في كل يوم عدا أيام العطل..وبالضبط على الساعة التاسعة صباحا يقف أمام هذا الجدار الأبيض،بنفس الجسد الذي لا تتجاوز سنواته أل 24 ،بنفس النظرة العابسة التي تنظر دون ان ترى،بنفس الوجه التي تحتله نظارة طبية تخفي قصورا في النظر،وقف اليوم كما وقف البارحة وكما سيقف غدا،عادة يومية تشرب مرارتها على مضض،عنوانها :الوقوف بجانب علامة مرورية تفيد بأن المكان مخصص لوقوف الحافلة رقم 25...
لم يعد يأبه لا لضجيج الحافلة ولا للوقت الضائع الذي قد يضيع في انتظار قد يطول أو ينقص حسب درجة الازدحام المروري،فقد صار ركوب الحافلة طقسا يوميا يمارسه كما يمارس طقوس النوم والأكل، وربما ان اعتياده على ركوبها جعل من علاقته معها علاقة شغف وهيام يجلس أثناءها مع نفسه ليفكر في أيامه،في امتحاناته الجامعية ،في أمانيه وتطلعاته إلى المستقبل..
لكن اليوم بالذات حدث شيء مختلف في هذا المكان،فمنذ وقوفه وأفكاره وأحاسيسه مشغولة بغزل أحاديث فردانية طويلة،كلمات نسجها مع نفسه وهو يتطلع إلى تلك الفتاة التي تقف إلى جانبه،حاول استنطاق نظرات أعينها وتعابير وجهها،فكانت كذلك الغريب الذي ظهر على حين غرة واستحوذ على كل مساحات الإعجاب،ركز بنظره عليها ليبدأ شلال من الأسئلة يسقط في أعماقه:
"أليست هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها هذا المخلوق الملائكي في هذا المكان؟ألا تكون من أولئك الناس الذين لا يقفون في هذا المكان إلا عندما تدفعهم ظروف ضاغطة لركوب حافلة مهترئة تمشي كأنها سلحفاة؟ ألن يستغرق وقتا طويلا لكي يراها مرة أخرى في هذا المكان؟؟ألن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي تلوث فيها سماواتها النقية بدخان هذه الحافلة؟لكن ألا يبدو من الكتب التي تحملها في يدها أنها هي الأخرى مثله طالبة؟ألا توحي ملابسها العادية وبساطة حضورها ونظراتها بمشاركة حتمية لحافلة قد تصير عنوانا للقاء مميز؟؟..."
حاول استنطاق أسئلة أخرى لكن ضجيج الحافلة وهي تقف في مكانها المعتاد أيقظه من غفوة أحاديثه الباطنية،فصعدا إلى الحافلة معا دون أن يحيد بنظراته عنها،وعلى طول الطريق بقي يستقرئ ملامحها ويكلمها بعيونه وهي لم تبادله أية إشارة تفيد بأنها لمحت وجوده أصلا..
حلم قصير رأى فيه نفسه وهو يقترب منها محدثا لها عن اسمه وسائلا عن تفاصيلها الصغيرة ومعبرا لها عن إعجابه الشديد بعيونها،وهي تجيبه بصمت يقول آلاف الكلمات،لكنه لم يلبث أن أفاق من حلمه الوردي على اثر حشرجة الحافلة وهي تقف أمام جامعة العلوم،تابعها وهي تترجل من الحافلة تاركة إياه يلوم السائق على سرعته المفرطة في هذا اليوم،فكأن الحافلة لبست اليوم ثوب الفهد بدل السلحفاة،مما جعل من أحلامه تولد بسرعة لتنتهي بسرعة وسط ثرثرة الركاب وروائح العرق التي تميز الأجساد المتراصة في هذا الوقت من السنة..
مرت ليلته طويلة شاقة،فقد جفاه النعاس وهرب عنه سلطان النوم في ليلة أكثر ما كان يخاف فيها هو أن تصير تلك اللحظة التي رآها فيها مجرد ذكرى تحرقه وهي تنسدل على أفكاره وأحاسيسه،لذلك دعا الله كثيرا أن يراها في اليوم الموالي،لم يسأل نفسه لماذا يريد ان يراها مرة أخرى؟ فكل ما كان يعرف ان مجرد وجودها في موكب الانتظار سيسقي أحلامه ويرويها بعدما استحالت إلى صحراء جرداء لا تنبت إلا الشوك..
