الطريق إلى أكدز مرعبة. تمر بالضرورة عبر الخوف واقتفاء أثر الرعب والمجهول. هذا ما يرسمه زميلنا سعيد بنرحمون في روبرطاج قبل أن يصل إلى منطقة أقفلت معتقلها ولم تودع الطريق إليها رعب الزمان والمكان. في ساحة متوسطة الاتساع، ليست مرصوصة كليا وليست متربة كليا، وأمام مقهى فارغة إلا من أناس ينتمون للمغرب العتيق، ثيابهم رثة قريبة إلى الأسمال، وقف بعض الحمالة بعرباتهم اليدوية في انتظار انفتاح الأبواب، غير بعيد عنهم تراصت عربات أخرى تجرها دواب، توقفت الحافلة مطلقة زفرة قوية، خلفت غيمة من تراب، اندس داخلها حمالة الأمتعة دون كبير مبالاة، توقفت الحافلة بعد ليلية مضنية من السفر ومن العذاب، خاصة في مقطع "تيشكا" الرهيب.. الطريق إلى أكدز يٌختصر في هذا المقطع الشهير، في ذلك المكان الذي يقال إنه آية من جمال البلاد، لكن الخوف والظلمة الشديدة لم يتركا مجالا لتأمل أي شيء، هناك تقف على حقيقة أن السفر قطعة حقيقة من عذاب، ومن خوف، ومن معاناة، رهبة الطريق جعلت الألسن تلهج بذكر الله، عله يكتب لها السلامة في كل لفة تلفها عجلة الحافلة المنهكة، الطريق لا يستقيم خط سيره أكثر من نصف كيلومتر على الأكثر، قبل أن يلتوي من أقصى إلى أقصى، في الصعود وفي النزول، وعلى جانبيه جبال منحوتة وأشجار عملاقة ومنحدر موت سحيق.. كل شيء في هذا الطريق يميل إلى التطرف، ضيقه بالكاد يسع حافلتنا وسيارة من الحجم الصغير، انحدار حافته، اليمنى تارة واليسرى تارة.. هنا الطبيعة ما تزال عصية على الترويض، ضخامة مقاطع الجبل المنحوت تشي بالعظمة، وحتى الأشجار متطرفة الضخامة، أما السائق فهو أكثر الأشياء تطرفا هنا، يمضي بالركاب الهلعين بسرعة تبدو لهم قاتلة ويراه هو عادية، ولا أحد يستطيع أن ينبس ببنت شفة، رباه هل توجد في هذا المكان حياة؟ كيف يصمد الناس هنا؟ كيف تستطيع أعصاب هذا السائق تحمل كل هذا الرعب؟ والأدهى كيف يتسنى لهم السفر في هذا المكان ليلا؟ أضواء الحافلة تكشف لنا عن وجه الموت المتربص بنا في كل مكان، تريك قبل الانعطاف شيئا من الرعب وتخفي أشياء، وكأنها تُكبرعليك رأيته قطعة واحدة، لتُنهي مسلسل تشويقها المرعب في نهاية المسير فترى وجه الرعب القبيح كله. فجأة اتسع الطريق وبات قادرا على احتضان بعض الحافلات في كلا الاتجاهين، تصل الحافلة بعد ساعات طوال، تخالها من ثقلها عمرا، إلى مكان ما بين الجبال، فضاء مؤثت ببعض الدور المعلقة في حضن الظلام، وبعض المقاهي العتيقة المتزاحمة على ضفتي الإسفلت، رائحة اللحم المشوي على الفحم تزكم الأنوف، لكن رائعة رعب الطريق كانت أقوى فأزكمت القلوب قبل الأنوف، تصطف حافلتنا جنب الأخريات، وينزل الركاب تباعا من بطنها الملآن، وكأنها أصيبت بالدوار من كثرة اللفات، فأخرجت ما بطنها عن آخره، تلامس أرجل الناس الأرض، فتراهم سكارى وما هم بسكارى، يستشعرون الحياة تعود إلى قلوبهم بدفء غريب، حقا الأرض أمنا الحنون، وأماننا الحقيقي، لا أمان في البحر، ولا أمان في الجو، ولا أمان في ركوب الطريق.. لم ينتبه أحد للوقت، وهو أيضا لم يعرنا اهتمامه، خوف الناس كان أقوى منه، بل ثقله تحالف مع الظلمة فزاد من خوفهم، كم تضرعوا إليه أن يزيل عنهم رداء الليل الثقيل، لكنه أبى وأصر على اللعب بدقات قلوبهم، يسرعها طورا ويبطئها حد التجمد أطوارا، في هذا المكان الوقت سيد مهاب، يمضي ببطئ ثقيلا غير مبالٍ بالخائفين ولا بالمطمئنين. السائق ومرافقه منهمكان في افتراس قلب "طاجين" أسود الجوانب هرم الطين، ما يزال دهانه يتصاعد، أما الركاب فيستعيدون أنفاسهم الهاربة رويدا رويدا، البعض بدأ ينسى ما حاق به من عذاب المنعطفات، ويطلب بعض الأكلات، كيف يطيب لهم الأكل وما يزال نصف الرعب، أو يزيد، بانتظارهم؟ كيف يأكلون ومن قبل كانوا يفرغون أجوافهم من فعل اللفات؟ استأنفنا مسير الخوف بعد أن ابتعدنا عن مكان الاستراحة قليلا، توارى ضوء المكان واتساع الطريق، وعادت المنعطفات تمسك بخناق الحافلة، فتجرها ذات اليمين وذات الشمال، ومع انجرارها كانت تنجر القلوب، فترقص وجلا، كنا هذه المرة نهم بنزول الجبل، فاه بعض الركاب، بل كنا ننزل جبالا لا نهاية لها، ونطل على وديان سحيقة لا قرار لها، في النزول تتسلل الحافلة وكأنها أفعى تطارد ضحيتها، أي سِنَةٍ من سناة النوم تنجح في مداعبة أعين سائقنا، ولو للحظة بسيطة بعد "طاجينه" الدسم، نكن بعدها من الهالكين، شيئا فشيئا بدأ شخير الركاب يعلو صوت العجلات، تلك التي كانت تئِن من وقعها على إسفلت الطريق، أو ما تبقى منه، إسفلت هذا الطريق شهد وهج شموس الصيف وثلوج الشتاء سنوات عديدة، داسه الفرنسيون المحتلون، ذات غفلة من تاريخ البلاد، وسلكه جيش التحرير، ذات إشراقة من نفس التاريخ، كيف يستطيع هؤلاء القوم النوم؟ كيف يغالب التعب والسهر قلوب الخائفين؟ لكن بالمقابل لما يستيقظ الخائفون؟ هل تنفع اليقظة مع مثل هذا المكان؟ مصيرهم بين يدي السائق، بل بين يدي الطريق، المهم أن لا ينام السائق، وأن لا تغفل عيني عن ملاحظته والطريق، بين الفينة الأخرى يطل علينا ضوء شاحب من بعيد، يقترب فنتبين حقيقته، وأحيانا يتوقف ليفسح لنا الطريق، أو نتوقف لنعطيه ما فضل عنا منها، هنا لا مجال لتهور السائقين، فالنتيجة محتومة ويعرفها الجميع، ولا نتمناها لأي كان. أخيرا بدأت الظلمة تلد النور، مخاض شهدت مراحله والحافلة تلتوي بين قمم الجبال، كان لرأياه وقع ساحر في ظروف أقل قساوة، لكن الخوف سرق كل إحساس جميل، ولم يترك لنا إلا التوجس والهواجس، النور أمان ويقين، يبعث في النفس السعادة والاطمئنان، الظلمة شك ومجهول وخوف ثقيل، يحث النفس على الانقباض وعلى الحزن الشديد، بدأ الاطمئنان يكبر فينا مع أولى أشعة الشمس، ومعها بدأت معالم المكان تتضح، ما عادت الجبال ضخمة كما السابق، واختفت الأشجار كلية، لكن المنعطفات القوية تصر على إدامة رعبنا، المشهد أضحى مكونا من تلال بسيطة الارتفاع، ووديان جرداء سحيقة لا حياة فيها، وأفق مكشوف لا يتغير، ثم استوت الأرض، وكأنها لم تكن متضرسة أبدا، بات المشهد رتيبا، عاد الاطمئنان وأخذ التعب يتسرب إلى أعين الساهرين، فالخائفون لا يتعبون، وإن تعبوا ينهارون، بدأ نعاس لذيذ يداعب جفني المنهكين، وبدأت أشعر بألم في قدمي، أزلت الحداء، وحاولت تسوية مقعدي للخلف، لم أشعر إلا والشمس الحارقة تلفح وجهي من زجاج الحافلة "أفق يا هذا لقد وصلنا، حمدا لله على سلامتكم" صاح مساعد السائق البدين، بصوبة تستعيد أطرافك، رغبة واحد تعتريك، ملامسة الأرض والنوم العميق، الساعة كانت تشير إلى تمام الحادية عشر صباحا وسط مدينة يقال لها "أكدز" ويحرسها جبل شامخ من أحد جهاتها يقال له جبل "كيسان".