المصادفة الجميلة التي قادتني للزمان والمكان الذي أحببت أن أكون فيه يوماً، وتحت شعار " استمرار النضال عن طريق إنهاء الاحتلال ووحدة اليسار العربي"، فالحلم عندما يتحول لحقيقة ي�عبر عن قيمة مبهجة تَعم النفس السليبة من كل معانِ ومفاهيم السعادة في حقبة الاستلاب التي جردتنا من كل القيم والمفاهيم الإنسانية، والكرامة التي تحولت إلى قيمة متقادمة، بالية في العرف الحاكم والناظم لمنظومة القيم في عصر الاستهلاك البشري. هي المصادفة المحضة التي إستوقفتني أمام الذات التي أتأملها بعمق وأنا أبحر في مكوناتها الشخصية، والفكرية، وهالتها النموذجية المدججة بالإنسانية، والفكر، والحكمة، تستجمع في كينونتها كل الومضات التي يمكن أن تشكل قانون جاذب للإنسان بمستوياته ومشاربه الفكرية المتباينة، ذاك القانون الذي يمتلك رصيد علمي، وفكري، ونظري، بهندام ثوري، وروح إنسانية على نفس المسافة من تثوير الذات لأجل الآخر. هي ليست رومانسية م�حب، أو شفافية عاشق، بل وصف لم يوصف لشخصية قلما نقف أمام مثل تركيبتها الجامعة لكل مكونات القيم، والمعرفة، والثورية، بديمومة فاعلة بمثل ذاك الفعل الحي. ربما أن الحكاية تبدأ من إيمان قطعي بأن الثوريين يموتون، ولكن تبقى كلماتهم، خالدة تستحضر فينا الفداء والنزاهة، والصدق، والفكر، والإنسان معاً، وتمضي مع الأجيال، جيل تلو جيل تحفز فيهم معانِ ومفاهيم الوطن، ببعديه الثائر والمفكر، وبحدوده القومية والقطرية، الممزوجة بمدرسة اقرب ما تكون للمدرسة النموذجية تتصف بالشمولية القيمية، وتحتضن في عمقها الأخلاق الثورية، والفكر المتطور. حالتي تلك هي الحالة التي تؤمن أن الإنسان قيمة، وإن تمثلت تلك القيمة فإنها تتواتر وتتداول، وتحاكي كل اللغات، والعصور، والمراحل، وتتطور مع تطور المحيط الإنساني العام، بأجزائه دون أن تتقادم أو تصبح موروث أثري يركن في أحد الزاويا، أو يضع على أحد الرفوف للعرض، أوصورة ت�رصع علىّ جدار، لأنها حيز من الحركة الروحانية الحية غير الجامدة، أو المركبة بالتقليدية. القيمة التي تمثل الإنسان والفكرة بمفهومها الاستدراكي لمعانِ الوجود والنقاء، ومفاهيم الاستنهاض الدائم لحافزية الانتفاض على الجمود والعقائدية الثابته الصلبة التي لا تتوافق مع متطلبات منظومة المستقبل والحياة. إنها القمية الأممية والقومية التي أمنت أن الوطن ذو حدود ممتدة بامتداد اللغة، والتراث، ولا يمكن حصرها في إطار أو دائرة ضيقة لا تتسع للجميع، أو ضمن أسلاك شائكة صنعتها قوى الإنهزام والاستعمار الفكري والإنساني. إنه " جورج حبش" المفكر الثوري الأممي الذي لم استهوي يومًا فكرة إنه (قائد) يمثل نموذجًا مختزلًا في قيادة حزبية أو حركية، محصورة في دائرة مغلقة، وإطار مجزأ. وربما هذه القناعة لا تتوافق مع الآخرين، ولكن إيماني بها، يضاهي إيماني ب"جورج حبش" المفكر الإنسان، وليس القائد، ولا يمكن لي أن أ�سلم بأن " جورج حبش" يكون حاملًا للواء القيادة لشريحة بإسم حزب أو حركة أو تجمع، فهو يمتلك صفات وسمات شخصية، وفكرية، وإنسانية، وسياسية تؤهلة للإصطفاف في صفوف النخبة المؤثرة في حركة الكون الفكرية، والثقافية والأيديولوجية، لتصطف بصف " ماركس، أنجلز، لينين، غارمشي، قسطنيطين زريق ..... إلخ" من مفكري الفكر الإنساني