ماذا لو تقدم لخطبتها شاب مهذب متعلم ثرى ومن أسرة عريقة، عريس ممتاز لكنه تزوج من قبل وطلق زوجته بغير أن ينجب منها.. هل تقبله زوجاً لابنتك؟!.. سوف تهتم غالباً بمعرفة سبب طلاقه من زوجته الأولى، فإذا تبين لك أنه لم يقصر معها ستوافق على زواجه من ابنتك وستبرر موافقتك قائلاً: «صحيح أنه تزوج ولم يوفق، لكن الذنب ليس ذنبه».. ماذا لو حدث العكس؟! لو أن ابنك الذى لم يسبق له الزواج قرر أن يتزوج من سيدة مطلقة، سترفض غالباً قبل أن تعرف أسباب طلاقها، لن تتحمل فكرة أن يتزوج ابنك من سيدة سبق لها الزواج، لأنك تحب له أن يتزوج من فتاة بكر لم يمسسها رجل قبله. ما سبب هذا التناقض فى تصرفاتك مع ابنك وابنتك مع أن الحالة واحدة؟! السبب أن الزواج يحمل فى ذهنك معنى استعمال جسد المرأة، الرجل لا يعيبه أن يتزوج ويطلق، أما المرأة المطلقة فهى امرأة مستعملة، فض بكارتها رجل واستعمل جسدها وقضى وطره منها، ثم تركها ليستعملها رجل آخر. أنت لا تحب لابنك أن يتزوج امرأة مستعملة.. سوف تزعجك فكرة أن عروس ابنك قد قبلها رجل قبله وداعب جسدها وضاجعها. أنت تحب لابنك أن يتزوج فتاة بكراً ليكون هو أول مستهلك لجسدها. فى الواقع أنك تتعامل مع زواج ابنك وكأنه يشترى سيارة. إذا كان يملك ثمن سيارة جديدة فلا يجب أن يركب سيارة استعملها سواه من قبل.
إن نظرتنا للمرأة باعتبارها جسداً قابلاً للاستعمال كامنة فى أعماقنا مهما تظاهرنا بغير ذلك.. مهما تحدثنا عن حقوق المرأة، ومهما نلنا من التعليم فإن معظم الرجال المصريين عاجزون فعلاً عن رؤية المرأة بعيداً عن جسدها. عاجزون عن رؤية المرأة خارج إطار الأنثى.. يستوى فى ذلك الذين يحاولون إغواء المرأة والذين يسعون لحمايتها من الغواية. سواء اختلسنا النظر إلى جسدها العارى أو فرضنا عليها زياً محتشماً، فإننا لا نرى فيها إلا الأنثى.. هنا يستوى زير النساء والرجل المحافظ. كلاهما عاجز عن رؤية الجانب الإنسانى فى المرأة. كل رجل يجادل فى هذه الحقيقة عليه أن يسأل نفسه: كم مرة رأى فيها امرأة ولم يفكر فى جسدها ولو للحظة واحدة؟ كم مرة رأى امرأة فاهتم فعلاً بتعليمها أو بكفاءتها المهنية بغير أن يختلس النظر إلى صدرها أو مؤخرتها؟! اختصار المرأة فى جسدها لا علاقة له بملابس المرأة، وإنما ينتج عن نظرة منحطة للمرأة تنزع عنها الطابع الإنسانى ولا ترى فيها إلا أداة للمتعة والغواية. إن تغطية جسد المرأة لن يفيدنا كثيراً فى تعلم الفضيلة ما لم نتوقف نحن الرجال عن التفكير فى المرأة كجسد وليس كإنسان حدث أنه أنثى كما أن الرجل إنسان حدث أنه ذكر.
فى مصر المنفتحة المتسامحة التى استمرت حتى نهاية السبعينيات كانت المصريات يرتدين الملابس الحديثة القصيرة وينزلن إلى البحر وقد ارتدين المايوهات، وبالرغم من ذلك كان التحرش الجنسى نادر الحدوث.. أما الآن فى مصر التى تتظاهر بالتدين فإن معظم النساء يرتدين الحجاب والنقاب ومع ذلك انتشر التحرش الجنسى كالوباء، حتى صار سلوكاً يومياً تتعرض له معظم النساء.المؤسف هنا إدانة الضحية التى يمارسها المجتمع حين يعتبر المرأة مسؤولة عن التحرش لأنها ترتدى ملابس مثيرة. ما أبعد ذلك عن الحقيقة. إن التحرش الجنسى يزيد فى المجتمعات المغلقة، التى تفرض على المرأة تغطية جسدها، أكثر من المجتمعات التى ترتدى فيها المرأة ما تشاء من الثياب.. فى دراسة أجريت تحت إشراف وكالة رويتر للأنباء تم قياس معدل التحرش الجنسى بالنساء العاملات فى 24 دولة، فجاءت السعودية فى المرتبة الثالثة، بحيث وصل التحرش بالعاملات إلى نسبة 24 فى المائة، وهى نسبة أعلى بكثير من نسبة التحرش فى البلاد الغربية. فقد بلغ التحرش فى ألمانيا 5%، وفى بريطانيا 4%، وفى إسبانيا 6%، أما السويد فقد احتلت المرتبة الأخيرة بنسبة لا تزيد على 3%.
