تعدد توالي الحكومات المغربية منذ الاستقلال إلى اليوم، واحدة تأتي وأخرى تروح دون أن تُظهر أي منها اختلافا أو تميزا عن سابقاتها، فلا التقنوقراطية منها تميزت عن الحزبية، ولا المحافظة اختلفت عن التقدمية، ولا كان هناك فارق بين اللبرالية والاشتراكية، فقد وقفت جميعها بكل ألوانها ومشاربها وأيديولوجياتها المختلفة في منطقة الظل أو ما يسمى بالمنطقة الرمادية، أي بلا لون وبلا طعم وبلا موقف، قاسمها المشترك، الولاء للمخزن والإيمان بعقيدته، إلى أن وصل عددها الثلاثين حكومة، ترأسها أربعة عشر وزيرا أولا، وهم على التوالي أحمد بلافريج, عبد الله إبراهيم, الحسن الثاني, أحمد با حنيني, محمد بنهيمة, أحمد العراقي, محمد كريم العمراني, أحمد عصمان, المعطي بوعبيد, عز الدين العراقي, عبد اللطيف الفلالي, عبد الرحمان اليوسفي, إدريس جطو وأخيرا عباس الفاسي. واليوم وبعد أن أصبح إسلاميو المغرب جاهزون للعب نفس الدور وبنفس الطقوس، ها هم يلتحقون بالموكب المخزني-الذي لم يكونوا قط بعيدين عنه، وهم معروفون بولائهم الشديد له وللصلاحيات المطلقة للملك عبر مؤسسة إمارة المؤمنين عبر شعارهم " نحن مع ملك يسود ويحكم "- لينظروا من منظاره، ويرتشفوا من معينه عبر الحكومة الواحدة والثلاثين التي سيترأسها الرئيس الخامس عشر، والذي سيكون بلا شك أو خيار منهم -وبدون ربطة عنق ويجهل ربطها كما راج- تطبيقا للدستور الجديد ونزولا عند إرادة الصناديق التي تكلمت في انتخابات سابقة لأوانها بطريقة ديمقراطية وشفافة، ومنحت الفوز الساحق لحزبه، سواء على مستوى اللوائح المحلية أو الوطنية، وفتحت المجال أمامه ليتبوأ صدارة ترتيب الأحزاب الفائزة، ولو بدون بلوغ الأغلبية المطلقة التي تمكنه من بسط نفوذه كاملا على الحكومة، الشيء الذي دعاه (المعارضة الإسلامية، الممثلة في حزب العدالة والتنمية) "مكرها لا بطلا" إلى اللجوء إلى ضيق الائتلافات ونسج التحالفات غير منسجمة، مع غيره من الأحزاب الأخرى ليشكل أغلبية مطلقة ومريحة في البرلمان..
إني في هذه المقالة، لن أخوض في مناقشة طبيعة تلك التحالفات واحتمالاتها، ولن أتطرق إلى البرنامج الحكومية المرتقبة، ولا إلى مسألة الإستوزار أو عدد الحقائب... وإنما سأحصر حديثي على طرح بعض الأسئلة الملحة التي تشغل بال الكثير من المهتمين وتقض مضاجعهم، والمتعلقة في مجملها في نوعية التوجه والإستراتيجية التي ستنهجها حكومة السيد بنكيران في تعاملها مع مشاكل المواطن المغربي على ضوء المستجدات والمتغيرات الإقليمية والدولية والمحلية، وعلى رأسها هبوب الربيع الديمقراطي على البلدان العربية وما أفرزته من حراك اجتماعي شعبي واحتجاجات تولدت عنها حركة 20 فبراير، وهل سيتعامل السيد عبد الإله بنكيران الأمين العام للعدالة والتنمية ورئيس الحكومة الحالي المواطنين معاملة الراشدين لا معاملة القاصرين، وهل سيغير من نظرته غير الإيجابية التي كان يضمرها لبعض الشخصيات ذات النفوذ القوي والذين ذكرهم بالأسماء في أغلب لقاءاته الصحفية قبل وإبان الحملة الانتخابية واعتبرهم رؤوس الفساد في البلاد، ومعاول لهدم الملكية، وتقويض المنظومة السياسية، بل بلغ به الأمر إلى أن وجه نصيحة أو ربما تحذيرا للملك من تلك الشخصيات المحيطة به قائلا: "إن الشعب المغربي يا مولاي لم يعد يقبل أشخاصا من أمثال الهمة والماجيدي والعماري يتحكمون في الحكومة ويعطون التوجيهات بالهاتف ويخيفون رجال الدولة من رجال أمن وقضاة، لأنهم يستمدون القوة من القرب منك وهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون وهذا غير مقبول" انتهى كلام السيد بنكيران. هذه الخرجته الإعلامية وغيرها كثير، والتي وإن اعتبرت مقبولة إلى حد ما قبل الانتخابات وأثناء صراعات حملاتها المحمومة، وحين كان الحزب في المعارضة، لأنها