تميز المشهد الثقافي بخنيفرة بتنظيم أمسية ثقافية ، ب «جمعية الأعمال الاجتماعية لأسرة التعليم»، حيث نظمت «جمعية مدرسي علوم الحياة والأرض»، بتنسيق مع «منتدى جذور للثقافة والفن»، لقاء قصصيا مع المبدع والناقد حميد ركاطة، واحتفاء بمجموعته «دموع فراشة» (الصادرة عن دار التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع)، وتميز اللقاء بحضور مكثف للمهتمين بالشأن الثقافي ولعشاق المجال الإبداعي والقصة القصيرة، ولمحبي حميد ركاطة الذي عرف بتجربته المسرحية من أين يرصد دقائق حياة الناس البسطاء وأحلامهم الوردية والسوداء بالاعتماد على الفهم العميق للحياة العامة، وكم تحرك القلم بين أصابع مدوني اللقاء وهم يسجلون الإقبال اللافت على «دموع الفراشة» لحظة الانتقال إلى حفل توقيعها من طرف كاتبها المألوف بقبعته العجمية. اللقاء الثقافي، أداره الأستاذ جواد صابر بحنكته الرقيقة، وحضره عدد من الوجوه الثقافية أمثال الشعراء قاسم لوباي والمحجوب بلمقدم وعبدالله كيفاع ومحمد منير، والناقد عبدالله المتقي، وافتتحه القاص إسماعيل بويحياوي بشهادة حول المحتفى بمجموعته القصصية، حميد ركاطة، إنساناً ومبدعاً وناقداً، و»رجلاً نبيلاً وجميلاً يطالعك في حنايا شاشة محياه إنسان ببشاشة وبسمة وتفاؤل وإصرار»، ومبدعاً كتب المسرحية والرواية والقصة القصيرة والقصيرة جدا، ليتوقف إسماعيل بويحياوي عند «دموع فراشة» ركاطة باعتبارها «أهم سمة مميزة وبصمة تحمل طابع صاحبها في هذا النوع السردي الجديد في الثقافة العربية»، حيث القصة القصيرة جدا والومضة التي تكمن فيها «الكثافة والإيحاء والمفارقة والتناص والترميز والضمني والصريح والقليل الذي يقول الكثير ويفجره»، أو هي «نصوص منحازة للقيم الإنسانية الأصيلة، من خلال البوح بما وقر في الذات الفردية والجماعية في أبعادها المحلي والوطني والقومي والكوني على أعتاب الوجودي أحيانا»، في إشارة واضحة لصاحب «الفراشة» الذي لم يخف مواقفه من التحولات والمتغيرات، والواقع اليومي، وفوضى السياسي والاجتماعي، ودبيب الأزقة الخلفية، وعمق حياة المهمشين والمنسيين، وسؤال القدر والحب والشر والسلطة. الشاعر بوعزة فتح الله، والذي صدر له مؤخرا ديوان «قاب كأسين من ريحه»، أبى إلا أن يشارك في أمسية «فراشة» حميد ركاطة، بورقة تناول من خلالها بلغة شاعرية ذات»نكهة الحامض»، انطلق فيها من أن «الحكي مهادُ العالم، والشعرَ سقفه، وبينهما خيوط متشابكة»، حيث الحكي «متشعبً ومتعدد البنيات، فهناك أحداث كثيرة، واقعية أو متخيلة، داخل زمن ومكان منتقيين، مرتبة بعناية وإن بدت فوضوية وبأشكال مختلفة- لغايات مضمرة، يمسك الكبار دائما بخيوطها في عملية التنشئة، وزمن الحكي الذي لا يستقيم أو يحلو إلا بالليل، وداخل مكان مغلق، قد يكون سرير شهرزاد، أو غرفة الجدة»، ربما لهذا، يقول الشاعر فتح الله، افتتح القاص حميد ركاطة، أولى قصص مجموعته بحكاية الجدة التي «تنبه حفيدها إلى عدم التحديق في البيت الذي نبت فجأة وسط حقول الكروم»، ليرى كيف أراد القاص لمجموعته أن تختزل خصائص ومضامين النصوص