يعرف المشهد القضائي المصري تماهيا مع المشهد السياسي بشكل لم يسبق له مثيل. ولأول مرة ينقسم قضاة مصر بشكل صارخ إلى معسكرين: معسكر مع رئيس الدولة ومعسكر ضده. وقد دشن قضاة مصر الآن، مرحلة جديدة في التعاطي مع الشأن السياسي، بحيث أصبح الحياد مبدأ مهجورا ليحل محله مبدأ التدخل في الحياة السياسية والحراك السياسي، فهل يحق لجمعيات القضاة في مصر كتنظيمات مهنية التعبير عن آرائها السياسية كما يقع حاليا؟ بل والاصطفاف مع أحد التيارات السياسية ضد أخرى؟
إن تجسيد استقلال الجمعيات القضائية يقتضي بالضرورة عدم الخوض في سجالات سياسية، إلا بما يخدم مبادئ الحق والقانون ومبادئ استقلال القضاء، ومن شأن انخراط القضاة وجمعياتهم في السجل السياسي أن يفقدهم خاصية الحياد والتجرد والاستقلال، وينزع عنهم الدور التحكيمي المفترض فيهم.
قد يقول البعض إن تحرك القضاة في مصر هو دفاع عن استقلال السلطة القضائية. إذا كان الأمر كذلك، فكيف يعقل أن يعبر القضاة مسبقا عن عدم دستورية أو عدم شرعية قانون معين قبل عرضه على القضاء للفصل في ذلك؟ أليست هنالك حدود بين القضاة والسياسة؟ صحيح لو كانت القضية محل إجماع بين القضاة كافة لقلنا إن المسألة قانونية محضة، أما وأن ينقسم قضاة البلد الواحد إلى شقين ضد أو لصالح مؤسسات سياسية معينة، فإن الأمر يدعو إلى القلق لأنه يهدد الأمن القومي للبلد، ويمنح الشرعية لكل تمرد على القانون والنظام والمؤسسات.
نتفق جميعا على أن السلطة القضائية يجب أن تكون قوية وفاعلة، ولكن قوتها نابعة من تحصينها ضد الانحياز مع هذا الطرف أو ذاك، لكن أن تصبح السلطة القضائية عونا لفريق سياسي ضد آخر، فهنا تفقد هذه السلطة قوتها وتعلن عن ضعفها ووهنها.
إن الفصل بين السلط القائم على التوازن والتعاون فيما بينها، يقتضي عدم تدخل أي سلطة في عمل السلطة الأخرى إلا عبر الآليات التي يسمح بها القانون. أما وأن تتدخل السلطة القضائية في عمل السلطة التنفيذية أو التشريعية كما يقع الآن في مصر، وأن يقف النائب العام في وجه رئيس الدولة بمظهر الخصم و المعارض، وهو الذي كان في الأمس القريب يبارك كل خطوات النظام البائد، كل ذلك يطرح سؤال الحياد والاستقلال بكل إلحاح.
يا قضاة مصر، لا ولاء إلا للقانون، ليس مطلوبا منكم أن تكونوا مع الرئيس أو ضده، ولكن ولاءكم للقانون أولا وأخيرا، ولاءكم للشرعية والمشروعية لا للأشخاص والأطياف السياسية.
في المقابل، وقبل المصادقة على دستور ما بعد الثورة، يتعين على رئيس الدولة باعتباره ضامنا لاستقلال السلطة القضائية أن يفعل كل ما من شأنه أن يحول دون انقسام أعضاء السلطة القضائية حتى تظل هذه السلطة ملجأ وملاذا للجميع لا تميز بين الألوان والتيارات السياسية، وذلك بتوفير الأمن والاطمئنان للقضاة بأن الفيصل بين الجميع هو القانون ولا شيء غيره، وألا يكون القضاة موضوع تضييق أو حشد أو تحريض أو غير ذلك.
حذار أن تفقد قاعدة فصل السلط كل مدلول لها، فينتقل القضاة إلى رجال سياسة بخلفيات سياسية، وينتقل الساسة إلى قضاة لا يعيرون للأحكام القضائية أي اهتمام أو احترام، بل ويعتبرون أنفسهم أهلا لإصدار الأحكام عوض القضاة. حذار أن يتطاول القضاة على مجال التشريع فيطبقوا ما شاؤوا من القوانين وينسخون ما شاؤوا منها. حذار أن ينهار النظام الدستوري في أي بلد لينفرط العقد الاجتماعي ويعود المواطنون إلى حالة الفوضى واللانظام.
قد يحتج البعض بأن كل دولة لها نظامها ولها خصوصيتها ولها قضاؤها. ولكن المجمع عليه هو أن مبدأ استقلال القضاء مبدأ عالمي كوني إنساني قد يختلف في الشكل، لكنه واحد في المبدإ والمضمون والغاية.
وإذا كان القاضي مؤتمنا على حماية حقوق وحريات المواطنين، فإن هذه الحماية رهينة باحترام القوانين والنظم والمؤسسات. والقاضي لا يقوم بديلا عن السلطة التشريعية في إلغاء ما يشاء من القوانين إلا طبقا للقوانين المنظمة لشروط إلغاء القواعد غير الدستورية، سواء فيما يخص طريقة إثارة الدفع بعدم الدستورية أو من خلال مسطرة الإلغاء أو من حيث أثر ونتيجة الإلغاء، لا يحكمه في ذلك توجه سياسي معين، وإنما يحكمه ضميره المتشبع بروح التجرد والحياد والولاء للقانون والحق والعدالة. أما وأن ينتظم القضاة في تكتلات لإعلان المناصرة أو المعارضة لقانون معين، فذلك من شأنه أن يؤثر بشكل خطير على نظام توزيع السلطات في الدولة ويخلق أزمة سياسية حقيقية تهدد الأمن و النظام العام.
لا أريد أن أتدخل في الشؤون السياسية الداخلية لبلد طالما افتخرنا بقضاته، ولكني أذكر بمبادئ أساسية تحفظ التوازن بين السلطات، وترسم حدودا للفصل فيما بينها خدمة لحسن تسيير شؤون الدولة، وتفعيلا للديموقراطية كأفضل نظام للحكم عرفته البشرية، نظام يرعى الحقوق والحريات الفردية والجماعية ويضمن الحرية والعدل والمساواة، ويسعى لتحقيق التنمية والتقدم.
أن يكوّن القضاة أحزابا وسط أحزاب أو دولة داخل الدولة، فهذا تهديد حقيقي لتماسك الدولة ووحدة القضاء. إن التزام القضاة بواجب التحفظ والحياد والتجرد هو حق للمواطن والمجتمع والدولة حتى يستمر القضاء عنوانا للثقة والتقدير من طرف الجميع، وصمام أمان يحتوي جميع التناقضات، ويستوعب تضارب كل المصالح في الدولة بميزان القانون والحق والإنصاف.
إنها وجهة نظر قد تغضب الكثير ممن هو متحمس ليلعب الحراك القضائي دوره في الإصلاح والتغيير، ولكنها قناعة شخصية أتمنى أن تكون أرضية للحوار والمناقشة.