كما كان متوقعا فاز حزب العدالة و التنمية فوزا ساحقا ،إذ حصد 107 مقاعد من مجموع مقاعد مجلس النواب البالغ عددها 395 مقعدا ،وبفارق كبير عن باقي الأحزاب التاريخية كالاستقلال و الإتحاد الاشتراكي ،و هو فوز مستحق - على الرغم من نسبة المشاركة الضعيفة - بالنظر إلى ماكينة الحزب التنظيمية التي نجحت في خوض حملة انتخابية كان لها أثر بالغ في أوساط المواطنين الذين أودعوا ثقتهم في هذا الحزب الذي ظل لقرابة 15 سنة تحت سقف المعارضة ،مطاردا من قبل خصومه الذين لم يدخروا جهدا في محاصرته ؛ بل و في لحظات عصيبة كان قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح في خبر كان ، حيث وضع آنذاك على الطاولة إمكانية مسح الساحة السياسية من حزب اسمه العدالة و التنمية ،لكن الرياح هبت بما لا تشتهيه شراع خصوم هذا الحزب الإسلامي المعتدل ؛حينما دفعت في اتجاه تحولات كبرى و انفجار ثورات شعبية عم صداها مجموع البلاد لتنتهي بذلك قصة الاستثناِء المغربي مع مبادرة الملك محمد السادس الى إطلاق حزمة إصلاحات دستورية ما كانت لتكون لولا هول المشاهد و سرعة تفكك نظم ديكتاتورية عربية و كأنها كومة ثلج رخوة حولتها سخونة الشارع إلى حالة توزعت بين الهروب الدليل و تجرع الموت و السجن الممزوج باللعنات حسابا على السنوات العجاف التي ذاقت فيها الشعوب مرارة الحكم الاستبدادي . فالثورات التي هبت قريبة من أبواب المملكة المغربية قلبت المعادلات و أوقفت سيناريوهات كثيرة كانت جاهزة لبسط السيطرة و الهيمنة على المشهد السياسي ووضع اليد على كل شيء . لكن فوز العدالة و التنمية و بالشكل الذي سارت عليه انتخابات الخامس و العشرين من نونبر تبرز أن المغرب اختار الطريق الأسلم لدفع ضريبة الربيع العربي الذي جرف لحد الساعة أربعة نظم سلطوية. فليس من السهولة أن يتخذ النظام السياسي بالمغرب قرار رفع الأيدي عن العملية الانتخابية و تركها تجري بعيدا عن كل ما من شانه أن يؤثر في نتائجها. ففي الاستحقاقات السابقة مورست و جربت كل الأشكال مع حزب العدالة و التنمية بدءا من تقليص عدد الدوائر التي قدم فيها مرشحيه إلى قص النتائج التي حصل عليها و إبقائها ضمن المرسوم لها سلفا. ان استحقاق الخامس و العشرين من نوفبر مثل انعطافة فارقة في التاريخ المغربي لكونه اولا جاء بالاسلاميين الذين حازوا ثقة الكتلة الناخبة و ثانيا لكون ذلك جاء محمولا على ظهر الثورات العربية التي باتت قوة ضاربة حدت من افراط النظم في التحكم والانفراد بالسلطة. إن خروج العدالة و التنمية من هذا الاستحقاق منتصرا يؤكد من جهة على قوة هذا الحزب الفتي و يكشف في الواجهة الأخرى مدى هشاشة الأحزاب السياسية وضعفها و انكسار جماهيريتها و هنا لا بأس من الإشارة إلى أن البناء الديمقراطي الصلب يتطلب أحزابا قوية سواء كانت في الحكومة أم في المعارضة .و لعل النتائج الضعيفة التي حصلت عليها بعض الأحزاب السياسية الأساسية تمثل بالنسبة لهذه الاخيرة دافعا و حافزا لها لتحديد مكامن الخلل ورفع كل ما يقف سدا منيعا أمام عملية إصلاح ضرورية باتت تفرضها اللحظة و حاجات الشعب المغربي الملحة إلى أحزاب سياسية مسؤولة و قادرة على الإطلاع و النهوض بالأوضاع المتردية على المستويات السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية ؛كما ان ضعف الاحزاب لا يمكن ارجاعه بالجملة الى التقطيع الانتخابي