الساعة تشارف على السادسة صباحا والمحطة الطرقية لمدينة فاس تعج بالمسافرين القادمين من كل الجهات و الراغبين في استئناف رحلة بعد رحلة عذاب -لا يعلم بها إلا الله -يتقدم البعض نحو شبابيك بيع التذاكر ليجدوا من يوجههم الى اللحاق بالحافلات خارج المحطة ، أو الى الهاوية والوقوع ضحية عمليات نصب واقتناء تذاكر مزيفة .. مساعد سائق الحافلة (لكريسون) يؤكد أن الرحلة لن تدوم أكثر من ساعتين ويبسمل الجميع على بركة الله ، ثمن التذكرة ستون درهما وهذا مالم يعتده الركاب في مثل هذه الحافلات المهترئة . لكن الحاجة تضطر الانسان الى الركوب في أسوأ من هذا ، بل وقد تضطر البعض الى الركوب والسفر وقوفا لمسافات طويلة . وتنطلق الحافلة عبر الطريق السيار متجهة الى الرباط العاصمة ، كان أغلب الركاب متعبين ومنهم من أطلق لنفسه عنان النوم والاسترخاء رغم ضيق المكان أتذكر تفاصيل رحلتي المريرة هذه ، وقد أغمضت عيناي علي ارتاح قليلا ، اتذكر كيف تأخرت عن انطلاق حافلتي التي خرجت على الساعة التاسعة ليلا من محطة الحسيمة تجاه الرباط. لم يعد لدي من خيار سوى الرجوع الى البيت أو البحث عن حل آخر. ولو كان مكلفا من الناحية المادية ومرهقا من الناحية الجسدية والنفسية .. كان علي أن اتواجد في العاصمة الرباط للمشاركة في المعركة الوطنية التي يخوضها موظفو الجماعات المحلية المجازين و غير المدمجين في السلم العاشر تنديدا واستنكارا لتعامل الحكومة مع هذا الملف الذي هو استفزاز لمشاعر الشغيلة الجماعية التي تعاني التهميش والإقصاء والحكرة في زمن الخطابات الرنانة والدستور الجديد والتبجح بالديمقراطية وحقوق الانسان وتكافؤ الفرص... دون تسوية لوضعيتهم كسائر موظفي هذا البلد أسترجع كيف ركبت حافلة أخرى متجها الى العاصمة العلمية عبر ترجيست وتاونات نظرا للاكتضاض وحركة السير النشيطة في هذه الأيام بعد الانتهاء من العطلة الصيفية . اضطررت للسفر واقفا لمسافات طويلة والجلوس في "الكلوار" تارة والوقوف تارة أخرى... رحلة عذاب طويلة بين الحسيمةوفاس عبر سلسلة جبال الريف الشامخة الأبية التي تخفي حجم المعاناة التي يتعرض لها الناس في مثل هذه المناطق وتخفي سلسلة أحداث لا يعرفها إلا من اكتوى بلظاها. وصلت فاس ظانا أني صرت في المغرب النافع حيث الطرق السيارة ومحطات القطار وكل المراكز قريبة والحاجات مقضية ، إذا بي أجد الناس في مطحنة الحياة التي لا ترحم وهم يتسابقون مع الزمن الذي بات يبشر بدنو الساعة ... ساعة الحشر وليست ساعة حكومتنا التي يطبعها المزاجية والارتجالية في كل شيء المسافة بين فاسوالرباط مجرد ساعتين لا غير عبر الطريق السيار ولا تتجاوز الثلاث ساعات. كان همي متى أصل وأنام فقط غير مبال بالطعام أو الشراب في غمرة هذا الشعور بالتعب وتخيل نقطة الوصول وتوقف الحافلة وصوت السائق يقول "على سلامتكم" . استيقظ من نومي مفزوعا على صوت الراكبات والركاب الذين يحاولون القفز من الحافلة المسرعة في الطريق السيار على بعد بضع كيلومترات فقط قبل الوصول الى الخميسات ، صياح وعويل وهرج ومرج وعبارة واحدة مختلطة بالخوف والرعب "النار شاعلة فا لمطور" افتح عيناي ورائحة الدخان في أنفي وهذا الصراخ ، لم يكن لي من الوقت الا تخيل نفسي وأنا أحترق في هذه الحافلة المشؤومة , ولم يهدأ الوضع إلا بتدخل رجل كان قريبا من المكان يصيح في الناس بأعلى صوته "صافي طفيتها " ليركن السائق الحافلة جنبا ويخرج الناس رجالا ونساء شبابا وعجائز وأطفال والكل يسترجع هول ما شاهد من دخان ونار تنبعث من محرك الحافلة .. يحاول السائق ان يكذب الأمر لكن الحقيقة كانت واضحة للعيان . تفقد ومساعده محرك الحافلة وإذا بأنبوب يسرب البنزين... حاول أن يقوم بأي محاولة ترقيعية لايصال الناس الذين تملكهم الخوف والهلع. لكن الحافلة تأبى أن تشارك في مجزرة بشعة .. عم المكان الجدل وطلب الحلول اللازمة خصوصا وأن الكثيرين كانوا ملزمين للوصول الى الرباط لقضاء أغراضهم الادارية من محاكم وإدارات ومستشفيات وقنصليات مادام كل شيئ متمركزا هناك لكن القائمين على أمر الحافلة لا هم لهم إلا جمع الأموال واستغلال حاجة الناس وامتصاص دمائهم . اضطر الكثيرون للمغادرة والبحث عن حلول فردية مادام لا أحد من مسؤولي هذا البلد القابعين في المكاتب المكيفة والفيلات والقصور الفخمة والسيارات الفارهة يبالون مما يحدث لهؤلاء المعذبين ... كان من المفترض أن نصل الى الرباط صبيحة يوم الاثنين في حدود التاسعة صباحا على أكبر تقدير ، لكن شاءت مشيئة الله أن ندخلها في حدود الثالثة ما بعد الزوال لولا حادثة الحوز المفجعة ماكنت لأسرد هذه القصة متجاوزا ما جرى من نقاش وحوار وصراع شاب هذه الرحلة ولا حتى الحكايات والقصص التي تجاذبها الركاب خارج الحافلة تحت أشعة الشمس الحارقة ، فيشعر المواطن كما شعرت بالحرقة لما يجري في هذا البلد .. فمن المسؤول ؟ الكل مساهم إذن مادام مسؤولونا قادرون أن يخلقوا الأعذار ويحملوا المسؤولية لمن شاءوا حتى الضحايا أنفسهم. اذن هي تلك قصة شاهد عيان وما يجري في الخفاء يفوق التصور ومعاناة المواطنين الله وحده اعلم بها . ولمن ولي أمور الناس كفاه أن يقول "عفا الله" الرباط يوم الثلاثاء 4 شنبر 2012