كلام كثير ومداد غزير وصوت الحكمة قليل في الأزمة التي انفجرت وسط البيت الحكومي الهش. أحمد رضا الشامي، البرلماني والوزير السابق وأحد الوجوه التي كانت مرشحة للتباري حول قيادة الاتحاد، تفوه، أول أمس في البرلمان، بكلام معقول، وأبدى فهما عميقا للأزمة الحكومية الراهنة، حيث قال: «لم تعد هناك حاجة اليوم في المغرب إلى التخوف من وصول حزب معين إلى الحكومة» (الرسالة الأولى)، وأضاف: «هناك أزمة سياسية يعيشها المغرب عناوينها الرئيسية التردد في تفعيل الدستور، وهشاشة المعارضة، وضعف التحالف الحكومي» (الرسالة الثانية)، قبل أن يلمح إلى التناقض الحاصل في موقف حزب الاستقلال بالقول إن «التصويت على البرنامج الحكومي من قبل أحزاب الأغلبية في بداية الولاية الحكومية يلزم الأطراف المتحالفة بالانسجام والالتزام. إن ما يجري من تبادل للأدوار بين الحكومة والمعارضة يفقد الثقة في المؤسسات السياسية والفاعلين الحزبيين» (الرسالة الثالثة). الشامي أرجع ما يعيشه التحالف الحكومي إلى تداعيات النمط الانتخابي المعمول به اليوم، والعتبة الصغيرة والتقطيع المشوه (الرسالة الرابعة)، أما الخلاصة فهي، حسب القيادي الاشتراكي، أن هذا النمط من الاقتراع «سيتركنا دائماً في مشهد سياسي مبلقن. مشهد بتحالفات هشة، فيها خمسة أحزاب تقضي جل وقتها في التوافق، والصراع، والبحث عن حلول للتحالف، عوض البحث عن حلول لمشاكل البلاد».
حبذا لو كان هذا هو بلاغ المكتب السياسي للاتحاد، الذي كان معروفا بالانحياز إلى التأويل الديمقراطي للدستور، والدفاع عن الوضوح في المشهد السياسي، وعن قيام حكومات مسؤولة وتحالفات واضحة، لكن يبدو أن القيادة الجديدة للوردة لها حسابات أخرى ومنهجية مغايرة.
ماذا يوجد وراء الأزمة التي فجرها حزب الاستقلال بإعلانه الانسحاب موقوف التنفيذ من حكومة بنكيران؟ ماذا يوجد وراء قرار تصدير الأزمة الحكومية إلى القصر من خلال التلويح بالفصل 42 من الدستور، الذي يعطي الملك أدوارا تحكيمية بواسطة ظهائر بين مؤسسات الدولة، وليس بين الأحزاب؟ شباط يعرف أن أحزاب المعارضة، وخاصة الأحرار، لن تقبل تعويضه في الأغلبية الحالية لاعتبارات معروفة، ومن ثمة فإن احتمال تشكيل حكومة ثانية بقيادة بنكيران غير وارد الآن، وإن استمرار الحكومة عرجاء هو الخيار الأوفر حظا، وشباط يعرف أن الدولة والأحزاب، في المعارضة كما في الأغلبية، لا تستطيع الذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها، لأنها مغامرة غير محسوبة، قد تعيد حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة أقوى مما كان. شباط يعرف أيضاً أن هناك أوساطا في دوائر صناعة القرار لم تطبع بعد مع حزب المصباح، ومازالت تنتظر أن يغلق قوس الربيع العربي لترجع إلى السطر، وتبدأ فصلا جديدا من إحياء السلطوية، ولهذا يقدم زعيم حزب الاستقلال نفسه كمكلف بالتصدي لنفوذ وشعبية الحزب، وهذا هدف مشروع، لكن يجب أن يكون وفق القواعد الديمقراطية وفي صناديق الاقتراع، وليس بأساليب ملتبسة.
بنكيران يتحمل جزءا من المسؤولية عن الأزمة الحالية لأنه، ومنذ صعد شباط إلى رئاسة حزب الاستقلال، كان واضحا أن استراتيجية الحزب تغيرت، وأن الاستقلال لم يعد حليفا في الحكومة، ولكنه صار منافسا وخصما، هدفه إضعاف الحكومة لأن غلتها، حسب تقديره، تذهب إلى سلة العدالة والتنمية، ولا تُقتسم بالتساوي بين مكونات الأغلبية. لهذا كان تجاهل بنكيران لتهديدات شباط سوءا في التقدير، كما كانت توقعات بنكيران باستحالة وصول شخص مثل شباط إلى رئاسة حزب الاستقلال خطأ في التقدير.
رئيس الحكومة لم يضع الخطة «باء» لما بعد تهديد شباط بهدم الحفل، وإلى الآن لا يقدم بنكيران جوابا سياسيا عن الأزمة الراهنة، ويعتقد أن القصر سيجد له مخرجا لتفكك أغلبيته، مع أن الدستور يتيح له إمكانات أخرى للخروج من النفق، مثل حل البرلمان، أو تقديم استقالته إلى الملك وإعادة تكليفه بتشكيل حكومة جديدة وتحالف جديد. الذي يدفع ثمن التردد في إيجاد حل لأزمة الأغلبية الحكومية ليس الأحزاب، للأسف، بل اقتصاد البلاد ومناصب الشغل وفرص الاستثمار. رجال ونساء الأعمال في المغرب وخارجه لا يتعاملون مع البلاد النامية، مثل بلادنا، على أنها دولة مؤسسات، بل يهمهم أن يعرفوا من في الحكم ومع من سيتحدثون. أيام كان إدريس جطو، سنة 2007، يتفاوض مع كارلوس غصن، الرئيس المدير العام لمجموعة «رونو»، حول مصنع طنجة، قال غصن لجطو (وهذا كلام سمعته من فم الوزير الأول السابق): «أنا مستعد لأن أقبل بهامش المخاطرة الموجود في هذا المشروع الكبير إذا قلت لي إنك كوزير أول ستبقى على رأس الحكومة لولاية أخرى، حتى يكتمل المشروع». جطو قال له: «هذا الأمر ليس بيدي، إنه قرار الملك محمد السادس، والبلاد مقبلة على انتخابات جديدة، ولا أحد يعرف نتيجتها». المهم في هذه الحكاية هو الطريقة التي ينظر بها الرأسمال إلى الحكومات والاستقرار في دول العالم الثالث، ولهذا فإن استمرار الأزمة الحالية يكلف البلاد غاليا، أكثر مما تتصور النخب الحزبية التي لا ترى أبعد من كرسي هنا ومنصب هناك، للأسف.