والى نمط الاقتراع الاسمي باللائحة و ان كانت هذه الاختيارات زادت من تقهقر الاحزاب و تشتيت خارطة المشهد الحزبي الذي بات مدعوا لمعالجة مشاكله و تجديد بنياته و اساليب عمله. إن الإصطفاف الذي شهدته الساحة السياسية المغربية قبل استحقاق الخامس و العشرين من نوفبر و بقاء العدالة و التنمية منزويا و إن تم ذلك بدافع عزله من قبل خصومه؛ فإن فوزه يفرض عليه عقد تحالفات لتشكيل الحكومة المقبلة ؛وانسجاما مع اللحظة الوليدة فان مسالة التحالفات لن تكون مطلقا عملية حسابية ؛بل تفرض على العدالة و التنمية تدبيرا يعكس اختيارا سياسيا لقيادة سفينة الحكومة المقبلة ؛ و هنا لا تبدو امام ربان العدالة و التنمية اختيارات كثيرة سوى عقد تحالف واضح و مسؤول مع احزاب الكتلة الديمقراطية دون غيرها من الاحزاب السياسية ؛ و سيمثل ذلك اشارة من ان حزب العدالة و التنمية لن يقبل بقفز احزاب لا ضرورة سياسية لوجودها ضمن مكونات الحكومة المقبلة ؛و هنا سنكون امام تدبير يتجه نحو الحد من ظاهرة الحكومات الهجينة و التخفيف من عدد الوزارات ضمانا للفعالية و الاداء السريع بدلا من السقوط في مستنقع ارضاء هذا الحزب او ذاك ؛ و اذا ما وقع شحن سفينة العدالة و التنمية باحزاب خارج الكتلة سيكون ذلك مؤشرا معاكسا لعقلنة المشهد السياسي المغربي و رسالة سلبية للذين توجهوا الى صناديق الاقتراع . كما ان امكانية سعي العدالة و التنمية الى تفكيك تحالف الثمانية من خلال استقطاب حزب الحركة الشعبية لن يحمل اضافات نوعية الى التحالف الذي ينوي بناءه مع احزاب الكتلة الديمقراطية ؛فالانتخابات الاخيرة افرزت ثلاثة اقطاب سياسية هي الكتلة الديمقراطية و تحالف الثمانية و العدالة و التنمية و احزاب سياسية اخرى لم تتمكن من إحراز نتائج تعزز مشروعية وجودها ؛ فاحزاب كثيرة لم تتمكن من الحصول على مقعد نيابي بينما تراوحت اخرى بين مقعد و مقعدين في احسن الاحوال. لذا فان بوصلة التحالف مع احزاب الكتلة الديمقراطية من قبل العدالة و التنمية بوصفه حزبا سياسيا عصريا و ذا مرجعية اسلامية له ما يبرره من الوجهة السياسية بالنظرالى تقارب الشعارات و حديث كل منهما عن ضرورة تنزيل مضامين الدستور الجديد و رفع وتيرة الاصلاحات السياسية و الاستمرار في خلق انفراج حقوقي و تدشين مرحلة جديدة في تدبير مختلف للشأن العام .لكن مع ذلك؛ لا ينبغي اغفال طبيعة المصاعب التي من المؤكد انها ستبرزفي طريق العدالة و التنمية فتجربة اقتسام السلطة مع الملك تجربة جديدة و تحتاج الى تقاليد ديمقراطية كما تحتاج الى جراة رئيس الوزراء و فريقه الحكومي لاستعمال كافة الصلاحيات التي يخولها الدستور لتدبير شؤون البلاد؛و لا ننسى هنا كل ما قيل في السابق عن ضعف الحكومات و ضعف الوزير الاول و عدم تفعيل القليل مما يتيحه الدستور من صلاحيات بقيت حبيسة الحبر الذي كتبت به . ان نجاح هذه التجربة لا تبدو مسؤولية حزب العدالة و التنمية لوحده و لا حتى مسؤولية الاحزاب التي ستتحالف معه بل هي بالاساس اختبار لمدى صدقية و جدية اقتسام السلطة بين المؤسسة الملكية و الحكومة و البرلمان و امتحان كذلك لما بات يسمى بالانتقال الهادئ وسط امواج التغيرات العاصفة في المنطقة العربية. ان حزب العدالة و التنمية مطالب يالحفاظ على ثقة من صوتوا لصالحه و عدم ترك الابواب مفتوحة على كل شيء اثباتا لحسن نيته حتى لا يجد نفسه امام انتاج اوضاع سابقة؛ ما عادت الظروف المحلية و لا الاقليمية تسمح بتكرارها. هذا هو الشق الاول من الاشكالية المطروحة اليوم على العدالة و التنمية فماذا عن شقها الثاني؟ من المعلوم ان المغرب لم يكن استثناء في محيطه العربي الذي شهد ثورات و تحولات كبرى و ان كان بقي في منأى عن العواصف و الرجات التي غيرت وجه النظم العربية كما هو الحال في كل من تونس و مصر و ليبيا و اليمن؛ و لا يماري احد في كون حركة 20 فبراير لعبت دورا اساسيا في كل ما جرى و يجري في البلاد بدءا من الدستور الجديد الى اقتراع الخامس من نوفبرالماضي. و لا احد ينكر ان الحاجة باتت ماسة الى حركة 20 فبراير كحركة شبابية ضاغطة باتجاه مزيد من الاصلاحات المؤسساتية حتى يكتمل البناء الديمقراطي و يتوج باقرار ملكية برلمانية تنقل البلاد الى مرحلة متقدمة و واضحة من حيث اختياراتها السياسية. ان حركة 20 فبرايركحركة شبابية استطاعت في ظرف وجيز و بتفاعل مع حركة الشباب العربي ان تنتج خطابا سياسيا بمطالب متقدمة و تطلعات ديمقراطية مشروعة و لا ينبغي التعاطي معها من قبل حزب العدالة و التنمية او من قبل احزاب سياسية اخرى على انها عامل ارباك و عائق امام سير الحكومة المقبلة . ان حزب العدالة و التنمية الذي ساهم بعض قادته في حركة 20 فبراير مدعو اليوم لفتح قنوات مع هذه الحركة ليس بهدف تليين موقفها و لا حتى من اجل مطالبتها بالتخفيف من احتجاجاتها و انما بهدف خلق فضاءات للحوار حول ملفات الاصلاح التي ما تزال مفتوحة و مطروحة ؛ استكمالا و سيرا على خطى البدايات التي دشنتها البلاد رغم ان مكونات سياسية عدة بقيت خارج دائرة الاقتناع بكون هذه البدايات تبقى صالحة كمنطلق لمواجهة ما يستقبله المغاربة من رهانات و تحديات جديدة. اما فيما يتعلق بالقوى السياسية المساندة لحركة 20 فبرايرساكتفي في هذه العجالة بالاشارة الى حركة العدل و الاحسان منوها الى ان الدكتور عبد العالي حامي الدين وهو واحد من القيادات البارزة في العدالة و التنمية؛ تاسف لموقف المقاطعة الذي اتخذه الحزب الاشتراكي الموحد و الا لكان كما صرح بذلك لاحدى الوسائل الاعلامية شريكا للعدالة و التنمية في الحكومة المقبلة. و بالرجوع الى حركة العدل و الاحسان التي تعتبر واحدة من الحركات السياسية القوية فهي الاخرى مدعوة الى تأمل و قراءة استحقاق الخامس و العشرين من نونبر و التوقف عند دلالاته و افرازاته في ظل سياق عربي تحولت فيه تنظيمات اسلامية كبرى الى الممارسة السياسية التي ينبغي ان تصبح مفتوحة امام الجميع؛خاصة و نحن اليوم امام حكومة يرأسها تيار سياسي اسلامي بمقدوره بل ومن واجبه تسهيل عملية تحول جماعة العدل و الاحسان الى حزب سياسي ؛يأخذ موقعه و يدخل حلبة التنافس بالاليات و الادوات المشروعة؛و يسجل للجماعة المذكورة موقفا حضاريا عبر عنه ناطقها الرسمي الاستاذ فتح الله ارسلان حينما صرح لاحدى وكالات الانباء قائلا"حزب العدالة و التنمية يستحق الفوز و هو حزب شقيق يحظى بالمصداقية...". ان فوز حزب العدالة و التنمية و تعيين الملك محمد السادس لامينه العام الاستاذ عبد الاله بنكيران رئيسا للوزراء يعتبر خطوة هامة على الطريق؛ لكنها تظل بحاجة لتاكيدها ؛ انها اليوم في نظر كثيرين مجرد مبتدأ؛ نتمنى ان يكون متبوعا في الايام القادمة بسياسات و اجراءات تؤكد التحول و تصب في مجرى البناء الديمقراطي الحقيقي. صحفي