والأيديولوجي، والإجتماعي، والمئات ممن تركوا موروث فكري وأيديولوجي للبشرية. " جورج حبش" الحكيم الذي تعرض في مسيرته الحياتية لظلم في إختزال شخصة وفكره ضمن دائرة حزب أو حركة محددة، وهي النقيصة التي حددت من عالمية " جورج حبش" المفكر والإنسان الذي مزج القومية بالوطنية، وصبغها بالاشتراكية المتوافقة مع طبيعة وتكوين المجتمع، ومفاهيم الدور الإجتماعي، والصراع القائم في المنطقة، وطبيعته بكل أبعاده وتجلياته. لست بصدد الحديث عن " جورج حبش" فكريًا، لأنني لا أمتلك المقومات المؤهلة التي تدفعني للوقوف أمام هذا المفكر الإنسان، ولكن أمتلك القدرة على الحديث عن وجهة نظري المتعلقة ببعض المفاصل الصغيرة تجاه شخصية الحكيم، وأهم هذه المفاصل هي القناعات الشخصية المتعلقة بفكرة أن "جورج حبش" قائد، وهي فكرة لم تقنعني لأن القيادة مثلت قيد أمام إنتاج فكري كان يمكن أن يثري الموروث الفكري العالمي بإنتاج أكثر غزارة، وأكثر إنارة للمستقبل. إذن فهنا لست بالناقد لهذا المفكر الإنسان، بقدر ما أنا ناقد للحديث عن هذا الإنسان المفكر الذي كان لي الشرف يومًا أن أعمل في حزب هو أمينه العام، وأنتمي لهذا الحزب الذي يقوده، وفي لحظة كان الأقرب لنا في ريعان شبابنا ومثل لنا علامة فارقة في رسم حياتنا الثقافية، والفكرية، ورسخ لدينا قيم ومبادئ إنسانية لا زالت مرشدنا في مسيرتنا وتنمو مع نمونا الطبيعي. نحن بطبعنا البشري وخاصة في المجتمعات الشرقية، تعودنا أن نمرق كالبرق أمام ألإنجازات والإيجابيات، ونمشي كالسلحفاة أمام السلبيات، نشرحها، نحللها، ننتقدها، نفصل جزئيايتها، ننقب في كل جزء فيها، ونبحث في أدق تفاصيلها، وهو ما استوقفني اليوم، وأنا أتابع فعاليات مؤتمر الحكيم الفكري- الثقافي الأول في غزة، وبوجهة نظري الشخصية هو أعظم ما أنجزت الجبهة الشعبية ولجنتها الثقافية المركزية في السنوات الأخيرة، وإن عبر ذلك عن شيء فهو يعبر عن تطور في المفاهيم الفكرية، والثقافية للرفاق في رؤية الأحداث ومتطلباتها، وينم عن تطور حقيقي في إتجاه إعادة المكانة الحقيقية والطبيعية للمفكر الإنسان" جورج حبش" محليًا، وقوميًا، ودوليًا. خاصة أن هذا المؤتمر جاء إنطلاقًا من غزة، وفي هذه الأوضاع الاستثنائية التي تمر بها المنطقة العربية عامة، والقضية الفلسطينية خاصة، وما أحوجنا لوجود " جورج حبش" في هذه المرحلة الخطرة والهامة، التي تشهد عجزًا علىّ المستوى الفكري بشقيه التنظيري، والعملي. هذا المؤتمر الناجح بكل جوانبه جاء ليلبي طموحات كنا نعتقد إنها بعيدة أو أمنيات غير قابلة نوعًا ما للتحقق، ولكنها تحققت ووضعتنا أمام الاستحقاق الأهم في إعادة صياغة ذاكرتنا التي توقفت في شهر " كانون ثانٍ" 2008م عندما فارقنا جورج حبش الجسد، وترك لنا الروح تائهين في البحث عن بدائل يمكن أن تشكل مدخلًا آخر للاستزادة الفكرية ولكن!!! هذه الحقيقة التي مثلتها الخطوة التي جسدتها الجبهة الشعبية في غزة بعقد مؤتمر " الحكيم الفكري- الثقافي الأول " جاء مكملًا لمرحلة إعادة الاستنهاض الحزبية التي تعيشها الجبهة الشعبية في الفترة الأخيرة، فكان مؤتمرًا ناجحًا في جوانبه التخطيطية، والتنفيذية. ولكي لا استفيض طويلًا أمام هذا المنجز" المؤتمر" وأكون ذو رؤية تتخذ الحقيقة