إذن يبدو أن حزب العدالة والتنمية لا يتوفر على برنامج ! يا له من وضع محمود بالنسبة إلى منتقديه ! فحسب هؤلاء فكل ما يقوم به هذا الحزب يندرج في إطار الإثارة ليس إلا، والاتساق، الذي كان يبدو على خطبه الانتخابية المحملة بوعود الإصلاح العميق وإعادة النظر في عدد من القضايا، أخذ في التآكل، وذلك ليس فقط بسبب تحكم الجماعات التي في السلطة في قنوات الهيمنة ولا بسبب نوع من عدم الوعي الساذج بالمسار المؤدي إلى تلك القنوات، ولكن كذلك بسبب ضعف التماسك البنيوي لتلك "المشاريع" التي يلوح بها. لا شك أن تبني الحكامة الجيدة كمبدأ للعمل فكرة صائبة جدا، ولكن مازال الجميع ينتظر تطبيقها على أرض الواقع. بيد أن كل هذا لا ينفي كون البيجيدي صار حاضرا ومتجذرا في الحقل السياسي المغربي، وربما لسنين طويلة. والمقاربة التي تقوم على قراءة حصيلته المؤقتة فيما يخص مشاريع وإنجازاته ليست صحيحة، بل وخادعة. نعم هناك رياح جديدة تهب على المغرب، وحضور الربيع العربي هنا أقوى مما نعتقد، ولكنه حاضر بطريقته الخاصة. والبيجيدي لم يصل إلى الحكم على أساس برنامج، ولكن بصفته حامل لواء "الثأر الاجتماعي" الأكثر تنظيما. فيبدو أننا نعيش، في مجتمعنا، "زمن التوبة"(le temps de la repentance) من كل المظالم الواقعة والتي تعتبر اليوم "خطايا" وليس فقط أخطاء سياسية، وبالتالي فلا يمكن وضع البيجيدي في نفس المستوى الذي توضع فيه الأحزاب الأخرى. إنه بالدرجة الأولى "حزب الثأر الاجتماعي". فالفوارق الصارخة، والفساد المستشري ونهب الثروات الوطنية من طرف رجال السلطة، والعدالة التي تبقى في خدمة الأقوياء فقط، كلها عوامل عمقت فقر وتهميش الشرائح الشعبية. وتلا ذلك كله حشر شرائح واسعة من الساكنة في غيتوهات اجتماعية، ازدادت سرعة انتشارها بسبب تعليم يسير بسرعتين ولا تستفيد منه سوى الشرائح الاجتماعية المحظوظة، التي يزيد من تقوية هيمنتها. إن فشل الأحزاب التي كانت في الحكم، وخاصة بعد تجربة التناوب، فتح الباب أمام انتظارات جديدة. وتسببت خيبة أمل الشرائح الشعبية، بالإضافة إلى غضب الطبقات التي استفادت اقتصاديا وتعاني من عدم الاعتبار اجتماعيا، وكذلك غطرسة الطبقة الغنية المتحالفة مع السلطة القائمة والامتيازات التي تستفيد منها بدون أدنى خجل،(كل ذلك تسبب) في ظهور شعور جديد. وهذا الشعور لا يمكن اختزاله في ذلك الأمل الذي يمكن أن تغذيه الإصلاحات، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك ليتحول إلى رغبة في "الثأر" من المحظوظين. وبالتالي فلم يعد "النقد الاجتماعي" يستقي خطابه من ذلك "المنطق الكلاسيكي" القائم على التناوب بناء على البرامج الاقتصادية والاجتماعية، بل صار ينبني، في ظل السياق الجديد، على التنديد بعالم فاسد (dépravé)، حيث الخطايا هي السائدة، وحيث يتم خرق القانون طول الوقت. وبالتالي لم يعد هناك بد من اللجوء إلى "العدالة الإلهية" مادامت عدالة البشر قد أبانت عن عجزها(...) هكذا باتت الطريق مفتوحة أمام "الحزب المخلص" (redempteur) الذي تجعل منه شرعيته ناطقا باسم العدالة الإلهية. وبالتالي ترك الخطاب الاشتراكي، الذي كان يدعو إلى إعادة توزيع الثروات داخل مجتمع متضامن ومتلاحم، مكانه للخطاب الناري للداعية الذي يلوح بيوم القيامة ويعلن المواجهة بين المؤمنين الحقيقيين و"العلمانيين" و"الملحدين" ! إذا وضعنا الأمور في هذا الإطار فإن ما كان يبدو للوهلة الأولى مجرد إثارة في تحركات وزراء وأطر حزب العدالة والتنمية سيصبح استراتيجية مدروسة، ومربحة بالنظر إلى المكاسب التي حققها بناء على التصويت الشعبي، وبالتالي فإنه لا يجب علينا قياس مدى صواب تحركاته بالطريقة الكلاسيكية، أي بناء على ما حققه من إنجازات، بل يتعين قياسها فقط بناء على خطاب التنديد الذي يكتفي بذاته. ويكتفي هذا "الثأر الاجتماعي"، لحد الساعة، بحضور "أبنائه" حراس العدالة في المناصب الوزارية، هؤلاء "الأبناء" الذين يتجرؤون على انتقاد النظام (systéme) ولو باللسان كما أوصى بذلك الرسول. ولكن في واقع الأمر فإن استراتيجية الخطبة الدعوية المتواصلة الموجهة بالأساس إلى التنديد واللعنة نجحت في كسب ود وتعاطف شريحة مهمة ومتنوعة من الساكنة، وبالخصوص بين الطبقات الشعبية. إن غياب أي آفاق تحديثية في المجتمع وفي الثقافة والاقتصاد أفضى إلى فتح الباب أمام تيار إسلاموي محصور في خطاب "جلد الذات". وهذا المعنى هو المقصود عند الحديث عن كون العدالة والتنمية هو "حزب التوبة" وليس "الثورة"، فهذه الأخيرة قد تم تأجيلها إلى أجل غير مسمى. وقد جاء هذا الحزب ليبقى في الحكم مادام لم تلح آفاق أخرى يمكنها، ليس فقط تشجيع ظهور مرشحين آخرين للحكم، ولكن كذلك التأثير على هذا التنظيم نفسه. عن "شالنج" وباتفاق معها