كانت هي الأداة التي لعبت الدور الكبير في شد انتباه الناس إليه، كإستراتيجية خطاب سياسي انتخابي يستعمل اللسان الدارج والخطابات الهجومية المبسطة التي يفهمها الكل دون استثناء، وبدون جهد فكري، ، أو بمثابة إشهار التلميع صورة الحزب، والطريق الموصل إلى الناخب والتأثير فيه، تبقى سلوكيات مستهجنة في ظروف صعبة يعيشها المغرب وتهدد نسيجه الاجتماعي بمزيد من التشرذم والانقسام وتعرض استقراره إلى مخاطر غير محسوبة النتائج والآفاق. فهل سيتزحزح السيد رئيس الحكومة، في ضل الدستور الجديد، عن خطابه الذي كان منصبا كلية- في فترة من فترات طور المعارضة وفي دائرة صراع ديني اجتماعي عقيم لا يحمل أي قيمة ايجابية لا لله ولا للوطن- عن قضايا الهوية والزعامة الدينية وتحويل الدين إلى مشروع سياسي تختلط فيه المواقع بين ما هو وسطي وما هو متطرف، بل وتنتفي فيه الحدود الفاصلة بينهما ويرغب الجميع في الحكم باسم الإله المطلق وخلافته في الأرض، ويصبح تكفير الآخر وإزاحته سيد المشهد السياسي للتشبث بالسلطة والسيطرة على العامة المستغلين المستعبدين الواقعين تحت تسلط المستظلين بولاية الله، باسم هذا الخطاب الديني المتسلح بالقدسية الإلهية التي ينادون بأحكامه وشريعته، وهم براء من كل قدسية وولاء لله. ويغير من توجهه الخطير جدا، نحو التدبير بالحكامة الجيدة، ومحاربة الفساد، وعدم التدخل في الحريات الشخصية الفردية، وتفويت شق الهوية للحركات الدعوية الإسلامية (خصوصا منها تنظيم التوحيد والإصلاح الذي تربطه بها شراكة إستراتيجية، وتعد عموده الفقري وذراعه السياسي)، والشق الآخر لإمارة المؤمنين، على اعتبار أن الملك هو الضامن للطابع الديني للنظام السياسي في المغرب، كما يوحي بذلك في العديد من تصريحاته. فإذا قرر السيد بنكيران رئيس للحكومة التغيير والإصلاح، خاصة بعد التعيينات الملكية الأخيرة التي جاءت بالسيد عالي الهمة –الذي طن الكثير من السياسيين، وهو منهم، أنه انتهى سياسيا-إلى القصر الملكي، وبعد ما تقدم به وزير خارجية فرنسا من تحذيرات صريحة من مغبة بلوغ الخطوط الحمراء؟. فإلى أي المعسكرات سيميل؟ أإلى معسكر البناء والإصلاح، وملاحقة المفسدين الذين كثيرا ما ندد بهم وهدد بالقضاء عليهم بالحكم الرشيد والمستنبط من الشريعة الإسلامية، والذي ينادي به حزبه!؟ والذي مع السف لا يختلف عن الكثير من التجارب الإسلامية المعروفة في الحكم، والتي أظهرت فشلها لافتقارها إلى الرؤى المتكاملة والواضحة للأوضاع الاجتماعية المتفاقمة بالمشاكل كالبطالة وسوء المعيشة والفساد الإداري والمالي...، أم أنه سيعتمد أسلوب الانفتاح والفصل بين الدين والدولة بالاستفادة من التجربة التركية العلمانية رغم تعارضها مع توجه الحزب ومرجعيته، أم أنه سيلجأ إلى الخيار الثالث الذي لا رابع له، وهو نهج سياسة التوفيق بين الأمرين للوقوف أمام هذه التحديات الكبيرة التي ستواجه حكومته على الصعيد الداخلي قبل الخارجي؟ والذي يجعل في النهاية نجاعة ونجاح هذه الحكومة أو فشلها مرهون بمدى نجاح أو فشل هذا الاختبار. ولاشك في أن ذكاء السيد بنكران وحنكته وقدرته -المتراكمة عبر عشرات السنين- على التلون والتلبس بكل ما يناسب الزمان والمقام، والتقنع بما يناسب كل ظرف، مهما تنوعت، وخصوصا مع ذوي الحل والعقد، والشوكة والطول، ستدفع به إلى إسدال الستار على خطاب المعارضة السابق، وتجعله يتغير صوب خطاب سياسي تاكتيكي يوفق فيه بين الهوية الإسلامية والتدبير السياسة والمصالح ورأس المال، والذي بذأت معالمه تظهر جلية في المسار والطابع التدبيري الذي دشن به الحزب أولى خرجاته الإعلامية قبيل تشكيل الحكومة، لطمأنة الداخل والخارج، والتأكيد على أنه مستعد لاعتمد الحكامة الجيدة في التسيير والأخذ بكل الوسائل الديمقراطية والمؤسسات الشرعية.