حمد الله كثيرا في اليوم الموالي وهو يلمحها في نفس المكان،فقد استجاب الله لدعواته،وصار وقوفها بجانبه وهما ينتظران الحافلة لوحة فنية يعاد تشكلها كل صباح،فكان تأثيرها وهي تقف إلى جانبه كأنه يولد من جديد..كأن تنفسه صار له معنى ولم يعد مجرد حركات صدرية..كأن جسده تحول فجأة إلى حزمة من النشاط بدل ذلك الجسد الهرم الذي صار عبئا عليه وهو في عز شبابه،كل هذه التغيرات لم تكن لتتحقق إلا بفضل جسد أنثوي لا يفعل شيئا أكثر من مشاركته مكانا عموميا مخصصا لانتظار حافلة لا يعرفها الناس إلا من رقم 25..
بمرور الأيام لم يعد مجرد الوقوف بجانبها في موقف الانتظار بقادر على إرواء عطش الهيام الذي يسري بقلبه،لذلك استعلم عنها كثيرا فاخبره احد أصدقائه ببرودة أن اسمها ضحى و قد انتقلت حديثا إلى الحي لتقيم عند احد أقاربها بعد التحاقها بالسنة الأولى في شعبة الرياضيات بجامعة العلوم،ثلاث معلومات ضئيلة لم تكن إلا حطبا زاد من اتقاد نار الشوق التي اشتعلت في أركانه،فقد كان يود معرفة المزيد عنها،مثلا عن ذوقها في الموسيقى؟ماذا تعشق في الحياة؟كيف هي طباعها؟ما هي الكتب التي تقرأها؟ما هي أحلامها؟ما الذي تعشقه في الرجال؟أسئلة كثيرة كان يود أن يجد إجابة عنها لكن عوضا عن ذلك كان يكتشف في قرارة نفسه أنها تتناسل لتصير أسئلة من نوع آخر:
هل أنا أحبها؟ولماذا أحبها؟؟وكيف اعبر لها عن حبي؟؟وهل ستقبل بي حبيبا لها؟؟و....
في ليلة من الليالي،وبعد مرور حوالي أسبوعين على أول مرة لمحها،قرر أخيرا أن يعترف لها بحبه،فبدل أن يعيش في قوقعة كبت كلماته، قرر ان يخرجها لحيز الوجود،فأمواج الشوق داخله تتلاطم بقوة لتكسر سدوده وجدرانه،لا يهم ماذا ستقول أو ماذا ستقرر..المهم بالنسبة إليه هو أن يبوح لها بمشاعره..المهم ان يحدثها كيف تحول إلى مجنون يراها في الحلم..وعندما يستيقظ يود أن يعود إلى الحلم ليراها مرة أخرى..المهم أن يكلمها عن وديان من الحب تجري في قلبه وعن غيوم من الهيام تمطر في سماوات أركانه فتسقي صحاريه وقفاره..المهم أن يخبرها انه يحبها وان عشقه لها حوله إلى مجرد كيان لا يعرف من الحروف إلا تلك التي تكون اسمها..
