحه إلى بارءها تاركا هم السلطة والحكم للسلطان عبد العزيز الذي شكل له موت رجل كان بمثابة الذرع الواقي له تحديا كبيرا في مراحل الحكم المقبلة. ورغم عدم اعتراض أحد عليه ، فالظاهر أن لا أحد من الناس كان يحب بااحماد، ربما لقسوته في التعامل، أو لغلظته في طريقة إدارة الحكم ، الجميع كان يخشى سطوته، ونفوذه ظل من الصعب السيطرة عليه، كما أحاط نفسه بهالة من الاحترام المرعب سرعان ما اختفى عندما أقعده المرض وقضى عليه ، لم يكترث له الناس وهو على فراش الموت ، يتناول جرعات من الأوكسجين باستمرار ، استولى السلطان على عبيده وخدمه وضم ثروته وممتلكاته ، لتتهافت نساء القصر على نهب الأحجار الكريمة والمجوهرات . ولا أحد أفضل من هاريس ليسرد المشهد » بعد أن لفظ نفسه الأخير، ظهرت الأحاسيس الحقيقية التي كان يخفيها المقربون منه وهي مزيج من الكراهية والبغض.. لطالما شكلت وفاة شخصية رسمية في المغرب حدثا مأساويا، وبمجرد الإعلان عن خبر احتضار الوزير، اصطفت قوات الحرس خارج القصر، وساد جو من الصمت المطلق. وأخيرا، انطلقت ذات صباح صيحات النساء معلنة خبر الوفاة المنتظرة. أغلق الحراس جميع أبواب القصر، ولم يسمحوا لأحد بالدخول أو الخروج، وداخل القصر، بدأت «الشياطين» بالتحرك. استولى العبيد على كل ما وجدته أيديهم من ممتلكات الحاجب باحماد، ونشبت الصراعات بين النساء لنهب المجوهرات والظفر بمقتنياته. تم تكسير الخزائن الحديدية وسرقة الوثائق وأصول الممتلكات التي كانت بداخلها، والاستيلاء على الأحجار الكريمة من أماكنها لكي يسهل بيعها بعد ذلك، وتعرض البعض للقتل جراء هذه الحملة الشرسة. وفي الوقت الذي استمرت فيه عملية سرقة ما تركه باحماد داخل أسوار القصر الحصين، انطلقت طقوس الدفن ولاحظ المشيعون دموع السلطان الذي كان يبكي على رحيل الشخص الذي وضعه على العرش ووقف إلى جانبه في الساعات الصعبة عندما لم يجد الدعم. وقبل أن تجف دموع السلطان عبد العزيز، عاد إلى القصر وكان أول قرار أصدره هو ظهير مصادرة جميع أملاك الحاجب باحماد، ليتحول الأمر إلى نهب منظم، وأرسل القصر العبيد والحرس لتطبيق مقتضيات هذا القرار الملكي. بعد عدة أيام، صودرت البهائم وقطيع الماشية والأسرة القطنية والأثاث والزرابي التي كانت في السابق في ملكية مدير التشريفات الملكية لتصبح في ملك السلطان. أجبر عبيد وزوجات باحماد على التخلي عن الممتلكات الخاصة بهم وتركوا منازلهم التي أوصدت أبوابها وأضحت فارغة من أهلها. أياما بعد ذلك، لم تتبق سوى جدران البيت الكبير للعائلة التي تشتت أفرادها وعانوا من الجوع والفقر، واستولى السلطان على عبيده لخدمته في القصر وعرض آخرون للبيع، فيما انتقلت الأراضي الواسعة إلى ملكية الدولة، وكانت هذه هي العادة في البلد إذ تتحول أملاك كبار الدولة بعد وفاتهم إلى السلطان. كنت أرى بين الحين والآخر أبناء باحماد وهم يعانون الفقر ويقبلون بعرفان كبير المبالغ المالية الصغيرة التي يرفض تسلمها خادم صغير في انجلترا. غيرت وفاة باحماد من خريطة السلطة في المغرب، وسادت الغيرة بين الوزراء الذين فهموا أنه قد حان الوقت للقيام بخطوة نحو الأمام لحماية مصالحهم وحماية مصالح الوزارة من أطماع المتربصين بها. كان أمامهم خياران: الاختيار بين الإذعان والرضوخ للغير أو الانتصار على الخصوم. كان السلطان يبلغ من العمر وقتها عشرين سنة وتهيأت له الفرصة للإمساك بدواليب الحكم مجتمعة في يده، لكن تحمل سلطان شاب لأمور البلاد في ذلك الوقت كان أمرا محفوفا بالخطر، واعتقد الوزراء أن مولاي عبد العزيز سيكون مستقلا أكثر في تسيير شؤون البلاد وإيجاد صيغة تسمح بمراقبة أفكاره وأفعاله ». قالوا عن بااحماد كثيرة هي الروايات التي وصفت الرجل الأول في عهد المولى عبد العزيز ، ورغم اختلافها في تقييم شخصيته وسلوكه إلا أنها تتقاطع في نقطة مهمة متمثلة في كونه الحاكم الفعلي في عهده المتحكم في مفاصل السلطة ، الآمر والناهي الذي لا يوقفه أحد . يقول الصحفي الإنجليزي والتر هاريس الذي عاصر با احماد والتقاه « طيلة وجود باحماد على رأس إدارة التشريفات الملكية، ظل الملك الشاب داخل قصره، ورغم ظهوره في الاحتفالات والمناسبات الدينية أمام المغاربة، إلا أنه نظريا لم يكن حضوره قويا لأن باحماد هو من كان يحكم لوحده البلاد فعليا » ويقول غابرييل فيل في كتابه «في صحبة السلطان» : »وتم تنصيب المولى عبد العزيز، الذي كان صغير السن، حيث ظل باحماد يسيطر على الحكم لمدة عشر سنوات، وحول السلطان إلى لعبة أو دمية بين يديه ». وهذا مصطفى الشابي يقول عنه: «وُصف ابا حماد بالحرص على العبادة، كما وصف ونعت سلوكه أحيانا ب «الميكيافيلية»، واعترف له الجميع بالخبرة الواسعة في تدبير شؤون الحكم وبالتكتم في القرارات والمهارة في استغلال التنافس بين القبائل والتنظيمات الدينية. وكان شغوفا بممارسة الحكم، حريصا على ضمان تأييد الأعيان في المدن وخاصة العلماء في كل من فاسومراكشومكناس»، و يضيف: «كان قاسيا لا يعرف الشفقة بأحد إذا هُددت مصالح الدولة، وكان بالرغم من نوازعه الشخصية رجل دولة مرموقا، اجتهد طيلة حياته في صون استقلال بلاده الذي بات مهددا بعد وفاة السلطان مولاي الحسن». أما أحمد التوفيق فكتب: «ومهما يكن اختلاف المؤرخين حول أوصاف هذا الوزير وحول تقدير دوره في الأحداث، فإنهم كادوا يجمعون على اعتبار عهد وزارته، مع ما ميزها من الاستبداد، عهد استمرار لهيبة السلطة المخزنية كما كانت في عهد السلطان مولاي الحسن وقد انتقد على الخصوص لكونه أبعد عددا من الرجال عن دواليب المخزن وخلق فراغا انقضت بسببه عدد من قواعد المخزن بعد موته، لربما أفسد إلى حد ما شؤون العمال وبالتالي الرعية بابتزازه حتى إن الناس ظلوا أجيالا بعده يضربون المثل بمال ابا احماد كما يذكرون مال قارون…».