بعد الإعلان عن التشكيلة الحكومية الجديدة، يحاول بنكيران، ضمنيا، الظهور بمظهر القائد السياسي الذي تصرف بشكل طبيعي ووفق المألوف وطبقا للقواعد المعمول بها في مثل هذه الحالات وحسب الأصول المعتمدة في مثل هذه الظروف؛ ويحاول بنكيران الإيحاء بأن أي شخص عاقل وُجِدَ في رئاسة حزب له مشروع إصلاحي وله حرص على مصلحة البلاد واستقرارها كان سيتصرف بالطريقة ذاتها التي تصرف بها بنكيران وسيركب الطريق الوحيد والأوحد الذي سلكه بنكيران، كأمين عام لحزب العدالة والتنمية؛ بمعنى أن الحزب، خلال هذه المرحلة السياسية بأكملها، لم يكن أمامه خيار آخر ولم يتوفر له بديل جدي آخر، فهل هذا صحيح؟ حين نتأمل مواقف حزب العدالة والتنمية، بقيادة بنكيران، منذ انطلاق حركة 20 فبراير، نلاحظ أن هذه المواقف تبدو "منطقية"، حقا، إذا سلمنا مسبقا بجدوى وسلامة المنطلق الأصلي الذي استندت إليه، وهكذا :
- قدم الحزب نفسه إلى الناس باعتباره حاملا لرسالة التغيير والإصلاح وقادرا على قطع دابر الفساد وفتح مسالك التقدم والنماء والعدالة الاجتماعية، وباعتباره البديل عن المشاريع الحزبية التي أبانت عن فشلها في التدبير الحكومي، وباعتباره الأكثر أهلية لقيادة الإصلاح بحكم ارتباطه العميق بهوية الشعب؛
- صادق الحزب على دستور 2011، مثل الأغلبية الساحقة للأحزاب السياسية. ولا أحد يمكن أن ينازع في كون هذا الدستور يمثل خطوة نوعية مهمة على مستوى التأهيل الديمقراطي للمغرب، ومن الطبيعي جدًا أن يعمل الحزب على استغلال هذه الفرصة لفتح أمل التغيير الأشمل في المستقبل؛
- شارك الحزب في انتخابات 25 نونبر 2011، مثل الأغلبية الساحقة للأحزاب السياسية، استنادا إلى مقاربة التغيير التدريجي السلمي من الداخل، التي تمثل أساس ما يُعرف باستراتيجية النضال الديمقراطي؛
- فاز الحزب بالمرتبة الأولى في الانتخابات وبوأته إرادة الصناديق مكانة متميزة في المشهد السياسي، الأمر الذي يترجم الرغبة العميقة في التغيير لدى فئات واسعة من الشعب ويُحَمِّلُ الحزب مسؤولية التجاوب مع هذه الرغبة وعدم رفض هذه "الهدية" المستحقة؛
- جرى تعيين ذ.عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة بناء على"المنهجية الديمقراطية" التي طالبت مختلف القوى السياسية بدسترتها، والتي وردت في دستور صادق عليه الشعب المغربي بأغلبية ساحقة. والتعيين المُشار إليه يقتضي أن يبذل رئيس الحكومة المعين مساعيه لتشكيل أغلبية. وقد اختار هذا الرئيس أن يتوجه، أَوَّلاً بحكم المنطق السياسي، إلى القوى التي يعتبرها الأقرب إليه، مثل حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، وبالتالي كان يأمل في قيام ما يشبه "التحالف التاريخي" بين الصف الإسلامي وصف الكتلة الديمقراطية، ولكن رفض الاتحاد الاشتراكي هو الذي دفع بنكيران إلى البحث عن حليف آخر من صف "الأحزاب الإدارية"؛
- خروج حزب الاستقلال، المفاجئ وغير المبرر (في نظر ح. ع. ت)، من الحكومة فرض البحث عن تعويض وزرائه بوزراء حزب آخر. الوافد الجديد يُفترض أنه قبل باستمرار تجربة يعرف أنها وعدت المغاربة بالإصلاح والتخليق. والانتخابات السابقة لأوانها ستكون مكلفة ماديا سياسيا، إذ ستُعتبر دليل أزمة وقد تطيح بالاستقرار، وليست هناك ضمانة بأنها ستسفر عن خريطة انتخابية مختلفة، وبالتالي قد يظل المشكل مطروحا؛