لكن كيف يحدثها وهو الذي لم يكلم فتاة بعبارات الغزل قبلها؟كيف يبوح لها وهو الذي اعتزل النساء في ريعان شبابه تحت طائلة الجد الدراسي وتحت أعذار أن الأنثى ساحرة تذهب العقل والقلب فلا تترك للإنسان حرية الاختيار؟هل قدر عليه الله أخيرا أن يحب بعدما صم أذانه عن سماع معزوفات العشق وبعد أن أوصد أبوابه أمام أحصنة الغرام؟الم يعد الحب ذلك الشبح الذي طالما أخافه منه والده بدعوى أن المرأة أخت الشيطان؟كيف يتكلم إليها وهو الذي لم تتحدث عنه فتاة إلا بأنه إنسان معقد لا يفقه شيئا في أمور الحب وبأنه جبان يخاف حتى من التطلع إلى الأنثى ؟كيف يقترب منها وهو لا يعرف عن الفتيات إلا ما يشاهده بالصدفة في التلفاز وما يقراه في كتب النفس وفي ما تتلقفه أذنه من قصائد لنزار قباني؟
كل هذه الأسئلة كانت هو جوابها هو الآخر يحمل صيغة السؤال بطعم المرارة:عيونه لا تقوى على مواجهتها فما بالك بالبوح لها؟
لكن في غمرة المرارة التي خلفها هذا الجواب أينعت أعماقه سؤالا آخر حمل الكثير من الأمل لقلبه: ألا تكون "ضحى" هي الأخرى تبادله نفس المشاعر لكن أنوثتها تمنعها من تبادل النظرات مع عيونه المترددة خوفا من فضح أجمل المشاعر السامية و الإفصاح عنها قبل أن يكتمل تفتح زهرة الحب في قلبيهما؟
لذلك سيحاول أن يتحاشى المواجهة المباشرة في المرة الأولى وسيحاول أن يخبرها بمشاعره دون الحاجة للحديث معها وجها لوجه..
فكر في طرق عديدة، فلم يجد إلا طريقة كلاسيكية شاهدها منذ زمن في فيلم رومانسي وكانت نتائجها مرضية للطرفين:أن يعطيها رسالة تفضح المستور في قبله ويرفقها بوردة حمراء على اعتبار أن الأحمر القاني يشكل عنوانا لحب جامح لا حدود له..
اخذ ورقة وقلم،وبدأ يسكب عليها مداد قلبه،بعد لحظات وجد نفسه قد سافر إلى عوالم مجنونة لا تليق بغابات الولع التي تتشابك في داخله، فمزق الورقة وكتب أخرى من جديد،لم تعجبه،فمزقها للمرة الثانية واحتار كيف يكتب،كانت البداية أصعب ما يواجهه،فالمشاعر عندما تحاول التعبير عن نفسها بحيادية لا تجد الكلمات المناسبة لذلك،الم تقل أحلام مستغنامي أن المشاعر التي تعبر عن نفسها هي مشاعر نصف كاذبة؟؟
أغمض عينيه عله يعثر في باطن عقله على بداية جميلة يبدأ بها رسالته،لكنه لم يجد سوى هذه الكلمة "إلى معذبتي"،فلفظة العذاب الذي يعيشه تعبر كثيرا عن حالته،بعد هذا الاستهلال،ترك لقلمه كل الحرية في ان يكمل الرسالة بكل عفوية و تلقائية..ترك روحه تنهمر على بياض الورقة التي استحالت مدادا يحاول تجسيد المستور في القلب..
بعد لحظات من الكتابة..أحس أنه ثرثر كثيرا فاجبر نفسه على إنهاء الرسالة بجملة:
"عشقي لك سيدتي،اكبر من أن تحمله مجرد ورقة،لذلك أتوقف هنا راجيا ان تصلك كلماتي،ومنتظرا ردك حتى ولو أخذت كل أزمنتي وأوقاتي.."
عاشقك
في اليوم الموالي استفاق باكرا على غير عادته بعد ليلة لم يرى فيها النوم إلا في شذرات قليلة،حلق وجهه،ارتدى أجمل ما عنده من ثياب بعدما جرب جميع ما يملكه في الدولاب،نثر عليه قليلا من عطر والده الذي لم يعتد على استعماله إلا في أيام الجمعة والأعياد،دس رسالته في ظرف بريدي،قطف وردة حمراء من المزهرية الكبيرة التي تحتل وسط المنزل،ثم انطلق مسرعا يسابق شوقه لرؤيتها..
