في طبعة أنيقة تتوسد صدر غلافها لوحة للفنان عبد العزيز أزغاي، أصدر الكاتب الروائي عبد العزيز العبدي عن مطبعة أبي رقراق عمله الإبداعي الثاني، بعد عمله الأول "كناش الوجوه". وقد شغل هذا العمل الإبداعي مساحة نصية بلغت 128 صفحة من القطع الصغير، واختار له كاتبه "رأس وقدمان" عنوانا وجنسه ضمن الرواية كما يدل على ذلك الميثاق الأجناسي المثبت على صفحة الغلاف. بعد الإهداء اختار الشاعر تصديرا نثريا (épigraphe) للشاعر الكبير محمود درويش: "مادمنا لا نفرق بين الجامع والجامعة، لأنهما من جذر لغوي واحد، فما حاجتنا للدولة مادامت هي والأيام إلى مصير واحد."، وهو تصدير مغرض اختير بعناية للكشف عن الخلل العميق في البنية الذهنية للشخصيات التي تجمع بين المتناقضات والمفارقات دون أدنى إحساس بفداحة الأمر. تتحكم في الرواية شتيمة طائشة من أم غاضبة "كنت راس واصبحت رجلين" فهذه العبارة رغم قصرها اللغوي وحيزها الصوتي القصير صنعت مصير شخصية البطل (الإبن) فكانت القوة الفاعلة الأولى التي دفعته إلى التفكير في اقتراف أحداث بعينها قصد الانتقال من القدمين اللذين يحملان معنى الوضاعة إلى الرأس الذي يحمل معنى السمو والرفعة. فالبطل الخارج من السجن حاملا انكساراته على كتفيه يرى في شامة، التي تعرف عليها في غرف الدردشة وعاش معها تجربة حب قصيرة تلتها سنتان من الفراق المفاجئ، والتي عادت إليه بعد فقدان الأمل في العثور عليها، وبعد زواجها من نجار انتهى قبل البناء، مثقلة بالندوب ومتعطشة إلى الزواج، يرى فيها حله السحري للتسلق نحو "الرأس" الاجتماعي هروب من "قدمي" الصورة التي يحملها المجتمع عن سجين سابق. مشروع الزواج ورحلة البطل في اتجاهه كان فرصته للكشف عن الاختلالات العميقة في المجتمع، عن الندوب الصارخة في لاوعي المثقف حيث تتعايش الخرافة والعلم دون أي إحساس بالمفارقة والتناقض والانفصام. من هنا كانت رواية "رأس وقدمان" إدانة للمثقف والمناضل والحقوقي والعلماني في تقبله للخرافة والجهل والشعوذة وممارستها (شامة ربيعة عبد الكبير القيادية السياسية في حزب يساري ...) ثم هي إدانة للنظام التعليمي الذي عجز عن استئصال الخرافات من ذهن المتعلمين كما يوضح تسائل السارد: "كيف لامرأة أفنت زهرة شبابها في التحصيل العلمي والدراسات العليا أن تؤمن بهذه الخرافات؟" إن في لجوء الكاتب إلى اختيار شخصيات بارزة اجتماعيا، كالأستاذة الجامعية (شامة) والطبيبة (ربيعة) والمناضل السياسي المنفي (عبد الكبير) والقيادية السياسية في حزب يساري، تصميم على مناقشة هذه الظاهرة الثقافية والاجتماعية الشاذة وكشف عن حجم الانفصام الذي تعانيه النخبة الحداثية في المغرب وبيان لفداحة الواقع الفكري والثقافي الذي نعيشه. وفي تصوير الرواية لهذا العمق الخرافي المعشش في هذه الشخصيات إحساس بالخيبة بسبب انهيار المشروع الحداثي في مواجهة التخلف والجهل. إضافة إلى خيبة المثقف في مواجهة التخلف وانخراطه فيه طوعا أو كرها أو مسايرة للانتقال إلى "الرأس" كما هو شأن البطل فإن الخيبة كانت أيضا في عجز البطل عن الوصول إلى هذه "الرأس" بانكسار سلمه إليها، حيث اختار الكاتب موتا مفاجئا لشامة دون مقدمات أو مسببات منطقية، ماتت قبل أن تعرف طالعها ويدها في كف المشعوذة "لميمة" كما كانت تسميها. من مدارج الخيبة أيضا في الرواية قصة عبد الكبير المناضل والقيادي اليساري الذي استدرجه النظام إلى حظيرته بالوعود السياسية والامتيازات حتى فقد مكانته الرمزية في صفوف رفاقه وتم تدجينه وترويضه ليتم بعد ذلك الاستغناء عنه بمكالمة هاتفية قصيرة تلغي كل امتياز أو تعويض ليعود إلى حضن الزاوية متنكرا لكل نضاله وعلمه. إن رواية "رأس وقدمان" تمتح من المرارة والحزن واليأس من أي تغيير محتمل، رواية جاءت لتسائل واقعا مريرا تملأه الثقوب وتمزقه الندوب وتحوطه الخيبات. هي صرخة إدانة وجرس تنبيه في وجه ما تم التطبيع معه اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، ليصبح موت شامة المفاجئ كغيابها المفاجئ موت مجتمع لا ينتبه إلى ذاته ولا يفحص عيوبه ولا يعرف مفارقاته وتناقضاته. على المستوى الفني اتكأ الكاتب عبد العزيز العبدي على بناء سردي واضح السمات، ينبني على تنظيم منطقي، تترابط أسبابه ونتائجه بروابط رفيعة، كما وظف الكاتب تقنيات عديدة كسر بها التنظيم الزمني التعاقبي، فقد استثمر المشهد، من خلال الحوارات القليلة، ووظف الحذف والتداعي والاسترجاع لتأثيث السرد وإحكام صنعته. أما اللغة فقد استدعى الكاتب معيارين، أحدهما شعري يتسم بالكثافة والانزياح، يرقى باللغة إلى أعلى درجات الشعرية مما أغنى الرواية بصور مبتكرة. أما المعيار الثاني فوصفي سردي اتسم بتقريرية ضرورية للرواية ومناسبة لها قصد تقديم الحكاية. قد لا تفي هذه الورقة بإضاءة كل ما في الرواية من قضايا وإشكالات وتقنيات لكن حسبها أنها لامست متنا سرديا جديرا بالقراءة لما يمنحه لقارئه من متعة.