كل هذا الذى حدث كان متوقعاً. من اليوم الذى استولت فيه هذه الجماعة على السلطة. وبتحديد أكثر منذ بدا أن النية متجهة لتسليمها السلطة. حين قرر المجلس العسكرى - وحده أو بالاتفاق مع غيره! أن يضع العربة قبل الحصان، فيؤجل دعوة المصريين لصياغة دستور جديد يتبنى ثورتهم ويترجمها إلى مبادئ ومؤسسات، ويسرع بدلاً من ذلك إلى إجراء الانتخابات البرلمانية بعد تعديل تافه مضلل فى الدستور القديم طُرح على المصريين فى استفتاء خيرهم بين الجنة لمن يقول «نعم»! والنار لمن يقول «لا»! وقد فضلت الأغلبية دخول الجنة بالطبع، فلم يبق لمن قالوا «لا» إلا النار، يصلونها تحت حكم الإخوان فى الدنيا، ويصلونها بعدهم فى الآخرة! غير أن النار لم تكن من نصيب الذين قالوا «لا» وحدهم، بل انفتحت أبوابها على المصريين جميعاً حين أُجريت الانتخابات البرلمانية وبعدها الانتخابات الرئاسية التى استولت بها الجماعة على مصر، بعد أن هددت بإشعال النار فى البلاد إذا لم يسلمها المجلس العسكرى السلطة. وقد أدرك الذين لم يدركوا من قبل أن السلطة ليست هى الهدف الذى تسعى الجماعة للوصول إليه، إنما الهدف هو الدولة كلها، مصر كلها. والسلطة تكون هدفاً حين يكون الساعى لها حزباً سياسياً يؤمن بالديمقراطية، ويسلم للأحزاب الأخرى بحقها فى أن تمارس نشاطها، وتعارض الحزب الحاكم فى البرلمان وتراقبه وتحاسبه، وتقدم نفسها بديلاً عنه. لكن جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسى عامة ليست أحزاباً سياسية إلا من باب التسلل والتحايل على القوانين وخداع المواطنين ودخول المعترك السياسى بأقنعة تزيف حقيقتها وتمكنها من إفساد النشاط الوطنى، وطرد المشاركين فيه. باختصار ووضوح، جماعات الإسلام السياسى وفى مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين لم تستول على السلطة لتتخلى عنها وتتداولها مع غيرها من القوى السياسية، إنما استولت على السلطة كما يستولى الغزاة على بلد من البلاد. استولت على السلطة عنوة، والانتخابات البرلمانية والرئاسية بالنسبة لها لم تكن مسابقات ومباريات، كما يجب أن تكون فى النظم الديمقراطية، إنما هى غزوات قامت بها هذه الجماعات لإعادة فتح مصر التى عادت فى نظرها إلى الجاهلية. فإذا كان الإخوان قد وصلوا إلى السلطة فلا ينتظر أحدٌ أن يتركوها، لأن عليهم أن يحطموا كل ما يعتبرونه أوثاناً، ويجتثوا كل ما يتعارض مع الإسلام كما فهموه، أى كل ما ينتمى للعصور الحديثة التى يعتبرونها جاهلية كلها. الدولة الوطنية فى نظر الإخوان المسلمين جاهلية. والديمقراطية كفر صريح، والعلمانية بالطبع، والعقلانية، والمواطنة، وحرية المرأة، وحقوق الإنسان، هذه كلها جاهلية فى نظر جماعات الإسلام السياسى التى لا تختلف فيما بينها إلا فى الأسلوب الذى تصل به إلى السلطة. بالزيت والسكر والجنة والنار كما فعل الإخوان، أو بالسلاح وخطف الجنود والسياح واغتيال الخصوم، كما تفعل الجماعات الأخرى، وكما كان الإخوان يفعلون من قبل، وكما يهددوننا بالعودة إليه الآن. وقد يظن البعض فى الداخل والخارج، وبعض الظن إثم، أن الإخوان وصلوا إلى السلطة بانتخابات لم تزور علناً بعد سقوط النظام الذى دأب على تزوير الانتخابات، فمن حقهم أن يتولوا السلطة إلى أن يحين وقت العودة إلى صناديق الانتخابات، ومن واجبنا أن نساعدهم فى استكمال تجربتهم، لأننا بهذا ندعم التجربة الديمقراطية، وهذه فى الحقيقة سذاجة ما بعدها سذاجة، لأن الانتخابات التى استند لها الإخوان فى وصولهم للسلطة لم