المطلقة بمثالية تناول المؤثرات الإيجابية، وندفن رؤوسنا في تراب الغرور، فإن لي وقفة مع المؤتمر وخاصة أمام بعض السلبيات التي طغت على ألأداء من قبل مقدمي الأوراق، التي تناولت أوراق العمل بشكل سردي قرائي، دون أن تبعث الحياة التحليلية التفاعلية في هذه الأوراق التي تناولت كل جوانب شخصية وحياة " جورج حبش" وألقت الضوء على كل تفصيليات المفكر الإنسان. ولكنº طريقة التقديم إنتابها الرتابة السردية غير المبدعة في استعراض تحليلي موجز لأوراق العمل، فغابت روح التفاعل بين الملقي والمتلقي، وإنتاب جزء من المؤتمر حالة رتابة، وهذا الشيء يعود لأمرين أولهما: أن مقدمي الأوراق لم يتداركوا أهمية وحيوية ومفهوم المؤتمر، وهو احتمال ضعيف جدًا لأن جميعهم يمتلكوا قدرات أكاديمية، وسياسية، وثقافية، وفكرية تؤهلهم لهذه المهمة. أما الإحتمال الآخر، فإنها تعاملت مع المؤتمر كتجربة أولى، وتعاملت معه بنوع من الحرص والحذر الزائد، وهو الاحتمال الأكثر ترجيحًا – حسب وجهة نظري-. فالأوراق كما وأسلفت التي قدمت في اليوم ألأول أسقطت كل الجوانب الفكرية والإنسانية في شخصية الحكيم، إسقاطًا إبداعيًا، وتعاطت مع الشخصية والفكر في إطاره الحقيقي، وإن لم يكن أقل من إطاره الذي يستحق، ولكن الشكل السردي والقرائي الذي تم إنتهاجه من قبل مقدمي الأوراق في المؤتمر، أفقد المؤتمر جزءًا من الجانب التفاعلي، أو التعاطي مع الصورة بمحاكاة مباشرة بين الملقي والمتلقي، وبين الشخصية والفكر والمتلقي، فحولته لصورة جامدة عبارة عن نصوص تلقى على مسامع الحاضرين، افتقدت لروح الإنسجام والتفاعل الحي بين الشخصية والمتلقي، فأصبح التفاعل الجامد بين الملقي والمتلقي، وهو ما أفقد المؤتمر لبعض أهدافه. أضف لذلك إفتقاد اليوم ألأول من المؤتمر لوهج الصورة الحية للحكيم، واعتماده على النسخ واللصق في التعاطي مع الشخصية، بالرغم من وجود شخصيات قادرة على نقل جزء من حياة حبش بإنبعاث حي تفاعلي بين المتلقي وهذا الجزء، بعيدًا عن التجريدية في التعاطي. فالشخصيات التي عايشت جورج حبش مثل الرفيق " غازي الصوراني" والرفيق " كايد الغول" كان بإمكانها الإعتماد على التصوير الحي لمكون من مكونات شخصية حتى تخلق تفاعل أكثر حيوية بين الشخصية والمتلقي الذي يريد أن يتقرب من أدق مكونات هذه الشخصية بعيدًا عن الجانب التنظيري مع أوراق مكتوبة فقط، أي كان المطلوب بث روح الحياة في الجانب التكويني للورقة. هي وجهات نظر ورؤى تتباين بين شخص وآخر وربما ما أراه صوابًا يراه ألآخرون خطأ وفق ما لديهم من أسباب ومبررات حول هذه الآلية، ولكنه إجتهاد من نابع الغيرة على تقديم ما هو أفضل بكل ما يتعلق بالحكيم" جورج حبش". وبالرغم من هذا فإن مجرد فكرة عقد المؤتمر بحد ذاته عملًا مميزًا، وخطوة هامة ومهمة عبرت عن حجم هذا المفكر الإنسان، الذي نفتقده في هذه الحقبة المؤثرة والهامة من المتغيرات في منطقتنا، وفي قضيتنا. وأتمنى أن تتوسع الفكرة من خلال عقده سنويًا على أن تكون كل دوره في مكان ودولة مختلفة، وتثبيت المؤتمر كمركز دراسات توثيقي وبحثي يتم دولنته. وفي النهاية لا يسعني إلا إستذكار الطبيب الذي تحول إلى ضمير وفكر الأمة الثائر النابض بالرحمة والسلام لروحه الطاهرة. سامي الأخرس 24 نيسان 2011م