السردية التي تتكون منها هذه المجموعة، رغم تنوع الموضوعات (التيمات)»، وبدوره يتكون العنوان القصير «من مفردتين إحداهما جمع والأخرى مفرد، والرابط بينهما علاقة إضافة، وانزياح مفتوح على أبعاد دلالية تحقق إمكانية تعميم خصائص الواحد المفرد النكرة على الكل، وهي بالمناسبة خصائص الفراشة التي يلهث الصبية بشباكهم خلف ألوانها ورقصاتها، وتموت من شدة شغفهم بها، أو تموت وهي تلهث خلف الضوء، دون تمييز بين النور والنار». ولم يفت الشاعر بوعزة فتح الله، وضع عينيه على مكامن ميزة ميزت السارد نفسه باختفائه «خلف ضمير الغائب، المؤنث والمذكر، في صيغتي المفرد والمثنى معا، أو خلف أشخاص مجردين من صفاتهم، باستثناء ما دل منها على هويتهم الإنسانية أو الحيوانية»، واللجوء إلى ضمير الغائب «يفيد بوضع مسافة معقولة (وهو وصف نسبي) بين الكاتب والسارد الذي يصبح شاهداً على وقائع وأحداث ومواقف وسلوكيات، هي نفسها التي يشتغل الكاتب على إدانتها»، إلى ذلك، فإن «شخصيات المجموعة عادية جداً، لها وجود في الواقع اليومي المعيش، إذ يستحضر الكاتب شخصيات الجدة والجد، والمثقف، والمحارب والمقامر، والمهزوم والأمي»، وكم تنبع سخرية القاص حميد ركاطة، يضيف الناقد فتح الله، من التعارض القائم بين مواقف الشخص الواحد، في علاقته بذاته أو بالآخر، سواء تعلق الأمر بالرؤى التي تفسر قضايا المجتمع، أم بالتعارض بين رغبات الشخوص وميولاتهم، بكيفية تؤشر على وجود انفصام في الشخصية. وفي هذا الصدد أشار الشاعر فتح الله إلى «أن الحظ الأكبر من سخرية حميد ركاطة كان من نصيب النخبة، التي تخلت عن أدوارها، أو غاصت في متاهات أخرى، وعلى رأسها الموظف الذي لا يهتم إلا باستخلاص راتبه نهاية الشهر، دون أداء الحد الأدنى من الواجبات المنوطة به، والقائد السياسي (قصة النصاب)، والمثقف الذي يتخلى عن مواقفه (شروخ)، أو الذي يقضي ثلثي وقته في تتبع مؤخرات العابرات وتزجية الوقت بلعبة «السودوكو»، والمرشح الذي يشبه المقامر في البكاء والأفعال المنسوبة إليه، و»عاشق الوطن» الذي يسخر مواقفه للاغتناء، والأستاذة التي تعلم تلامذتها مبادئ السلامة الطرقية، وتحثهم على الالتزام بعبور الممر المخصص للراجلين، في الوقت الذي تدهسها فيه حافلة بعيداً عن ممر الراجلين»، على العكس من ذلك، رأى الشاعر بوعزة فتح الله، كيف يقوم حميد ركاطة بتمجيد البطولات الشعبية ومقاومة الطغيان (قصة محارب قديم) والمثقف المناضل، (المثقف) والفنان موحى وموزون (جراح غائرة) والفنان الذي يرفض المتعهدين وشروطهم (العازف) وحذاء الزيدي إلخ... الناقد مصطفى دادة، لم تفته المشاركة في «دموع فراشة» بمداخلة استطاع من خلالها تأسيس مقاربة لجمالية الحكي عند حميد ركاطة، وكيف توج هذا الكاتب مساره الحكائي ب»إصداره لمجموعته القصصية القصيرة جدا بعد ثريت وخطة إبداعية تنم عن عدم استهال الخوض في غمار هذا الجنس الإبداعي المتمنع»، متوقفا، الناقد دادة، عند حرص القاص على «تحديد الجنس الإبداعي لمؤلفه في صفحة الغلاف (قصص قصيرة جدا)، باعتباره الميثاق القرائي الذي ينبغي بمقتضاه