أى أن معدل التحرش الجنسى فى بلد مغلق يفرض على المرأة تغطية جسدها بالكامل بلغ سبعة أضعاف التحرش فى بلد منفتح تماماً لا يتدخل فى حياة النساء ولا يفرض عليهن زياً محدداً مثل السويد.. هذه المعدلات تؤكد أن التحرش لا علاقة له بزى المرأة، وإنما بنظرة الرجل للمرأة. إذا احترم الرجل المرأة واستطاع أن يتعامل معها كإنسان لا يمكن أن يتحرش بها، أما إذا تلخصت المرأة فى ذهنه على هيئة جسد للمضاجعة فإنه لن يتردد فى التحرش بها إذا أمِن العقاب. هنا نتساءل: هل يقدم الإسلام نظرة متحضرة أم رجعية للمرأة؟! هل كانت نظرة المصريين دائماً للمرأة كأداة للمتعة والغواية؟ الحق أن الإسلام دين عظيم، لكنه شأن الأديان جميعاً من الممكن قراءته بأكثر من طريقة.. يمكن تقديم قراءة صحيحة للإسلام تحفظ للمرأة حقوقها وإنسانيتها، ويمكن أيضاً عبر قراءة خاطئة متخلفة للإسلام أن تختصر المرأة فى وظيفتها الجنسية.
لقد عرفت مصر القراءتين: ظهرت حركة تجديد دينى فى مصر خلال القرن التاسع عشر بلغت أوجها بظهور الإمام محمد عبده «1849 1905»، الذى قدم قراءة متحضرة للإسلام وحرر العقل المصرى من الخزعبلات، فانطلق المجتمع المصرى ليبدع فى كل المجالات واكتسبت المرأة المصرية حقوقاً لم تتوفر لها فى معظم البلدان العربية. خلعت المرأة المصرية البرقع التركى وكانت رائدة فى التعليم والعمل، حتى إنه فى عام 1933 احتفل المصريون بأول امرأة مصرية تقود طائرة «لطفية النادى»، واعتبروا حصولها على شهادة الطيران إنجازاً قومياً.. استمرت هذه النظرة التقدمية المتحضرة للمرأة حتى نهاية السبعينيات، عندما وفدت على مصر القراءة الوهابية للإسلام.
تضاعف سعر النفط بعد حرب 73 مما أعطى الأنظمة الحاكمة فى الخليج قوة اقتصادية غير مسبوقة، ولأن معظم الأسر الحاكمة هناك متحالفة مع مشايخ الوهابيين فإن نشر الفكر الوهابى فى أنحاء العالم يساعد على دعمها سياسياً، من هنا أنفق حكام الخليج ملايين الدولارات من أجل نشر القراءة الوهابية للإسلام.. أضف إلى ذلك أن ملايين المصريين هاجروا للعمل فى الخليج وعادوا إلى مصر وقد تشبعوا بالفهم الوهابى للإسلام.
وكما أدى الفهم المستنير للإسلام إلى تحرر المرأة المصرية فإن انتشار الفكر الوهابى قد فرض النظرة الرجعية للمرأة. المرأة بالنسبة للوهابيين ليست إنساناً كامل الإرادة.. إنها ناقصة عقل ودين وغير قادرة على كبح شهواتها، وهى قبل ذلك أداة خطيرة للغواية يجب حجبها تماماً عن الأنظار، حتى إن بعض شيوخ الوهابية دعوا المرأة «إذا كانت عيناها جميلتين» إلى ارتداء النقاب بعين واحدة، خوفاً من غوايتها.
