لعل ما يشدّ الانتباه إلى الحركة السردية الجديدة هو نهوضها على نسق من الفهم المختلف للكتابة، حيث تتعين الحكاية نمطا من الجدالِ على الموجّهات الفكرية لسياق ما بعد الحداثة، ونقدا لاستراتيجياتها وآفاقها. فالرواية الجديدة تغدو ها هنا فضاء نصيا لمقاومة من نوع خاص. ذلك أن المتاهة اللامحدودة للعالم، تجبر السرد على أن ينجز رحلة باتجاه إعادة تَملّك ما بات مهددا بالانقراض والزوال. هذا السياق يظهر المعنى من كتابة الجذور والحفر في بطون التاريخ، والخوض في المراجعات، بما يضعنا أمام صحوة جديدة للخيال، تزامن القلق الإنساني، وتتطلع إلى تشخيصه في سردية مغايرة، وبأسئلة جمالية جديدة. وأتصور أن ملامح هذا العالم، هي ما يعنى الروائي المصري سعيد مكاوي بتشييدها في روايته: تغريدة البجعة. فإذا كانت المحكيات المتعددة في الرواية تضعنا إزاء نص يتركز حول شخصية البطل مصطفى، وهو مثقف ومناضل، إذ ينهض بتأدية الوظيفة السردية بضمير المتكلم، فإن هذا البناء لم يمنع الروائي من أن يجتلب شخصيات عديدة إلى عالمه التخييلي: مارشا/ زينب/ ياسمين/هند/ كريم/ عصام، وهي في تنوع أفكارها ورؤياتها للعالم، تعكس تحولات المكان والإنسان نتيجة ضغط المدّ العولمي الكاسح، وخيبة أحلام جيل بأكمله استفاق على تحولات اجتماعية وثقافية مثلت إدانة عارمة للعقل، وارتدادا صارخا على ما أسّس له فكر التنوير من قيم تمجد تحرير الإنسان لذاته من الجماعة ومن التقاليد التي تحجب حريته. وما كان لسعيد مكاوي أن يُشخِّصَ هذه العلائق الصعبة والمتداخلة لولا البناء السردي المميز الذي خصّ به هذا النص الروائي. حيث لا يخفى استثماره اللماح لإمكانات فنية متعددة كالروبورتاج والمونتاج السينمائي. وهذا الجانب بالتحديد يؤشر على ثقافة الكاتب ومستوى زاده الجمالي، والذي أدركته قراءات عديدة تكرّست لهذه الرواية التي جاءت بعد رواية «فئران السفينة» المنشورة عن «دار ميريت» عام 2004، وبعد ثلاث مجموعات قصصية «الركض وراء الضوء» 1981 و»حالة رومانسية» 1991 و»راكب المقعد الخلفي» عام 2000. تحتفي «تغريدة البجعة» بالكثير من الإشارات التي تصلها بالواقع الاجتماعي العربي في فترة السبعينيات. لكنّ الكاتب وهو يُبئّرُ التخييل على هذه المرحلة لا يتقصّد معنى التاريخ: أي التذكير بفترة ما من تاريخ مصر بهدف التعبّر أو غيرها من القيم الثقافية التي تتحصّل للمرء من خلال التذكّر. فمن شأن هذا المنظور إلى العناصر المتعددة التي يستوحيها النص بهدف الارتباط بسياقه أن يحول دون إدراك الوظيفة التي يمكن أن يكون النصّ يتغيى أداءها في المرحلة الرّاهنة التي يمرّ منها المجتمع العربي، والمخاضات العسيرة التي يعيشها، فضلا عن الآراء والأفكار التي تعتمل فيه. وفي هذا الجانب تبرز المساهمة الفكرية لسعيد مكاوي في هذا العمل السردي. ذلك أن الرواية تسائل انضغاط الزمان والمكان وتغير مفاهيمهما، حيث تكتسح عوامل واعتبارات جديدة تلك الفضاءات التي كان السارد يعتبرها حميمة ومنبعا للدفء الذي يفعمه بالقوة عندما يداهمه الشعور بالضعف أو الانكسار. فإذا كانت المكونات الأقرب للتعبير عن الهوية، وهي اللغة، تكاد تضيع وتتلاشي ويتفكك صوتها في دوامة التحول العنيف، وهو ما يكشف عن الاختراق القوي الذي تتعرض له المجتمعات العربية في تاريخها المعاصر، فما بالك بالارتدادات التي تحصل نتيجة مثاقفة داخلية أقوى وأعمق أثرا. وهذا ما يتمثل في المد الوهابي الذي غير ملامح مصر، وعصف بالصورة الجميلة التي كان السارد يعيش على وقعها. إن شخصية شريف ابن الفنان المصري يوسف حلمي تعتبر امتدادا لهذا التحول، الذي لم يستسغه الراوي، في الذهنية المصرية. فبعدما تشبع بهذا الفكر، وضاقت آفاق النظر والتأمل لديه في العالم من حوله، بات يضايق والده، ويعبث بذاكرته بإزالة كل صور الفنانين والفنانات من على جدران المنزل، ويلقي بالريبة على كل ما أنجزه من أعمال فنية معتبرا إياها خروجا عن منطوق العقيدة والدين. كما أن أحمد الحلو، اليساري الذي نهل من مختلف مصادر المعرفة وقاد الجموع في المظاهرات وواجه وحشية السجون والسجانين صار هو الآخر أكثر تطرفا ودوغمائية، وقرر ترك وظيفته بالشركة التي كان يعمل بها، بدعوى أن الأموال التي يتحصلها لا ينطبق عليها منطق الحلال. وبهذه النماذج من الشخصيات يقع السارد على اراتدادات المجتمع المصري، ويلامس تداعياته المطردة، التي هي تعبير أوضح عن شيزوفرينيته. وإذا كان السارد يقر بعجزه عن فهم الظواهر الاجتماعية الطارئة على مجتمعه، فإنه في المقابل يمجد الذاكرة ويحرص على صونها ضدا على هذا النسيان الذي يزحف بقوة ملقيا ظلاله القاسية على الأشياء الجميلة التي صنعتها تضحيات الإنسان وصموده ضد الرتابة والجمود والابتذالية. وبهذا المعنى نفهم حنينه القوي إلى زمن أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الباسط عبد الصمد، حيث أثمرت الأفكار التنويرية التي أنتجتها مصر على مدى قرن من الزمان، لكنها الآن تتهاوى عبر أشكال من الفهم المتزمت يمجد الموت ويبخس الحياة قيمتها. تغرينا تغريدة البجعة بالحضور السيرذاتي فيها. وهو يبرز بكثافة ليس فقط من خلال المركزية التي يحظى بها السارد البطل، وإنما كذلك من خلال البعد الاستعادي الذي يضع الزمن المتداعي والآيل إلى السقوط في مواجهة الماضي المشع والأبهى. وفي هذا الجانب يتقاطع الفردي بالجماعي، فيغدو النص الروائي تعبيرا عن جيل بأكمله. وبهذا المعنى يأخذ مجاز التغريدة أبعاده الرمزية والدلالية، فيتعين عنوانا راصدا للدمار والخراب ولكل ما يفقد الصلة بالعالم الخارجي.