التعامل مع النصوص القصصية، فإن متلقي هذه النصوص ليبدي نوعا من الحيطة والحذر في التعامل مع هذا الجنس الإبداعي/ الظاهرة انطلاقا من قاعدة يجمع حولها نقاد ودارسو القصة القصيرة جدا مفادها، (كما جاء في عدد خاص حول «القصة القصيرة جدا» في خريف 2008)، أن الاقتراب من عوالم «هذه الحورية الهلامية الساحرة ليس بالمهمة الهينة، إذ أن لظى حصنها قد يدفئ لكنه قد يحرق، مما يتطلب رهافة خيال وحساسية جديدة وخبرة عميقة بفن القص ودراية واعية بالواقع. وبخصوص العالم الحكائي السردي في هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا، لاحظ دادة، «أن المبدع حميد توسل بمجموعة من السمات الفنية والدلالية لتشييد إستراتيجية إبداعية قادرة على تحقيق وظيفتي التواصل، ثم التجاوب الجمالي مع مختلف نصوص المجموعة»، حيث على امتداد قصص «دموع فراشة» يكون حميد ركاطة قد حرص على حكي الواقع وقوله حكائيا بطريقة فنية وجمالية، بعيدة عن الاستنساخ أو الانعكاس المرأوي للواقع، ومن هنا يقرأ المتلقي بين الأقصوصات القصيرة تعدد التيمات البانية لدلالات الخطاب السردي، من فضح وتعرية القيم الزائفة، الانتصارات الوهمية، المكر والخداع الإنساني، الانهيار الداخلي للأبطال، الظلم المتفشي، خيبة الأمل وانكساراته، الغرابة واللامعقول، الإحباط والتوتر والاغتراب، وذلك عبر خطاب ساخر حينا وثائر حينا أخرى، وأسلوب يحضره عنصر الدهشة والتشويق، كما يحبل بشتى التناقضات والخرائب الذاتية، وجميع النصوص، يقول صاحب الورقة، تستهدف نزع الأقنعة عن المستور، للكشف عن الخلل والمواجع والتشوهات الإنسانية. أما الناقد محمد عياش، فقد أكد على جمالية مولود حميد ركاطة، إلا أنه حاول بقراءاته المتميزة تناول مجموعة «دموع فراشة» من زوايا متعددة، عن طريق ما وصفه ب»مشروع قراءة»، واضعا، من خلال طبيعة شغبه الجميل والمنفرد، جملة من المقاربات لنصوص المجموعة بطريقة من «الاستفزاز المعرفي الشيق»، حتى أن عنوانها أو اسم الفراشة لم يسلم من مجهر الناقد الفاحص، ومن ذلك إلى سطورها وإيحاءات أو إيماءات شخوصها، وهوية جنسها، ومدى انتمائها لتيار القصة القصيرة. إنها فعلا «دموع فراشة» التي سبق للناقد محمد يوب أن رأى فيها صورا ل «حال فئة عريضة من عامة الناس الذين يبحثون عن الحقيقة، عن الخلاص، لكنها في النهاية تحترق بمجرد الوصول إلى هذا البصيص من النور»، مثلها مثل الفراشة، أي أنها «تحترق بمجرد الاقتراب من هذا المنفذ، الذي تظنه الخلاص من أزماتها المتعددة والمتكررة ، وسط جو مظلم ملبد بالغيوم السوداء»، والدموع هي «المتنفس الوحيد، أمام هذا الواقع المعيش المرير الذي تنتفي فيه كل قيم العدالة والمساواة»، يقول محمد يوب الذي وصف مجموعة «دموع فراشة» ب»شهادة شاهدة على العصر»، قبل أن يعتبرها كاتبها حميد ركاطة، في حوار أجري معه، بمثابة «تمرد على الذات الصامتة وإدانة للمجتمع» من حيث هي صرخة قوية ضد أشكال الهموم والميوعة المنتشرة داخل المجتمع، لكنها صرخة بحنجرة «فراشة» مختبئة خلف أسطر مجموعة قصصية تتنفس وتنبض مثل أي مدون راصد للتفاصيل.