تكن نزيهة، ولم تكن انتخابات أصلا. لقد أجريت كما ذكرت قبل وضع الدستور، أى قبل أن نعرف ما يجب أن نجتمع حوله، وما يمكن أن نختلف فيه. وأجريت الانتخابات قبل أن تتبلور الأوضاع السياسية وتتشكل الأحزاب، بعد أن ظل المصريون ستين عاماً محرومين من ممارسة أى نشاط سياسى، ومعرضين لصور مختلفة من التضليل والتجهيل، استخدم فيها الإعلام الرسمى ودور العبادة، وتنافست فيها السلطة الحاكمة من ناحية وجماعات الإسلام السياسى من ناحية أخرى. لهذا نكون سذجاً بلهاء نخدع أنفسنا ونخدع غيرنا إذا قلنا إن الانتخابات التى جاءت بالإخوان للسلطة كانت انتخابات نزيهة، أو إنها خطوة فى الطريق إلى الديمقراطية التى لم يكف الإخوان بعد وصولهم للسلطة عن محاصرتها ومطاردتها وقطع الطرق المؤدية إليها والانفراد بالسلطة والانتقال من أخونة السلطة إلى أخونة الدولة، وهذا هو مشروعهم الذى يسمونه النهضة. النهضة بالنسبة للإخوان وحلفائهم هى غزو مصر وإعادة فتحها وإخراجها من العصور الحديثة التى دخلتها قبل قرنين وإعادتها إلى بيت الطاعة الإخوانى السلفى ولاية فى خلافتهم المنتظرة، وهكذا تحولت الديمقراطية مع الإخوان إلى مصيدة للسلطة يستخدمونها مرة واحدة، ثم يلقون بها خارج أسوار السجن الذى وضعونا فيه. لقد استولوا عن طريق الانتخابات على السلطة التشريعية، وقد تبين أن هذه الانتخابات خالفت الدستور، فقضت المحكمة الدستورية العليا بحل المجلس الذى أسفرت عنه. غير أن الإخوان لم يعبأوا بهذا الحكم وعاقبوا المحكمة عليه وواصلوا سعيهم المحموم للانفراد بالسلطة، فاستولوا على رئاسة الدولة، ومن ثم على الحكومة، ومن ثم على الصحف وأجهزة الإعلام والإدارات المحلية، ثم كشفوا عن وجوههم أكثر فأقالوا النائب العام ووضعوا مكانه نائباً موالياً لهم، وحاصروا المحكمة الدستورية، ولفقوا مشروع قانون يحاولون به الاستيلاء على السلطة القضائية التى يبدو أنها ستظل مستعصية عليهم، هى وغيرها من أركان الدولة الوطنية المصرية: القانون الوضعى، والثقافة الحديثة، والجيش الوطنى، فضلاً عن الأزهر والكنيسة. لقد قامت الدولة الوطنية المصرية على هذه المؤسسات، قامت على القانون الوضعى، لأن الدولة الوطنية هى دولة الوطن وليست دولة الديانة. والفرق بينهما أن المواطنين فى الدولة الوطنية هم أصحاب السيادة وهم مصدر السلطات الذين يشرعون لأنفسهم ويضعون قوانينهم، أما فى الدولة الدينية فالحاكم هو ظل الله على الأرض، وهو الذى يشرع وينفذ ويحكم ويحاكم. والثقافة الحديثة بمعناها الواسع الذى يشمل العلم والفلسفة والفن والأدب، والصحافة والإعلام، الثقافة الحديثة بفنونها وأشكالها المختلفة أساس آخر للدولة الوطنية التى كان لابد أن تعتمد على العلم والعقل فى ثورتها على الدولة الدينية التى حاربت العقل، وحرمت الاجتهاد. أما الجيش الوطنى فهو المؤسسة الأولى التى استعادت بها مصر استقلالها بعد أن فقدته خمسة وعشرين قرنا ظل فيها المصريون محرومين من تولى السلطة وحمل السلاح. ونحن نعرف الدور الذى قام به الأزهر فى فرض «محمد على» على السلطان العثمانى، وفى تزويد مصر الحديثة بالكفاءات العقلية التى قامت عليها نهضتها. أما الكنيسة القبطية فهى المؤسسة المصرية الوحيدة التى ظلت مستقلة طوال العهود التى فقدت فيها مصر استقلالها. هذه المؤسسات التى قامت على أكتافها الدولة الوطنية هى التى تدافع اليوم عن الدولة الوطنية التى يس عى الإخوان لهدمها وتجزئتها وإسقاط هيبتها وتحويلها إلى إمارة مفتوحة للمهربين والإرهابيين!