- التجمع الوطني للأحرار يدرك، اليوم، أنه يشارك في حكومة مختلفة، نوعيا، عن الحكومات التي شارك فيها سابقا، وتحت توجيه رئيس حكومة من طينة مختلفة عن طينة الوزراء الأولين السابقين، وفي ظل دستور جديد مختلف عن الدساتير السابقة، ومسؤولية مشاركته اليوم تفرض عليه، أخلاقيا، استيعاب متطلبات الوضع الجديد وتغيير خط سيره وملاءمته مع مسار التحول الجاري. وإذا حاد التجمع الوطني للأحرار عن هذا المسار الذي يزكيه الملك والشعب ولم يُبْدِ القدر المطلوب من التعاون، فلكل حادث حديث، وسيتخذ بنكيران ورفاقه ما يرونه مناسبًا من إجراءات، ولا يستطيع أحد أن يحملهم مسؤولية إفشال التحول الذي يبشر به الدستور الجديد؛
- وفي جميع الأحوال، وحتى إذا قُدِّرَ للإصلاح أن يتعثر، فإن وجود الإسلاميين في موقع الحكومة ورئاسة الحكومة هو خير للشعب المغربي من عدم وجودهم حيث هم الآن، لأنه يفوت على أعداء الديمقراطية والإصلاح فرصة احتلال ذلك الموقع لجر البلاد إلى الوراء والتسبب في المزيد من الويلات والكوارث وزرع اليأس. إن الموقع الحكومي يكفل للإسلاميين، على الأقل، فرصة مراقبة التدبير العام ومواكبة ما يجري وإسماع صوت الشعب داخل مؤسسات التدبير والتنفيذ ومواجهة خصوم الديمقراطية والإصلاح، عند الاقتضاء؛
- وأخيرًا، إذا كان تشبت إسلاميي العدالة والتنمية بالبقاء في الحكومة يتيح لهم قدرا من "حماية أنفسهم" أكبر من ذلك المُتاح لهم وهم خارج الحكومة، وماداموا يشخصون، في نظر أنفسهم، توجه الإصلاح، فإن ما يصب في مصلحتهم يصب في مصلحة المغاربة أيضا. هناك من له رغبة في توقيف تجارب الحكومات الإسلامية وإجهاض الربيع الديمقراطي، ولا يجب أن نقدم له الذرائع. الوضع المغربي والإقليمي صعب ودقيق، ويجب التصرف بأكبر قدر من الكياسة.
هذا التحليل، الذي عرضنا مرتكزاته، ينطوي على تغييب لجملة من الأسئلة والعناصر الجوهرية التي تفيد بأن حزبًا، في وزن العدالة والتنمية ويقول عن نفسه إنه يناضل من أجل بناء الديمقراطية وتصحيح الأوضاع، كان يمكن أن يلتمس طريقا آخر ويتصرف بشكل مختلف.
كان بإمكان حزب العدالة والتنمية، في نظرنا، أن يطور برنامجه على ضوء شعارات حركة 20 فبراير ويعزز شحنته الإصلاحية بطرح الجوانب المتعلقة بعلاقة السلطة بالمال، وبضرورة التزام كل المؤسسات بمقتضيات الحكامة الرشيدة، وبتجاوز التناقض القائم بين خطاب البرنامج الرسمي للحزب، من جهة، وخطاب الأمين العام وفتاوى (التجديد)، من جهة ثانية، وإزاحة عناصر الغموض في مقاربته لقضية الديمقراطية، وخاصة بصدد مقترحاته الخاصة بتوسيع دور العلماء وملاءمة القوانين للشريعة ومنح المحكمة الدستورية صلاحية مراقبة هذه الملاءمة ..الخ.
وكان بإمكان الحزب استغلال فرصة المراجعة الدستورية لفرض دستور مستوف لكل المتطلبات الديمقراطية. لم يكن بوسع النظام، في ظل الشروط السياسية التي كانت قائمة، أن يغامر بطرح النص على الاستفتاء بدون مصادقة الحزب. ولكن هذا الأخير اختار الاصطفاف إلى جانب أغلبية الأحزاب والاكتفاء باعتبار أن القليل من الديمقراطية يكفي، وهو كان يعلم بأن جمع الملك لرئاسة كل هذا الحشد من المؤسسات وتبعية مجلس الحكومة لمجلس الوزراء وتبعية الوزراء للملك وعدم كفاية ضمانات الحقوق..إلخ، عناصر تجعلنا بعيدين عن النموذج الكوني للديمقراطية.
إن تدخل الحزب لحذف حرية المعتقد من النص وعدم تنديده بالطريقة التي تَمَّ بها الاستفتاء، يعنيان أنه كان حريصا على بذل إشارة حسن النية التي تفتح له إمكان الوصول إلى الحكومة أكثر من حرصه على الديمقراطية في لحظة تاريخية فارقة لا يجود الزمان بمثلها إلا لمامًا.
