تسيطر حركة الشباب الصومالية على أجزاء كبيرة من جنوب ووسط الصومال. ولأن المسؤولين في هذه الحركة يعتنقون الفكر الوهابي، فقد قاموا بفرضه بالقوة على الصوماليين، فأصدروا قرارات مشددة بمنع الأفلام والمسرحيات والرقص في الأفراح ومباريات كرة القدم وكل أنواع الموسيقى، حتى النغمات التي تنبعث من التليفون المحمول. منذ أيام، قام هؤلاء المتطرفون بتصرف غريب: فقد ألقوا القبض على امرأة صومالية وجلدوها علنا.. لأنها كانت ترتدي مشدات للصدر (سوتيان).. وقد أعلنوا بوضوح أن ارتداء هذه المشدات ضد الدين لأنه يعتبر نوعا من الغش والتضليل.. ولنا هنا أن نسأل: ما علاقة الدين بارتداء مشدات الصدر؟ ولماذا يعتبرونها غشا وتضليلا؟ ثم كيف تمكنوا من ضبط المرأة التي ترتدي مشدات الصدر مع أن الصوماليات، جميعهن، أجسادهن مغطاة بالكامل؟ هل قاموا بتعيين ضابطة متخصصة للكشف على صدور النساء العابرات في الشارع؟! لقد صرحت امرأة صومالية اسمها حليمة لوكالة «رويترز» قائلة: «لقد أجبرنا (هؤلاء المتطرفون) على التحجب على طريقتهم، والآن يجبروننا على هز صدورنا. في البداية، منعوا الشكل السابق من الحجاب وجاؤوا بأقمشة خشنة تغطي صدور النساء، والآن يقولون إن الصدور يجب أن تكون مشدودة بشكل طبيعي أو مسطحة (!)». الحق أن هذا الاهتمام البالغ بتغطية جسد المرأة لا يقتصر فقط على متطرفي الصومال، ففي السودان يفتش رجال الشرطة بمنتهى اليقظة حول ملابس النساء ويقومون بالقبض على أي امرأة ترتدي البنطلون.. ثم يجبرونها على الاعتذار العلني عن فعلتها، وبعد ذلك يجلدونها علنا لتكون عبرة لسواها من النساء.. منذ أسابيع، أصرت الصحفية السودانية لبنى الحسيني على ارتداء البنطلون ورفضت الاعتذار العلني ورفضت عقوبة الجلد، فأحيلت على محاكمة حقيقية، واكتملت المهزلة بأن استدعى القاضي ثلاثة شهود وسألهم إن كانوا قد لمحوا ظل الملابس الداخلية للمتهمة وهي ترتدي البنطلون.. وعندما تردد أحد الشهود في الإجابة، سأله القاضي بصراحة: هل رأيت كرش لبنى وهي ترتدي البنطلون؟ فأجاب الشاهد الموقر قائلا: إلى حد ما.. وقد أكدت لبنى أنها ارتدت بنطلونا محتشما وأن البنطلون الفاضح الذي يتهمونها بارتدائه، لا يصلح لها إطلاقا لأنها ممتلئة وتحتاج إلى إنقاص نحو 20 كيلوجراما من وزنها حتى تتمكن من ارتدائه.. غير أن القاضي قضى بإدانتها وحكم عليها بأداء غرامة 500 جنيه أو الحبس لمدة شهر.. وفي مصر أيضا، يستمر انشغال المتطرفين البالغ بجسد المرأة وحرصهم على تغطيتها تماما.. فهم لا يدعون النساء فقط إلى ارتداء النقاب وإنما إلى لبس قفازات سميكة في أيديهن، وهذه كفيلة -في رأيهم- بمنع الشهوة بين الرجل والمرأة إذا تصافحا.. نحن فعلا أمام ظاهرة تستحق التأمل: لماذا ينشغل المتطرفون بجسم المرأة إلى هذا الحد؟ بعض الأفكار ربما تساعدنا على الإجابة: 1 يختصر الفكر المتطرف المرأة في كونها جسدا وأداة للمتعة الشرعية أو الغواية، ومصنعا لإنجاب الأطفال.. وهو بذلك ينزع عنها الطابع الإنساني. إن اتهام المرأة الصومالية بالغش والتضليل لأنها ارتدت مشدات للصدر هو ذاته الاتهام بالغش التجاري الذي يوجهه القانون إلى التاجر الذي يخفى عيوب سلعته أو يضفى عليها مزايا زائفة ليبيعها بسعر أعلى. الفكرة هنا أن المرأة التي تبرز صدرها باستعمال المشدات تقدم صورة زائفة للسلعة (جسدها)، مما يعتبر غشا وتضليلا للمشتري (الرجل) الذي قد يشتريها (يتزوجها) إعجابا بصدرها البارز ثم يكتشف بعد فوات الأوان أن هذا البروز جراء استعمال المشدات وليس طبيعيا.. من الإنصاف هنا أن نذكر أن التعامل مع جسد المرأة باعتباره سلعة، لا يقتصر فقط على فكر المتطرفين، لكنه كثيرا ما يحدث في المجتمعات الغربية أيضا.. إن استعمال جسد المرأة العاري لتسويق المنتجات التجارية في الغرب ليس