إلى إدارة الموقع المحترمين، تحية واحترام، أرجو نشر المقال المرفق في موقعكم - مع الشكر أيتها الأخوات أيها الإخوة أسعدتم مساء أودّ، بادئ ذي بدء، أن أشكر المجلس الملّي الأرثوذكسي ولجنة النشاطات الثقافية والقائمين على الكلية الذين بادروا لعقد هذه الأمسية التي تحتضن المهد العربي..وهي بلا شك بادرة طيبة..أرجو أن تتبعها مبادرات.. لا أستطيع أن أحشر "المهد العربي"، محيطًا بلا شواطئ، في علبة صغيرة من الزمن المتاح..فالحديث طويل..والفضاء بخيل! لكن..اسمحوا لي أن أقرأ بعض البرقيات السريعة..وأعزف على إيقاع عصر السرعة..لعل هذه البرقيات تصل إلى عنوانها أو عناوينها..وتصيب هدفًا..وبذلك تؤدي الرسالة! ألبرقية الأولى نحن جميعا..مستهدفون.. نحن جميعًا، على مختلف انتماءاتنا الطائفية..مستهدفون.. لغتنا العربية مستهدفة.. حضارتنا مستهدفة.. مقدساتنا كنيسةً ومسجدًا وقبرًا..كلها مستهدفة.. ووجودنا في وطن آبائنا وأجدادنا تغمره غابة من علامات السؤال..وتغطي سماءه الغيوم الداكنة..وعلامات الاقتلاع! ** ألبرقية الثانية القرآن الكريم والإنجيل المقدس..تحت خيمة واحدة القرآن الكريم والإنجيل المقدس..يسكنان جنبًا إلى جنب في مكتبتي وفي قلبي ووجداني.. أمس فتحت النافذة..وأشرفت، من شرفة القرآن، على رسول المحبة والسلام والسيدة مريم العذراء..عليهما الصلاة والسلام..وقمت بعملية حسابية..مستعينًا بال"معجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم"، فتكشّفت أمامي الصورة التالية: لقد ورد ذكر السيد المسيح رسول المحبة والسلام في القرآن الكريم إحدى عشرةَ مرةً.. وورد ذكر السيدة مريم العذراء عليها السلام..أربعًا وثلاثين مرةً.. إنه أعظم تكريم..وأنبل تكريم..وأروع تكريم..لرموز الدين المسيحي في القرآن الكريم.. ** ألبرقية الثالثة لقد رفعوا راية القومية العربية.. أمس مساء..رحت أستعرض شريطًا وثائقيًا..يزينه روّاد النهضة العربية الحديثة..الذين رفعوا راية القومية العربية..في العهد العثماني.. فمرّ أمامي بعض الكتاب والأدباء من آل اليازجي وآل البستاني إضافة لعبد الرحمن الكواكبي ونمر فارس وشبلي شميّل وفرح أنطون وشكيب أرسلان..وأمين الريحاني وجبران خليل جبران..والقائمة طويلة حدودها السماء.. ** ألبرقية الرابعة ألمطران والشيخ..تحت مظلة واحدة! ألمطران عطا الله حنا والشيخ رائد صلاح أخَوان توأمان..يتنفسان من رئة واحدة..ويشربان من نبع الصفا..يجلسان على منصة واحدة..وتحت راية واحدة..دفاعًا عن الأقصى..وعن الوجه العربي لزهرة المدائن.. مشهد يشرح الصدر..وينطوي على أكثر من دلالة..ويحمل رسالة! ويزداد إيماني وتفاؤلي..بأن الدنيا ما زالت بخير..وأن المستقبل لنا..رغم الغيوم "المارقة" العابرة.. "إشتدي أزمة تنفرجي"..هكذا علمنا الرسول العربي (ص) ودوام الحال من المحال!..هكذا علّمنا تراث آبائنا وأجدادنا.. ** ألبرقية الخامسة كلنا في الهمّ شرق الزمان: عام 1926 والمكان: دمشق الفيحاء عاصمة الأمويين. تشتعل الأرض الدمشقية نارًا تحت سنابك الغزاة والمحتلين الفرنسيين..وتنتفض المقاومة بإباء وكبرياء..شوقًا إلى الحرية والاستقلال..ودفاعًا عن الكرامة القومية.. فتفتح جَهنم أبوابها وتمطر طائرات الغزاة نارًا على دمشق..