مرة اشتكى سياسي عربي من الصحافة ومن كونها تكتب الأكاذيب عن السياسيين، فرد عليه زميله المجرب قائلا: «احمد الله أنهم يكتبون عنا بعض الأكاذيب، لأنهم لو نشروا حقيقة ما نحن عليه لكان وضعنا أسوأ مما هو عليه الآن». تذكرت هذه الواقعة وأنا أطالع التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات، وقلت في نفسي إن عددا كبيرا من المسؤولين السابقين واللاحقين في الوزارات وفي المؤسسات والمقاولات العمومية شعروا بالارتياح أمس وهم يقرؤون تقرير أحمد الميداوي، وداعي الارتياح أنه لم يصل إلى كل الحقائق في ملف الاختلالات التي يمكن تكييف بعضها على أنها جرائم مالية، ويمكن اعتبار البعض الآخر جزءا من أخطاء الإدارة والتسيير. الفساد صار ثقافة لها جذور عميقة في الإدارة المغربية، والمفسدون أصبحوا أكبر حزب سياسي في المغرب، والمالية العامة استحالت دجاجة تبيض ذهبا كل يوم، ولا يحتاج صاحبها إلى بذل مجهود من أجل تحصيل أرباح خيالية، لأن بيت مال المغاربة ليس له رب يحميه، والمغاربة يقولون في حكمتهم المتوارثة: «المال السايب يعلم السرقة». الآن نطرح السؤال الأكبر: «لماذا ينخر الفساد والخلل والهدر المؤسسات العمومية ؟». الجواب الأول: لأن الرقابة غير موجودة، والجواب الثاني: لأن الإطار التشريعي فيه فراغات وثقوب أصبح الفيل يدخل ويخرج منها بسهولة متناهية ويسر كبير. والجواب الثالث: لأن القضاء عاجز عن الوصول إلى عش الدبابير، لأنه، من جهة، قضاء ضعيف لا سلطة له، ثم إنه قضاء لا يتمتع بالاستقلالية التي تجعل له أسنانا وأظافر وأنيابا يخاف منها الجميع. مع ذلك، تبقى هذه الأجوبة ناقصة، ونحتاج إلى الرجوع إلى تاريخ المغرب القريب والبعيد، وإلى السياسات المتبعة من قبل السلطة، التي كانت ولا تزال تعتبر الفساد في الإدارة وهدر المال العام من المشاكل الثانوية في الدولة، لتكتمل الصورة ويكون الجواب وافيا. بل إن السلطة في المغرب اعتبرت، في يوم من الأيام، أن الأموال المنهوبة بمثابة رشوة لشراء ولاء النخب التكنوقراطية أو النخب القادمة من الأحزاب الإدارية، جزاء قبولها بأن تكون واجهة شكلية للحكم دون أن تكون فعلا هي الحاكمة، فكان أن أعطيت الضوء الأخضر لكي تدخل إلى ضيعة المال العام، وأن تنهب كما شاءت، لأن ذلك هو المقابل المادي لأداء دورها ك«كومبارس» في مشهد سياسي أقصيت منه الأحزاب التي تملك تمثيلية حقيقية في المجتمع، واستبدلت بكائنات انتخابية تلتف على صناديق الاقتراع بالتزوير ولعبة المال والنفوذ. فطبيعي جداً أن تتصرف في موقع المسؤولية كمن عثر على كنز في أرض الآخرين، وعليه أن يملأ جيوبه وخزائنه وجيوب أقاربه وخزائنهم، بنهم وبسرعة، قبل أن يأتي أصحاب الأرض. لم يكن غريبا أن يفوز حزب العدالة والتنمية بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان، لأنه خاض حملة ناجحة تحت شعار: «صوتك فرصتك لمحاربة الفساد والاستبداد». المغاربة يعرفون، باحتكاكهم بالإدارة وبمؤسسات الدولة، أن الفساد أصبح وحشا كاسرا في المغرب، وأن هذا الوحش طور آليات وميكانيزمات وشبكات وجماعات ضغط نافذة وقوية تدافع عنه، وأن وسائل الإغراء في يد وحش الفساد لا تقاوَم في الغالب، لأن مفعول المال يظل دائماً سيد الموقف، خصوصا في غياب سلطة القانون. إن الفساد الذي يأكل مقدرات البلاد ومواردها لم تعد له كلفة اقتصادية فقط، بل صارت له فاتورة سياسية تهدد استقرار الأنظمة، فالذين خرجوا إلى الشوارع في تونس صبروا على استبداد بنعلي، إلا أنهم لم يصبروا على فساد «الطرابلسية»، ونفس الأمر تكرر في القاهرة المحروسة.