تاريخيا ، تزامن صعود الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة مع هبوط حركة التحرر الوطني العربية وتراجعها ، بالذات في أعقاب هزيمة حزيران عام 1967 ، وما تلاها من ضربات موجعة تلقتها الحركة القومية والناصرية العربية ، وصولاً إلى إنهيار المعسكر الاشتراكي، وفقدان حليف دولي قوي لهذه الحركة...وترتب على هذه المفارقة ، دخول الثورة الفلسطينية في معارك طاحنة سياسية وإعلامية ، وأحياناً عسكرية ، مع النظام العربي ، دفاعا عن مقتضيات الثورة ووجودها ، وصوناً لقرارها الوطني المستقل ، وحقها الحصري في تمثيل شعبها. اليوم ، تبدو الصورة مغايرة على نحو مؤسف ، فحركات "الاستقلال الثاني" التي تنبعث في عدد من الدول جاءت في ذورة تراجع وانقسام حركة التحرر الوطني الفلسطينية ، ففي الوقت الذي يخرج فيه "المارد الشعبي" من قمقمه في تونسوالقاهرة وبنغازي وعدن والمنامة ، تبدو رام الله وغزة "خارج النص والسياق" ، الأولى مثخنة بتداعيات التنسيق الأمني ومندرجات مشروع "السلام الاقتصادي المُغلّف" ، والثانية منهكة بهيمنة اللون الواحد و"قانون الاجتماعات العامة" المُستلهم لأسوأ ما تفتقت عنه الذهنية "العرفية" العربية. "الرفاق حائرون" ، من داعْ للمصالحة ومنادْ بإنهاء الانقسام ، إلى متريث في الاستجابة للدعوة ، مروراً بمراهنْ على عامل الزمن ظناً منه أنه يعمل لصالحه ، "الرفاق خامدون"....فيما المنطقة العربية تغلي بكل عوامل الثورة والانتفاضة ، من "المحيط الهادر" إلى "الخليج الثائر"...نظمّ تطيح وأخرى "تتحسس رأسها" ، وترقب باهتمام ، المصائر الصعبة التي انتهى إليها مبارك وابن علي والقذافي. هذا الصمت و"الموات" لا يليق بشعب فلسطين ، الذي اعتاد أن يكون طليعة متقدمة لحركة التحرر الوطني العربية ، وقدوة ونموذجا لحركات تحرر عالمية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينة...هذا "التخلف" لا يليق بشعب فلسطين وثوّارها ، الذين أطلقوا الثورة تلو الأخرى ، والانتفاضة تلو الأخرى ، في أصعب الظروف وأشد اللحظات ظلمة وحلكة ، وعلى امتداد قرن بطوله وعرضه وارتفاعه...هذا "القعود" لا يليق بفلسطين والفلسطينيين الذين لم ترهبهم آلة الحرب الإسرائيلية ، ولم توقف اندفاعتهم المؤامرات العربية ، حتى يخضعوا كما نراهم اليوم ، لجنود دايتون وحسابات التنسيق الأمني وقوانين الاجتماعات العامة ، فما الذي أصاب هذه الشعب ، وما الذي دهاه ؟،. يحدّثك قادمون عن سماء الضفة المشبعة بالغاز والاحتقان ، في انتظار الشرارة التي ستشعل سهلاً...ويحدثك قادمون من القطاع عن شيء مشابه ، وإن كان أقل حدة وتفجرا...من يعلق الجرس ومن يطلق الشرارة...هذا الركود الفلسطيني لم يعد مفهوماً ولا مقبولاً...لقد بات ثقيلاً على النفس والروح والعقل والقلب والضمير....في زمن الانحطاط العربي ، كنا نسعد ب"فلسطينيتنا" سواء كنا فلسطينيين أم عرباً منتمين لهذه الحركة الطليعية ، ولم تكن العروبة هي "الهوية الأولى" التي نعرّف بها عن أنفسنا...