وتسقط الضحايا الدمشقية: 1416 قتيلًا كان من بينهم 336 من النساء والأطفال. فتئنّ أرض الكنانة..وينطلق صوت أمير الشعراء..من قاهرة المعزّ لدين الله الفاطمي إلى دمشق الفيحاء..مضمدًا جراحها..ومعانقًا شمس الحرية.. وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرّجة يُدَقُ يقول شوقي في قصيدته "نكبة دمشق": نصحتُ ونحن مختلفون دارًا ولكن كلنا في الهمّ شرقُ فالحاضر الرمادي واحد..ومستقبلنا واحد.. وجرحنا واحد..وحلمنا واحد.. وكلنا في الهمّ شرق.. ** ألبرقية السادسة محمد مارون عبود..ومارون محمد الحلبي! عام 1926 أطلت الطائفية من جحرها بفحيحها ووجهها البشع..وراحت تبث سمومها في وطن الأرز الأخضر. مارون عبود..قامة الأرز الشاهقة..مسيحي ماروني..ويأبى إلا أن يكون "أبا محمد"..فهل يُعقل؟ ويسأل السائلون مشدوهين: وكيف كان ذلك؟ لقد وقف مارون عبود شامخًا على قمة من قمم الأرز الشامخة..وأطلق صاروخ التحدي..فأسمى ابنه محمدًا! وصار مارون عبود أبا محمد.. وكتب قصيدة جميلة وهادفة عنوانها "محمد مارون"..أنصح الإخوة بالتعرف عليها..فهي من روائع الشعر العربي! وسرعان ما جاء الردّ من المهجر الغربي..فقد بعث أحد المسلمين، واسمه محمد الحلبي، تحية إكبار وإجلال إلى مارون عبود..وردّ التحية بأحسن منها..فسمى ابنه مارون..وصار مارون..مارون محمد الحلبي! ومن قرية الفريكة اللبنانية..بعث أمين الريحاني (فيلسوف الفريكة..وأحد الدعاة الطلائعيين إلى الوحدة العربية)..برسالة إلى أخيه مارون عبود جاء فيها: "أخي مارون عبود أصافحك بيدَي الحب والإعجاب وأهنئك بصبيّك الجديد.. أحسنت يا مارون، أحسنت، وخير الآباء أنت.. إن المستقبل لهذا الجيل من الإخوان، وفي مقدمتهم محمد بن مارون عبود اللبناني، حرسه الله.. أخوك أمين الريحاني ألفريكة، لبنان، 11 نوفمبر سنة 1926" ** أولئك إخوتي..فجئني بمثلهم! ** ألبرقية السابعة ألروم أولاد عم الإسلام ألمطران جورج خُضُر..مطران جبل لبنان لطائفة الروم الأرثوذكس. وقد ولد بطرابلس الشام، وترعرع فيها بين المسلمين. يقول المطران خُضُر: "لسنا كلنا مسلمين..ولكننا كلنا إسلاميون، بمعنى أن هناك حضارة واضحة جدًا هي الحضارة العربية والإسلامية ونحن كلنا ننتمي إليها". لقد شاع في الناصرة القول المأثور: ألروم أولاد عمّ الإسلام. فنعم هؤلاء عمًّا وأولاد عمّ..وأهلًا وسندًا لجميع أبناء شعبنا..فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا.. ونعم الشرفاء من جميع الطوائف من أبناء شعبنا..أعمامًا وأخوالًا وأهلًا وإخوة.. ونعم رجال الدين الشرفاء على اختلاف ألوانهم ومشاربهم وانتماءاتهم الطائفية والدينية والمذهبية والقومية.. ** ألبرقية الثامنة خوري البروة..خوري إسلام! هل سمعتم بجبران الخوري..خوري الإسلام؟ إنه أبو سليم خوري..خوري البروة.. ألزمان: عام 1931 والمكان: قرية البروة. كان جبران الخوري جمّالًا..وكان مثقفًا بالفطرة..كان الرجلَ بين الرجال.. وكان زينة الرجال..حصيفًا فصيحًا ذا طيبة ومهابة..أحبه جميع أهل البلد.. ذهب وفد من أهل القرية، مسلمين ومسيحيين، إلى بطريارك الروم الأرثوذكس دميانوس في زهرة المدائن. وعلى رأس الوفد الجمّال جبران الخوري أبو سليم! حمل الوفد مضبطة (عريضة) وقع عليها المسلمون والمسيحيون تطالب بتعيين أبو سليم ليكون "خوري البروة"! واستولت على البطريارك دهشة..