أخيرا قرر المجلس الوطني لحزب الإستقلال الإنسحاب من حكومة بنكيران، وذلك بعد عدة أشهر من الحرب الكلامية التي شنها "حميد شباط " على بنكيران وحكومته منذ توليه منصب الأمانة العامة لحزب الميزان. الإنسحاب المعلن ينسجم مع خطاب المعارضة الذي عبر عنه الإستقلاليون خلال الآونة الأخيرة، وينهي حالة النشاز التي ميزت موقع الحزب الذي نصب نفسه في موقع المعارضة بالرغم من أنه مكون أساسي من مكونات الحكومة... غير أن قرار الإنسحاب يطرح علامات استفهام كبيرة تتعلق بتوقيته ودواعيه الحقيقية وطبيعة الخريطة السياسية الجديدة التي سيفرزها هذا الخيار. بانسحابه هذا يكون حزب الإستقلال قد وضع الحكومة في أزمة غير مسبوقة، لكنه فوض للملك أمر الفصل في هذا القرار. وهنا لابد من فهم دلالات " التحكيم الملكي" الذي دعا إليه الحزب. فالإنسحاب بهذا المعنى ليس قرارا نهائيا، لأنه يبقى منفتحا أمام كثير من الإمكانيات ويرتبط بالموقف الذي ستتخده المؤسسة الملكية لتدبير هذا المستجد. لذلك فإن استخدام مفهوم التحكيم يحمل معنى " الشكوى" بالمفهوم المغربي الدارج. فالإستقلاليون يطلبون تدخل الملك للفصل في خلافاتهم مع بنكيران بشأن الأداء الحكومي. ولابد من التذكير في هذا السياق بمذكرة شباط التي لم تلق أذنا صاغية من بنكيران خصوصا في ما يتعلق بمطالبه الملحة في إجراء تعديل حكومي. وقد كان واضحا منذ مدة أن قيادة حزب الإستقلال تسير في اتجاه تصعيدي بلغ أوجه بمناسبة مسيرة فاتح ماي التي نظمها الحزب تحت يافطة ذراعه النقابي. وخلالها شن أمينه العام هجوما لاذعا على الحكومة ووزع الإتهامات على بعض وزرائها بشكل أثار اهتمام الرأي العام، وخلف ردود أفعال غاضبة لدى باقي شركاء التحالف الحكومي. الشارع المغربي ينتظر مآلات الحكومة بعد الخروج "المفترض" لحزب الإستقلال، والسيناريوهات الممكنة محدودة، فالحكومة تكون بهذا قد فقدت أغلبيتها البرلمانية، ورئيسها مطالب بالبحث عن بديل جديد عبر التحالف مع حزب من المعارضة. ولا يبدو أن هذه الإمكانية واردة في المرحلة الحالية على الأقل في ما يتعلق بالقوى الحزبية التقليدية التي يمكن أن تعيد التوازن العددي للأغلبية. إذ وبدون انضمام الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية أو التجمع الوطني للأحرار أو الأصالة والمعاصرة للفريق الحكومي ( وكل المؤشرات تستبعد هذا الإنضمام) لن يحقق بنكيران الأغلبية اللازمة للاستمرار على رأس الحكومة. أما باقي المكونات البرلمانية وعلى رأسها حزب الإتحاد الدستوري فلن تنقذ رئيس الحكومة حتى ولو تحالف معها جميعها... لذلك يمكن اللجوء إلى سيناريو آخر يتم العمل به عادة في كل الديموقراطيات التي تعرف أزمات سياسية من هذا القبيل. الأمر يتعلق بحل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، لكن هذا الخيار يظل مستبعدا أيضا في سياق المرحلة الحالية بكل ما يشهده المغرب من استحقاقات وتحديات سياسية أفرزتها المستجدات الأخيرة في ملف الصحراء، واجتماعية يفرضها الوضع الإقتصادي الهش وتداعياته التي تهدد السلم الإجتماعي. ثم إن الدعوة لانتخابات جديدة قد لا يغير شيئا من واقع المشهد السياسي ببلادنا، لأن أية عملية انتخابية في هذه المرحلة ستكون في مصلحة العدالة والتنمية من جديد، وذلك بالنظر إلى أن خلخلة التحالف الحكومي سيرفع من نسبة المتعاطفين مع البيجيدي، وهو ما من شأنه أن يرفع من شعبية الحزب بالرغم من التخبط الذي أظهره في قيادته للتجربة الحكومية. وهكذا لن تكون هذه الإنتخابات المفترضة إلا تكرارا لتجربة نونبر 2011. من المؤكد أن هذه المعطيات كانت حاضرة بقوة في الخطوة التي أقدم عليها حزب الإستقلال. لذلك فإن القراءة الأقرب إلى الحقيقة هي تلك التي تضع قرار الحزب في سياقه الواقعي، فبين أن السيد شباط يبعث برسائل واضحة لمن يهمه الأمر. إنه يضع رئيس الحكومة أمام مأزق حقيقي، ويؤكد للرأي العام أن حزبه هو الذي يصنع التوازنات السياسية في هذا البلد ويتحكم بمعنى من المعاني في المشهد الحكومي. لذلك فإن قرار الإنسحاب قد يكون في هذا المقام بمثابة خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام، لأن بنكيران سيكون مجبرا على تقديم تنازلات لشريكه القوي في الحكومة، وسيكون ملزما بالخضوع لهذا " الإبتزاز" السياسي إن أراد أن يستمر في إبقاء حزبه في موقع الحكومة. أي أن هذا الإنسحاب المعلن هو ورقة تفاوضية يرفعها الإستقلاليون في وجه بنكيران من أجل تحقيق مكتسبات تضعف دور العدالة والتنمية في الحكومة. والمطالبة بالتحكيم الملكي تؤكد طموح حزب الميزان، فالتعديل الحكومي سيصبح في الأيام القليلة المقبلة خيارا لا مفر منه. وهذا هو المطلب الأساسي الذي يحرك موقف القيادة الإستقلالية. وعلى السيد بنكيران أن ينحني للعاصفة ويستمع لشباط تفاديا للأزمة.