إن الجو الذي جرى فيه الاستفتاء كان يدل على أن الإرادة الرسمية لم تكن منصرفة، في الأصل، إلى تدشين تغيير سياسي بل إلى إطفاء حريق، ولهذا لم يكن غريبًا أن يتم التملص، بعد ذلك، من المقتضيات الإيجابية المستجدة في الدستور ويكون الحزب أكبر ضحية لهذا التملص.
كان بإمكان حزب العدالة والتنمية أن يستثمر ظروف الحراك الشعبي ويعمل على جعل محطة اقتراع 25 نونبر مناسبة لانتخابات مُؤَسِّسَةٍ، وعلى عقد تحالف مع المكونات الديمقراطية في حركة 20 فبراير وصياغة برنامج مشترك معها وتعليق المشاركة في الانتخابات على حل المعضلات الأساسية للانتخابات المغربية بواسطة ضمان هيئة إشراف مستقلة، وضمان حصول رجة وطنية نوعية تصالح المغاربة مع مكاتب التصويت من جديد وضمان مشاركة القوى التي دأبت، تقليديًا، على المقاطعة، وضمان التسجيل التلقائي في اللوائح الانتخابية، وضمان حل مشكلة الأحزاب الإدارية ومشكلة التقطيع، وضمان الوسائل الفعالة لمحاربة استعمال المال ولربط القرار بصناديق الاقتراع..إلخ. مثل هذا التوجه كان يتطلب من حزب العدالة والتنمية أن يرفع تحفظاته على الديمقراطية، وأن ينظر بإيجابية إلى حركة 20 فبراير ويعزز مسارها، وأن يقبل دخول الانتخابات في إطار جبهة ديمقراطية مستقلة عن المخزن، وأن يلتزم باعتبار الوجه الوحيد للمشاركة الحكومية هو عبر هذه الجبهة نفسها بعد حصولها على الأغلبية. ألم يكن بإمكان حركة 20 فبراير، لو دُفعت إلى مداها الأبعد، أن تُحْدِثَ، مثلاً، ثورات داخل الأحزاب السياسية الوطنية وتفرز أجنحة وأنوية لتحالف ديمقراطي جديد وتفرض أجندة سياسية جديدة؟
لكن الحزب الإسلامي اختار التحالف مع النظام ضد حركة 20 فبراير مشككًا في نواياها، واختار دخول الحكومة من بوابة هذا التحالف وليس من بوابة 20 فبراير، وهو يؤدي اليوم ثمن اختياره.
قد يُقال إن استراتيجية الولوج إلى الموقع الحكومي من بوابة حركة 20 فبراير ومد خطوط الربط –المفتقد حاليًا- بين دينامية الشارع والدينامية المؤسسية والمراهنة على الاختراق المؤسسي الذي يستطيع عدد من التيارات السياسية والمدنية تحقيقه في سياق تحول نوعي للنضال الجماهيري، هي استراتيجية أقرب إلى الخيال العلمي وتفتقد الأسس الواقعية. لكن مثل هذا القول ينم عن عدم وعي بما حبلت به اللحظة النضالية "الربيعية" من إمكانات؛ ويكفي التذكير، هنا، بأن وجود حزب العدالة والتنمية، نفسه، في رئاسة الحكومة كان، قبل تلك اللحظة، يبدو مستحيلاً. صحيح أن نجاح "الطريق الآخر" ليس مضمونا بشكل مطلق، ولكن حزب العدالة والتنمية لم يبذل، منذ البداية، أية محاولة للسير فيه وفضل "الطريق الأسهل" والأكثر تعبيرًا عن استمرار تغلغل النزعة المحافظة والحزبية الضيقة بين ثناياه. واليوم، ظهر أن هذا الطريق لا يمكن أن يقود إلى إصلاح بنيوي شامل، لأن هذا الإصلاح يتوقف على وجود أغلبية ديمقراطية منسجمة ومستقلة عن الدولة وملتزمة مسبقًا ببرنامج مشترك واضح المعالم. أزمة التجربة الحكومية البنكيرانية لا يمكن اختزالها في شخص اسمه شباط، فهي تكمن في تركيبة الحكومة وتضارب رهانات ومصالح واتجاهات سير مكوناتها؛ وبنكيران مقاتل أعزل، لا يملك عصا سحرية لتحويل التماسيح والعفاريت إلى أصدقاء حميمين، ولن يفعل أكثر من تدبير الأزمة وانتظار الفرج، ويعلم الله وحده، بعد ذلك، حجم الضرر الذي سيصيب بنية الحزب وسمعته ويصيب، أيضًا، الاستقرار الذي يقول بنكيران إنه ضحى من أجله.