وانتصبت الأسئلة وعلامات التعجب..وكثر لغط البطانة حول البطريارك! ماذا يفعل المسلمون في مثل هذا الوفد الذي جاء لقضية تخصّ الطائفة المسيحية؟ وكان جواب أهل البروة المسلمين: نحن نريده أن يكون خوري المسلمين قبل أن يكون خوري المسيحيين..نريده أن يكون خوري جميع أهل القرية! وهكذا أصبح أبو سليم..خوري إسلام! ** ألبرقية التاسعة نحن على دين قيصر! سحماتا قرية عربية فلسطينية..من قرى الشمال..وسكانها من أبناء الطائفتين..سحماتا من أجمل قرى الشمال موقعًا..وأطيبها أهلًا..فقد كان الأهالي أهلًا أهلًا وقلبًا واحدًا..يأكلون من صحن واحد..أحزان واحدة وأفراح واحدة! كان فيها ثلاثة مخاتير، إثنان مسلمان والثالث مسيحي..هو قيصر سمعان.. كان قيصر موضع ثقة لدى أبناء الطائفتين..يحل ويربط..وكان صاحب القول الفصل في الأوقات العصيبة.. كان المخاتير الثلاثة يوقّعون معًا على المستندات الرسمية..بما فيه الأمور الشرعية المتعلقة بالمحاكم الشرعية الإسلامية! كانت التواقيع الثلاثة تجلس متآخية متكاتفة في ديوان واحد..على الأوراق الرسمية.. وكان المختاران الأولان يعتزّان ب"صلة الرحم" هذه..ويقولان: "نحن على دين قيصر"! فذهبت مثلا..ما زال محفورًا في ذاكرة الأجيال السحماتية وفي وجدانها..وما زالت الأجيال ترددها حتى الساعة.. نحن على دين قيصر! نحن على دين قيصر! ** ألبرقية العاشرة ألرجال مواقف! ومن سحماتا إلى سويسرا! مؤخرًا جرى استفتاء في بلد الحضارة والجمال..غالبية السويسريين توافق على منع بناء المآذن.. ويتصدى التجمع الوطني المسيحي في الأراضي المقدسة لهذا الاستفتاء المشبوه والمسيء إلى مشاعر المسلمين المؤمنين. ديمتري دلياني رئيس التجمع الوطني المسيحي..يتخذ موقفًا مشرفًا منددًا بهذا الاستطلاع..ويعتبره خرقًا لمبادئ حرية المعتقدات.. فالرجال مواقف! ** ملاحظة: بعد الانتهاء من سرد هذه البرقيات الخضراء، همس في أذني صديق حميم وأخ لي لم تلده أمي.."حبذا لو ذكرت برقيتين أخريين عن: حنا نقارة وماريا القبطية"..فرأيتني أفزع إلى الذاكرة وإلى كتب التراث والتاريخ..وأنبش في الدفاتر العتيقة..فأعثر على وردتين جوريتين..وأقرأ ما يلي: حنا نقارة محامي الأرض والشعب لا عروبة بلا إسلام ولا إسلام بلا عروبة عام 1975 تأسست "جمعية المبادرة الإسلامية" في حيفا للدفاع عن مقدساتنا وأوقافنا..عن تراثنا الحضاري وعن وجودنا التاريخي في أرض الآباء والأجداد.. وقادت الجمعية حملات شعبية ونضالات مشرفة في سبيل الدفاع عن المقدسات الإسلامية والمسيحية. ورأت في الاعتداء على الكنيسة أو المسجد اعتداء على مقدسات الشعب الفلسطيني الباقي في وطنه. وقد أحيت الجمعية الاحتفالات والاجتماعات العديدة التي شارك في إحيائها الشخصيات الوطنية والسياسية من جميع أبناء طوائف شعبنا. وحرصت "المبادرة" على خطابها الوطني ووجهها التقدمي الشريف..فوقفت على منابرها شخصيات وطنية تقدمية من جميع الطوائف. وعلى فضاء المنابر اعتلى حنا نقارة وعصام العباسي وحنا أبو حنا وتوفيق طوبي وتوفيق زياد والقس نعيم عتيق والقس شحادة شحادة والقاضي فريد وجدي الطبري ومحمد زيدان (أبو فيصل) وعلي عاشور ويوسف الزعبي (أبوعمر) ومحمد ميعاري والشاعران سعود الأسدي ونزيه حسون وغيرهم. ** ألزمان: 22-12-1976 ألمكان: قاعة تفئيرت (حيفا). ألمناسبة: إحتفال ضخم بمناسبة العام الهجري الجديد. غصّت القاعة بالمئات من جميع الطوائف الذين جاؤوا من جميع أنحاء البلاد. واخترق الجموع عرض كشفي مهيب شاركت فيه سريّات كشفية من جميع الطوائف..