اكتشفه ذات يوم رجل الشاوي القوي على عهد الحسن الثاني ادريس البصري، وهو مدعو اليوم لقيادة حزب الجرار الذي أسسه الهمة وزير الداخلية القوي السابق ومستشار الملك محمد السادس. ملامح جافة، نظرة محايدة وضيّقة ضيق العيون، وتقاسيم أقرب إلى وجوه «العروبية» منها إلى حسان الوجوه من بورجوازية المال والأعمال. وحدها ابتسامة بطيئة تخلق الانفراج في محياه، فيحرص عليها كلّما هممت بتحيته أو همّ بمخاطبتك. كان العريس في ذلك الصباح، جلّ المؤتمرين ال3000 حزموا حقائبهم، وركبوا حافلاتهم، والميسورون منهم أداروا محركات سياراتهم، وشدوا الرحال إلى مدنهم وقراهم، فقد انتهى انتخاب المجلس الوطني ليلة السبت إلى الأحد، ووحدهم أعضاؤه ال400 سينتخبون مصطفى بكوري أمينا عاما جديدا لحزب الأصالة والمعاصرة.
الطريق السالكة الجميع كان يعرف النتيجة، المؤتمرون كما القياديون؛ «حنا جينا باش نصوتوا على الباكوري ونمشيو بحالنا»، يقول مؤتمر فاسي على هامش وجبة للفطور. «هو الوحيد الذي توافقنا عليه، ولولاه لكان حالنا الآن إما الانقسام أو تأجيل المؤتمر»، يقول قيادي خرج لتوه في ذلك الصباح من يوم أول أمس الأحد، من إحدى قاعات «الكواليس». ومن هناك، يخرج مصطفى بكوري (هكذا كُتب اسمه في بطاقة تعريفه الوطنية وليس «الباكوري» كما اعتدنا كتابته) رفقة قياديين من زعماء حزب الأصالة والمعاصرة. يعبر الرجل الساحة الكبرى التي تتوسط مركز مولاي رشيد ببوزنيقة، فلا يكاد يعترض طريقه أحد، عدا بعض المؤتمرين الراغبين في الحصول على صورة مع الزعيم المنتظر قبل مغادرة بوزنيقة. في قاعة انعقاد الجلسة الأخيرة للمجلس الوطني، كان الجميع في انتظاره، ومقعده محجوز بعناية في الصف الأول قبالة المنصة، رغم أنه في جلسة الافتتاح تراجع إلى الصف الثاني وجلس خلف اليازغي وباها والعنصر والآخرين. الرجل غيّر ملابسه التي ظهر بها قبل قليل، وارتدى بذلة أنيقة كعادته. تقدّم ببطء نحو المنصة، وسلّم بخجل على مستقبليه، فتارة يمد يده لهذا، وأخرى بالكاد يلامس بخده خد مصافحه، رجلا كان أو امرأة، كما لو كان أخا من إخوة الحركة الإسلامية «السنية» الذين يعانقون بعضهم البعض دون تقبيل. لكنه سرعان ما يصبح أكثر «حرارة» حين يتعلق الأمر بشخص يعرفه. كلمات الخطابة التي ألقاها إلياس العماري والزعيم السابق محمد الشيخ بيد الله مرّت بسرعة رغم طولها، فالجميع لا يرى هنا سوى الزعيم المنتظر، الجالس بهدوء جوار مسؤولة اللوجستيك، ميلودة حازب. تصل لحظة الحسم، يعلن رئيس المجلس الوطني الجديد حكيم بنشماس قرب انتخاب الأمين العام الجديد، فيتزاحم عشرون مصورا موجهين عدساتهم نحو شخص واحد، أصابعهم على «الزناد»، يسأل بنشماس «من يرشح نفسه للأمانة العامة؟»، فترتفع فورا يد مصطفى بكوري مُعلنة تأكيد رؤيا المصورين. فهو الرجل الذي اختاره «الباميون» لِما «يتحلى به من خصال إنسانية عالية٬ ونزاهة وكفاءة واقتدار٬ ولما هو مشهود لك به من غيرة وطنية صادقة٬ ومواطنة ملتزمة٬ ومن تشبث مكين بمقدسات الأمة وثوابتها٬ وحرص على خدمة الصالح العام والدفاع عن القضايا العادلة للوطن والمواطنين٬ بكل أمانة وتفان ونكران ذات،» تقول البرقية الملكية التي تلقاها بكوري فور انتخابه مساء أول أمس. فيما قدّمت شخصية بكوري الحل الأمثل لتجنيب «الجرار» حادثة مؤتمر تنفجر فيه إطاراته الضخمة، وتتناثر أجزاء محركه القوي، بفعل التقاطب بين يساريي الحزب ويمينييه، وأطره وأعيانه.