يبدوا أن هناك صوت عقل وسط، ونية ملحة في العمل على تدارك وتغيير كل ما فات من المواقف التي كانت تفرضها المعارضة، والتراجع عنما أرتكب من أخطاء في حق الكثير من الشخصيات التي أُلب ضدها الشعب المغربي، أو على الأقل يمكن القول أنه بولغ في نقدها إلى درجة العداء، كالهمة بسبب قربه غير العادي من شخص الملك؛ وخير ذليل على قابلية التغيير لدى قيادات حزب العدالة والتنمية، هو ما جاءت به الندوة الصحفية التي نظمها حزب مباشرة بعد تلقفه حدث تعيين السيد الهمة في المنصب الجديد الذي لا يزيده إلا قربا وتقربا بالملك، ما يدل على أنهم فهموا الرسالة جيدا واستوعبوا أبعادها، والتي قال فيها عبد الإله بنكيران ورئيس الحكومة: إنه اتصل بفؤاد علي الهمة مباشرة بعد تعيينه مستشارا للملك"... "فهنأته بمنصبه الجديد"...."ونعتبرو هادي هي الانطلاقة الجديدة" وأكد بنكيران أثناء هذه الندوة أنه غير منزعج من تعيين الهمة مستشار للملك قائلا "وواش غادي نرفض شي واحد يرسلو الملك".
مع كل ما هذا، فلن نحكم على هذه الحكومة من الوهلة الأولى فالأيام وحدها الكفيلة بذلك، لكنه يبقى من حقنا كمغاربة غيورين على بلدنا، أن ندعو مكوناتها ورئيسها للتعلم من التاريخ ومن التجارب الناجحة لحزب العدالة والتنمية التركي، وأن يستفيدوا من أخطاء غيرهم في الحكومات الأخرى اليمينية منها واليسارية، وأن يتذكروا أن أنامل الناخبين المسحوقين تحت معضلات المعانات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية وحتى النفسية، هي التي وضعت علامة x على أسماء 107 عضو من حزبهم، كي يتبوءوا هم هذا المنصب الحساس، وكأني بحال هؤلاء المقهورين يقول: رجاء يا رئيس حكومتنا المبجل اعتني كثيرا بأصواتنا، فهي الحق الدستور الوحيد الذي نتمتع ونختار به من يمثلنا، وتذكر أن مواعد الانتخابات مهما بعدت، فهي قاب قوصين أو أدنى، لأن مدة الخمس سنوات من عمر الشعوب زمن وجيز تأتي بعده المحاسبة، وإن الناخب وحده القادرة على تغيير المعادلة بمجرد وضع العلامة البسيطة x في خانة غير خانة حزب الإسلاميين إن هم أساؤوا التصرف في شؤون العباد..واحذروا فإن خصوم الإسلاميين يريدون فشل تجربكم الإسلامينة، وأنا متيقن أن السيد بنكيران وكوادر حزبه كفيلين بأن يكذبوا مزاعمهم، وأن يسقطوا تمنياتهم، إذا هم لم يتمسكوا بالثوابت المتعارضة مع إرادة العصر والجماهير، واتخذوا وعملوا بالإسلام المستنير، عوض المظلم المتعب، وابتعدوا عن سياسة الترقيع -التي اعتادت الحكومات السابقة على القيام بها- لتأجيل السكتة القلبية في كل المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المغربية، وإذا لم تستطع حكومة بنكيران لأسباب حزبية وظرفية وكذا مستقبلية، الوفاء بما أثقل به رئيسها كاهلها من وعود ومسؤوليات جسام لإصلاح وتخليق الحياة العامة وترسيخها على ارض الواقع المغربي، والتي من الصعب الوفاء بها، ما سيجعل الحزب يفقد قوته وقدرته على التأثير في الناس، ويؤدي به إلى نهايته الحتمية كما حدث للكثير من الأحزاب التي لم يكن تقهقرها إلا نتيجة طبيعية لفشل سياستها تجاه شعوبها وعدم قدرتها على تحقيق بمطالبهم، وانشغالها بالفساد والبذخ والترف وصرف خيرات وثروات البلاد في بناء الفراديس الفاسدة التي لم يتصوروا يوما أنها سوف تنهار بإرادة الشعوب التي لا تقهر. وكما قال الناظم:
هكذا تقضي الكراسي نهجها مثل الرواسي كل حزبٍ عاش فيها ينتهي نحو افتراسِ
فليس أمام حكومة السيد بنكيران، في هذه الحال، بد من الاستقالة والعودة إلى المعارضة أشرف وأكرم إن كان فعلا يهمهم مصير هذا البلد...