بعض الشيوخ الوهابيين يبيحون الزواج من الطفلة فى سن العاشرة مادامت تطيق المعاشرة، بعضهم يعتقدون أن الزوج ملزم بالإنفاق على زوجته مادام قادراً على الاستمتاع بها، أما إذا ألم بها مرض فإن الرجل غير ملزم بالإنفاق على علاج زوجته المريضة، لأنه فى رأيهم مثل مستأجر الشقة غير ملزم بإصلاح جدارها إذا تهدم، وبالمثل فإن الزوج غير ملزم بإصلاح جسد زوجته إذا عطب.. نحن إذن أمام طريقتين متناقضتين لفهم الإسلام، طريقة إنسانية متحضرة وطريقة وهابية متخلفة عن العصر.. الطريقة المتحضرة تعتبر المرأة إنساناً قبل أن تكون أنثى وتعطيها حقوقها جميعاً وتدفعها للتقدم فى التعليم والعمل، والطريقة الوهابية تختزل المرأة فى دورها كأنثى تستعمل للمتعة والإنجاب.
وقد انتقلت النظرة الوهابية من الخليج إلى الشعب المصرى، ثم منه إلى السلطة الحاكمة.. كل الذين تولوا الحكم فى مصر قبل الثورة وبعدها يشتركون فى نظرتهم الرجعية للمرأة.. رموز نظام مبارك ولواءات المجلس العسكرى وقيادات الإخوان المسلمين قد يختلفون فى أشياء، لكنهم يشتركون جميعاً فى نظرتهم الاستعلائية للمرأة، التى تختصرها فى وظائفها البيولوجية. وهم جميعاً ينزعجون بشدة من اشتراك المرأة فى العمل العام ويصيبهم قلق بالغ من اشتراك النساء فى المظاهرات المعادية للنظام.
لقد مارسوا جميعاً قمعاً جنسياً على المتظاهرات بغرض ترويعهن وإذلالهن حتى يهجرن العمل العام ويعدن إلى بيوتهم ليتفرغن للعيال والغسيل والطبخ. إن التحرش الجنسى المنظم الذى ارتكبه نظام مبارك ضد المتظاهرات هو ذاته التحرش الذى تعرضت له المتظاهرات تحت حكم الإخوان، وهو يتطابق فى المضمون مع جرائم المجلس العسكرى فى سحل البنات وتعريتهن وهتك أعراضهن بكشوف العذرية. الفاشية الدينية مثل الفاشية العسكرية فى عدائها للمرأة وذعرها من فكرة تحررها.
منذ أيام أصدرت الأممالمتحدة وثيقة ضد استعمال العنف ضد المرأة. استبق الإخوان المسلمون صدور الوثيقة وأصدروا بياناً ليرفضوها قبل أن تصدر واتهموا الوثيقة بما لم يرد فيها.. لا يستطيع الإخوان أن ينبذوا العنف ضد المرأة، لأنهم ببساطة لا يرونها إنساناً كامل الأهلية. كيف ينبذون العنف وهم يجيزون الزواج من الطفلة فى سن العاشرة مادامت تطيق المعاشرة، ولا يهم بعد ذلك الدمار النفسى والعصبى الذى سيصيب طفلة تتم معاشرتها جنسياً من شخص بالغ. إنهم قد يعتبرون اغتصاب الزوجة من زوجها عملاً غير لائق، لكنه عندهم لا يمكن أن يشكل جريمة جنائية، لأن الرجل من حقه الاستمتاع بجسد زوجته متى وكيفما يشاء.
.. لقد حررت الثورة أفكار المصريين وأعادت إليهم النظرة المتحضرة للمرأة.. لقد كان دور المرأة المصرية عظيماً وأساسياً فى الثورة، ولولا المرأة لما استمرت الثورة يوماً واحداً. إن جوهر الصراع الدائر فى مصر الآن بين الفكر الرجعى، الذى يقمع الإنسان ويهين كرامته لحساب الاستبداد، وبين الفكر الحر، الذى قدمته إلينا الثورة حتى نكون جديرين بإنسانيتنا. إن منح المرأة حريتها وحقوقها فى رأيى من أهم أهداف الثورة.
جوهر الصراع بين المستقبل والماضى. بين الحلم بمجتمع ديمقراطى تتمتع فيه المرأة بحقوقها وتكون فيه سيدة مصيرها، وبين رؤية رجعية للمرأة تعتبرها أداة شرعية للاستعمال الجنسى. لن تتحرر مصر من الاستبداد قبل أن تتحرر المرأة من كل ما يقيد إنسانيتها.. فقط عندما نتعلم كيف نحترم المرأة سنكون قادرين على تحقيق أهداف الثورة لتبدأ مصر المستقبل الذى تستحقه.