فدقت الطبول وهزت المشاعر..وانتصبت قامات..وارتفعت هامات ومعنويات! ومن على المنبر وقف المحامي حنا نقارة محامي الأرض والشعب..وألقى خطبة ألهبت حماس الجماهير الحاشدة، وجلجل صوت "أبو طوني" بعبارته المشهورة: "لا عروبة بلا إسلام..ولا إسلام بلا عروبة". واشتعلت القاعة بالتصفيق.. ورغرغت العيون بدموع الفرح.. لن تنسى الأجيال حنا نقارة محامي الأرض والشعب! طيّب الله ثراه.. ** ماريا القبطية..زوجة للرسول العربي! في بداية الدعوة للإسلام..وفي السنة السابعة للهجرة..بعث الرسول العربي وفودًا إلى ملوك العالم تدعوهم إلى اعتناق الإسلام.. ومن بين هؤلاء الملوك هرقل ملك الروم، كسرى أبرويز ملك الفرس، المقوقس ملك مصر التابع للدولة البيزنطية والنجاشي ملك الحبشة. واستقبل هؤلاء الملوك وفود الرسول والرسائل وردوها ردًا جميلًا.. أما المقوقس فقد رحّب بالوفد..وردّ على الرسول برسالة لطيفة بدأها "بسم الله الرحمن الرحيم"..جاء فيها "إن لنا دينًا لن ندعه إلا لما هو خير منه". وحمّل الوفد الهدايا للرسول وعلى رأسها فتاتان جميلتان مارية القبطية وأختها سيرين، وهما جاريتان لهما مكان في القبط عظيم. أهدى الرسول سيرين لشاعره حسان بن ثابت وتزوج من مارية القبطية التي ولدت له طفلًا جميلًا يشبهه أسماه إبراهيم "تيمنًا بأبيه إبراهيم خليل الرحمن" أبي الأنبياء.. وترك لنا الرسول أمانة تاريخية! "استوصوا بالقبط خيرًا فإن لهم ذِمّةً ورحِمًا". هكذا تكلم الرسول العربي. ** ومسك الختام سلام على حب يوحّد بيننا في سَورة غضب ساطع واحتجاج ضد التعصب الطائفي..أطلق الشاعر القروي رشيد سليم الخوري عاصفة تسونامية..زلزلت الأرض العربية.. قال مخاطبًا غلاة التعصب الطائفي: سلام على كفر يوحّد بيننا وأهلًا وسهلًا بعده بجَهنم ونحن نقول: سلام على حبّ يوحد بيننا.. "فإذا المحبة أومت إليكم فاتبعوها..وإذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها"، (جبران خليل جبران). أما جهنم فلا أهلًا ولا سهلًا ولا مرحبًا..ولتُفتح أبوابُها لمن يستحقها ويليق بها وتليق به! إن أساطين العمى السياسي ووحوش العولمة في البيت الأبيض..يزدحمون على أبوابها..وينتظرون بالدور..فإلى هناك..وبئس مصيرًا! ** وأخيرًا تحية إلى الأخ سميح غنادري على هذا العمل الإبداعي المحيط الذي عزّ نظيره..روحًا وطنية وقومية وإنسانية.. إن "المهد العربي" يلقي الضوء على جزء عضوي وثمين وعزيز من أبناء شعبنا ودورهم في النهوض بالحضارة العربية والإسلامية ماضيًا وحاضرًا..وهم يواصلون المسيرة على هذا الطريق..نحو مستقبل يأبى إلا أن ينزع نحو الأشرف والأروع! مستقبل تسوده الحرية والكرامة والعدل الحقيقي والحياة الأفضل.. وكل عام وأنتم وشعبنا بخير.. ** (نص الكلمة التي ألقاها الكاتب في أمسية ثقافية دعت إليها لجنة النشاطات الثقافية في المجلس الملّي الأرثوذكسي، وأقيمت في الكلية الأرثوذكسية العربية في حيفا، بتاريخ 4-12-2009 حول كتاب "المهد العربي- ألمسيحية المشرقية على مدى ألفي عام" لسميح غنادري)