غضبة ملكية لم تطل شتان بين البرقية الملكية الأخيرة وذلك البلاغ المفاجئ الذي صدر عن الديوان الملكي قبل عامين ونصف، وأعلن إزاحة بكوري من إدارة صندوق الإيداع والتدبير، وتعيين أنس العلمي بدلا عنه. ذلك البلاغ لم يأت على ذكر اسم مصطفى بكوري ولو مرة واحدة، بما يعنيه ذلك في أدبيات البروتوكول الملكي من معان واضحة. ومما زاد من قسوة ذلك البلاغ، أنه صدر في يوم السبت 13 يونيو 2009، أي مباشرة بعد تلك السهرة الشهيرة التي سهرها بكوري في مقر الحزب الذي يرأسه الآن، رفقة عرابه ومؤسسه فؤاد عالي الهمة، صديق الملك حينها ومستشاره حاليا. فالجميع يتذكر كيف رافق الهمة صديقه الحارس للذراع المالي لتحركات الملك الاجتماعية، إلى خارج مقر الحزب، وودّعه بابتسامة متبادلة، قرأ فيها البعض، ليلتها، إيذانا بتعيين بكوري وزيرا للمالية في تعديل حكومي محتمل. ومن هناك انتقل بكوري إلى جامعة الأخوين بإفران، ليتولى تسليم شهادات التخرج لدفعة تلك السنة، ليأتيه الخبر الصاعقة، ويضطر للانسلال من قاعة الاحتفال، والاتجاه فورا إلى العاصمة حيث تأكد من انتقال منصبه إلى أنس العلمي. ويدخل بدوره إلى جانب كل من سمعوا بالخبر، في تخمينات وتخمينات مضادة، حول ما إذا كان سبب «الطرد المولوي» معاملات مالية مع عمالقة فرنسيين غضبوا من بكوري، أم دسيسة من دسائس البلاط أوقعته في فخ الغضبة الملكية. لكن الشهور القليلة التي تلت هذه الكبوة، أثبتت أن الرجل من الذين لا يطول الغضب عليهم، فكان موعد تعيينه من طرف الملك رئيسا لمجلس الإدارة الجماعية للوكالة المغربية للطاقة الشمسية، لينتقل فورا إلى مقر المكتب الوطني للكهرباء الذي يرأسه علي الفاسي الفهري، ويُصبح صاحب الاختصاص الوحيد في كل ما يتعلق بمشروع ضخم لإنتاج الطاقة الشمسية في المغرب. قضى هذا التكنوقراطي الوافد على السياسة من بابها الواسع، الجزء الأكبر من مسيرته المهنية في الأبناك، قبل أن يصبح ملكا متوجا على رأس صندوق الإيداع والتدبير، المؤسسة التي تأسست أواخر الخمسينيات، فقط لحراسة أموال صناديق الدولة وتدبير مساهمات المستخدمين في صناديق الضمان. قبل أن يحوله هذا المارد المالي إلى مؤسسة استثمارية كبرى، تمتلك حصة الأسد في جل الأوراش التي فتحها محمد السادس، وكانت معادلته بسيطة في ذلك: الإعداد الجيد للمشاريع، والدخول فيها بعد استبعاد الخسارة وضمان الأرباح. طيلة السنوات الثمان لتربعه على رأس هذه المؤسسة المالية، كان لا يمر عليه أسبوع، تقريبا، دون أن يوقع اتفاقية استثمار، شراء حصص من شركات، أو إنقاذ لمؤسسات عمومية مقبلة على الإفلاس، كما كان الحال مع القرض العقاري والسياحي. أما تحركات الملك محمد السادس فكانت تستلزم حضوره شبه الدائم، فهو حامل محفظة التمويل. يوصف بالمتواضع، الكفء، والبراغماتي، يبدأ نهار عمله مبكرا ولا يلتزم بساعات الدوام الرسمي. فلا يكف عن العمل حتى ساعة متأخرة. صارم مع مرؤوسيه، حازم في شراكاته، لكنه بروح منفتحة وأسلوب أمريكي في إدارة المقاولات، حيث لا يهمه الحضور الذاتي في المكتب بقدر ما تهمه المردودية والفعالية. لم يتوان في استعمال عصا المخزن وجزرته لاستقطاب أفضل الأطر والخبراء إلى مجموعته الأخطبوطية.