إلا تطبيقا آخر لفكرة أن المرأة سلعة.. وكل من يزور المنطقة الحمراء في أمستردام بهولندا سيشاهد بنفسه كيف يتم حشد العاهرات البائسات عاريات تماما وراء واجهات زجاجية، حيث يقوم المارة بتفقد محاسنهن قبل الاتفاق على السعر.. أليس هذا سوقا عصريا للرقيق..؟! تباع فيه أجساد النساء لكل من يدفع. 2 يعتبر المتطرفون المرأة أصل الغواية والمسؤول الأول عن الخطيئة. وهذه النظرة، التي شاعت في المجتمعات البدائية جميعا، ظالمة وغير إنسانية. فالخطيئة يقترفها الرجل والمرأة معا ومسؤوليتهما عنها مشتركة ومتساوية. وإذا كانت المرأة الجميلة تثير الرجال وتغويهم، فإن الرجل الوسيم أيضا قد يثير النساء ويغويهن. لكن الفكر المتطرف منحاز بطبيعته إلى الرجل ومعاد للمرأة، فهو يعتبرها المسؤولة الأولى عن الآثام جميعا. 3 يعتبر التشدد في تغطية جسد المرأة نوعا سهلا ومريحا من النضال الديني. ونحن نرى في مصر عشرات الشيوخ الوهابيين الذين يدعون، بحماس بالغ، إلى تغطية جسم المرأة لكنهم لا يتفوهون بكلمة واحدة ضد الاستبداد أو الفساد أو التزوير أو التعذيب.. لأنهم يعلمون جيدا أن معارضتهم الجدية للنظام المستبد (التي هي في الحقيقة واجبهم الأول) ستؤدى حتما إلى اعتقالهم وتعذيبهم وتدمير حياتهم.. وبالتالي، فإن تشددهم في ما يخص جسد المرأة يمكنهم من ممارسة الدعوة الدينية دونما تكاليف حقيقية. وعلى مدى التاريخ الإنساني، كان التشدد ضد المرأة غالبا وسيلة لإخفاء الجرائم السياسية أو حتى الجنائية، فالصومال بلد بائس واقع بالكامل في براثن المجاعة والفوضى، لكن المسؤولين هناك مشغولون عن ذلك بالتفتيش عن مشدات الصدر.. والنظام السوداني متورط في جرائم قتل وتعذيب واغتصاب آلاف الأبرياء في دارفور، لكن ذلك لم يمنعه من عقد محاكمة صارمة للسيدة التي أصرت على ارتداء البنطلون.. إن المرأة، أكثر من الرجل، هي التي تدفع دائما ثمن الاستبداد والفساد والنفاق الديني. 4 يفترض الفكر المتطرف أن البشر مجموعة من البهائم السائبة العاجزة تماما عن التحكم في غرائزها.. فيكفي أن يرى الرجل جزءا عاريا من جسد المرأة حتى ينقض عليها ليواقعها.. وهذا الافتراض غير صحيح، فالإنسان، على عكس الحيوان، بمقدوره دائما أن يتحكم في غرائزه بواسطة العقل والأخلاق. والرجل العادي، إذا كان سويا، لا يمكن أن تثير غريزتَه أمُّه أو أخته أو ابنته أو حتى زوجة صديقه.. لأن إحساسه بالشرف والأخلاق يسمو به على الشهوة ويقضي على تأثيرها. الفضيلة، إذن، لن تتحقق أبدا بالمنع والقمع ومطاردة النساء في الشوارع وإنما تتحقق، فقط، بالتربية الجيدة وبث الأخلاق وتهذيب الشخصية. إن المجتمعات التي تفصل بالقوة بين الرجال والنساء (مثل أفغانستان والسعودية) -طبقا للإحصائيات الرسمية- لا تقل فيها الجرائم الجنسية عن المجتمعات الأخرى وربما تزيد. نحن نوافق على احتشام المرأة وندعو إليه، ولكننا ندعو قبل ذلك إلى النظرة الإنسانية إلى المرأة التي تحترم قدراتها وإرادتها وتفكيرها.. المحزن حقا أن التطرف الوهابي، الذي ينتشر بأموال النفط في أنحاء العالم ويعطي صورة سيئة كريهة عن المسلمين، هو أبعد ما يكون عن تعاليم الإسلام الحقيقي. إن القارئ المنصف لتاريخ الإسلام لا بد أن ينبهر بالمكانة الرفيعة التي منحها للمرأة، فمنذ عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وحتى سقوط الأندلس كانت المرأة المسلمة تختلط بالرجال وتتعلم وتعمل وتتاجر وتقاتل وتمتلك ذمة مالية منفصلة عن أبيها وزوجها وتملك الحق في اختيار الزوج الذي تحبه وحق التطليق إذا أرادت.. كل هذه الحقوق منحتها الحضارة الغربية للمرأة بعد الإسلام بقرون طويلة. وأخيرا، فإن التطرف الديني هو الوجه الآخر للاستبداد السياسي.. لا يمكن أن نتخلص من التطرف قبل أن ننهي الاستبداد. الديمقراطية هي الحل.