ما هي إلا دقائق حتى كان هو أول من يقف في موقف الحافلة،حاول أن يقلل من ارتباكه وتوتره،لكن كلما أحس أن الوقت اقترب وان الساعة تتلاعب بعقاربها لتصل بها إلى التاسعة إلا وازداد ارتباكا،بدأت جموع الطلبة ممن يدخلون في العاشرة تتخذ أماكنها المعتادة،أحس في نظرات أعينهم أنهم يعرفون بحبه وبقصة غرامه التي لم تبدأ بعد،خصوصا وان رسالته ووردته الحمراء ظاهرتان في يده اليمنى،فراح يراوح مكانه مجيئا وذهابا ليخفف عنه آثار نظرة الحرج التي يستشعرها من الآخرين، وفي كل مرة يرمي نظره مستكشفا أثرها ومحاولا القبض على وجهها،يجد ان أميرته لم تحضر بعد،كأنها تريد عنوة أن تزيد من إرتباكه و توتره..
كانت لحظات تاريخية التي يعيشها حاليا،فللمرة الأولى في حياته ها هو في طريق الحب،اليوم سيبدل من جلده وسيتخلص من ضعفه وعجزه،بداية جديدة سيرسمها اليوم بعيدا عن دعوات التقوقع والانكماش التي طالما عكف على الاستماع لها،فالحب اكبر من أن يخفيه غربال،والعشق إحساس جارف لا تنفع معه سدود الحرام والحلال..
لقد أتت،نعم إنها هي،حملق فيها جيدا لعله يكون مخطئا،فلطالما شاهدها بلباس بسيط وبوجه عادي دون تبليط الماكياج،لكنها كانت هي،بشكل لم يعهده من قبل:فقد بدلت من جلدها اليوم وصارت مختلفة عن ما اعتاد على مشاهدته:
عوض الثوب الطويل كانت تلبس بنطلونا ضيقا رسم تضاريس نصفها السفلي..في النصف العلوي من جسدها لبست قميصا ورديا أوضح هضاب صدرها ومنعرجات خصرها..وجهها اليوم صار أكثر بياضا بفعل تأثير مساحيق التجميل..الكحل في عيناها زاد من سوادهما فصارا أكثر عمقا..أما شعرها الذي طالما غطته..فكان اليوم منهمرا كشلال وراء ظهرها..
تنهد في أعماق نفسه تنهيدة أسف وحسرة،فقبل لحظات كان يدرك كم هو صعب أن يحدثها وهي تلبس ثوب البساطة،فما بالك الآن وهي تلبس ثوب الترفع والعصرانية؟كيف يقدم لها رسالته وهي اليوم تشع جمالا لم يعهده من قبل؟كيف يقف قربها وهي اليوم صارت كالشمس تشع أنوثة وإشراقا؟
لكنه قرر ان يعطيها رسالته،فالأمر بالنسبة له حياة أو موت،لا يهم إن أخذتها منه أم لا،المهم أن يحاول ما دام لن يخسر شيئا من المحاولة،وقد يربح عمره كله فيها إن تسلمتها لتجبيه يوما ما بالقبول..
صمم على الاقتراب منها.. تململ من مكانه..تحسس باقة ورده و رسالته للمرة الأخيرة كأنه يتأكد من أنهما لا تزالان في يده اليمنى..تحرك قليلا..
ثم قصدها بخطوات الواثق يمشي ملكا..
وهو على وشك الاقتراب منها..تحركت هي نحو جانب الطريق..حيث وقفت سيارة مرسيدس فارهة..خرج منها شاب أنيق عليه كل مظاهر البذاخة..تبادلا التحية..تحية العشاق التي لا تستقيم إلا بقبلتين على الوجنتين..ودون مقدمات..فتحت باب السيارة لتأخذ مكانها وهي تداعب خصلات شعرها..أخذ هو الآخر مكانه..أدار المحرك..وانطلق بها نحو عوالم مجهولة..
لم يشعر بشفتيه وهما تنفرجان عن ابتسامة تغلفها المرارة..وما هي إلا ثوان حتى انتقل الألم إلى أصابع يده..التي حررت تلك الوردة الحمراء لتسقط متهادية على الرصيف..بقيت الرسالة معلقة في أطراف أصابعه كأنها تنشد الخلاص..لتسقط هي الأخرى ويحملها الهواء بعيدا قليلا عن موضع الوردة..فتستقر على أرضية جانب الطريق..
و ما هي إلا لحظات حتى داست عليها الحافلة رقم 25...