بُعد وقرب من السياسة لم يعرف له انتماء سياسي أو ميول حتى. كثيرون أصبحوا يخطأون التقدير فيعتبرون صندوق الإيداع والتدبير شركة خاصة، بفعل الدينامية والفعالية التي منحها لها باكوري، عفوا بكوري. جاعلا منها «هولدينغ» من حوالي ثلاث وثلاثين شركة، تشغل قرابة ثلاثة آلاف شخص، وتتحكم في ما يفوق المائة مليار درهم سنويا. مهندس من خريجي مدرسة الطرق والقناطر الباريسية، متزوج وأب لطفلين يقيم معهم في «قصر» فاخر تحفهم فيه عناية الحشم والخدم. عيّن مديرا عاما لصندوق الإيداع والتدبير، بعد أن كان يشغل منصب المسؤول عن قطب «بنوك الأعمال» بالبنك المغربي للتجارة الخارجية. وقبلها منصب المسؤول عن التنمية والتمويل في الشركة الوطنية للتجهيز الجماعي، مكلفا بالمشاريع الكبرى بمدينة الدارالبيضاء. وهو، إلى جانب ذلك، عضو المكتب الإداري لمؤسسة محمد الخامس للتضامن، عضو مؤسسة الأعمال الاجتماعية لرجال التعليم... قبل أن يصبح «رفيقا» ل«كل الديمقراطيين». يقول العارفون بماضي الرجل إن الراحل إدريس البصري كان صاحب «السبق» في اكتشاف كفاءته ومهارته التدبيرية، وأنه هو من اتصل شخصيا ذات يوم من العام 1995 بمصطفى فارس، المدير العام السابق للبنك المغربي للتجارة الخارجية، راجيا «إعارة» مصطفى بكوري لوزارة الداخلية كي يريحها من مسؤولية تدبير مالية الشركة الوطنية للتجهيز الجماعي، المقبلة، حينها، على مشروع ضخم لإعادة تهيئة مدينة الدارالبيضاء الكبرى. وفيما قبل فارس طلب «الإعارة» على أن تستمر سنة واحدة، لم يعد بكوري إلى البنك إلا بعد ثلاث سنوات. عودة أثار خلالها بكوري أنظار المحيطين بالملك الشاب محمد السادس، ليعيّنه هذا الأخير في 2001 على رأس صندوق الإيداع والتدبير. واليوم دعاه الحزب الذي أسسه صديق الملك ووزيره السابق في الداخلية ومستشاره الحالي، لقيادة «الجرار»، وإيصاله إلى منطقة النجاة. وأول ما تزوّد به الأمين العام الجديد لحزب الأصالة والمعاصرة، دعاء ملكي حملته برقية التهنئة، يرجو فيه الملك من الله تعالى أن يلهم بكوري «التوفيق والسداد في مهامه لتعزيز مكانة الحزب في المشهد السياسي الوطني وتبويئه المكانة الجديرة به ضمن مكوناته الفاعلة٬ وإعطائه دينامية جديدة وقوية لمواصلة انخراطه البناء٬ على غرار سائر الأحزاب الوطنية الجادة٬ في المسار الديمقراطي التنموي الذي نقوده٬ وذلك من أجل ترسيخ دولة القانون والمؤسسات والحكامة الجيدة والكرامة الموفورة والمواطنة الكاملة والنهوض بأوراش التنمية البشرية والمستدامة الشاملة لكافة فئات وجهات المملكة».