اليوم بتنا نقدم "عروبتنا" على "فلسطينيتنا" بعد أن استعادت العروبة ألقها ، وخرجت من قاموس "الحريرية السياسية" ومدرسة الاعتدال العربي ، اللتان أرادتا حشر العروبة في زاوية المواجهة مع إيران فقط ، حتى وإن أدى الأمر إلى أخراجها عن خط المواجهة مع إسرائيل ، بل والتنسيق معها إن تطلب الأمر. اليوم بتنا نتلعثم ونحن نتحدث عن "فلسطينيتنا" ، وأحياناً نهمس بها بصوت خفيض حتى لا نجابه بسيل الأسئلة والتساؤلات المحرجة...فهل آن الأوان لإعادة إحياء وبعث "الهوية الفلسطينية التقدمية المقاتلة والمناضلة في سبيل الحرية والاستقلال" ، هل من معبرين عن هذه الهوية خارج الفريقين ، التفاوضي المُفرّط والأمني المتورط...أما من وسيلة لإعادة الاعتبار لهوية الفلسطيني "المناضل الفلسطيني" ، بعد أن تلوث بألقاب المعالي والعطوفة والسعادة من الجالسين على "خازوق" التنسيق الأمني وبطاقات ال"في آي بي" ؟. بعد تونس وميدان التحرير وبنغازي ، بتنا نخجل من كل هذه "الهياكل" والأسماء والألقاب في رام الله...بتنا نشعر أنهم جزء من الثورة المضادة في العالم العربي ، ألم يدعموا مبارك حتى آخر لحظة...ألم يدعموا من قبل "زين العرب" بن علي...ألم يقف "الماركسيون الليبيون" بالباع والذراع خلف العقيد القذافي...ألم يرسل أحد زعماء اليسار الفلسطيني ببرقية تهنية للوزير عمر سليمان على ثقة مبارك الغالية فيه ، في الوقت الذي كانت فيه شوارع القاهرة والسويس والاسكندرية وبورسعيد تردد هتافات "لا مبارك ولا سليمان". نحن بحاجة لثورة فلسطينية مركبة ، تطيح أولاً برموز أكل الدهر عليها وشرب ، سئمها الشعب كما سئمت الشعوب العربية قياداتها ورموزها...وبعض قياداتنا ورموزنا الفلسطينيية مضى عليها في الحكم زمن أطول وأبعد..نحن بحاجة لثورة ضد الجدران والاستيطان والاحتلال...ما بالنا لم ندرج بعد تعبير "المظاهرات المليونية" ضد الاحتلال...في لبنان يُخرج حزب الله وتيار المستقبل ملايين المتظاهرين إلى الساحات والميادين ، وفي تونسوالقاهرة واليمن تخرج التظاهرات بالملايين ومئات الألوف...ما بال الفلسطينيين لا يفعلون شيئاً مماثلاً في مختلف المدن الفلسطينية ، ما بالهم لا يخرجون بمئات الألوف في توقيت متزامن ضد الحواجز والمستوطنات وجدران الفصل العنصري ، مظاهرات "سلمية...سلمية" تستلهم دورس ثورة العرب الكبرى الجارية. يا إلهي ، كم هو مقيت ومثير للغثيان ، أن تستمع في هذا الزمن التونسي والمصري والليبي الجميل ، لتصريحات تطالب بتوقيع الورقة المصرية و"هيكلة أجهزة الأمن" ، وتشكيل حكومة تبقي حال الانقسام على حاله...يا إلهي كم هو كريه أن ترى فرسان الهزيمة الفلسطينية يتصدرون المشهد هذه الأيام ، وأنت تلعم أن نظراءهم وزملاءهم يقبعون في سجن طرة ليمان ، وآخرون "خرجوا ولم يعودوا"...يا إلهي كم هي ضاغطة وملحة ، الحاجة لتغيير السياسات والوجوه سواء بسواء...لقد سئمنا هؤلاء....لقد تعبنا منهم.