ليس غريبا ان يلجأ استاذ للتعليم الابتدائي الى التهديد بالاعتصام امام نيابة التعليم بجرادة ، ماذا يعني اعتصام رجل تعليم ؟ لا نريد تلك القراءة السطحية داخل عالم اصبح يعرف فورة من الاحتجاجات غير المعهودة ، ولن نجادل في شرعية ذلك ، كما كان الجدال حول احراق البوعزيزي لنفسه هل هو استشهاد ام انتحار، ونتناسى حجم الاحتقان الذي يكبر، ونتجاهل الى اين قاد فعل البوعزيزي . فالبوعزيزي حرق نفسه لأن هناك ظلم واستبداد . وما دام انه ليس هناك من يعترف بالحق في واقع يسوده الظلم والطغيان ، يأتي رد الفعل الذي لا يمكن لأحد تخيله ، لقد احس البوعزيزي انه لا مكان له في هذا العالم وبالتالي يحرق نفسه وينهي هذا الوجود من عالم لا يعترف به . لكن البوعزيزي بائع الخضر كان الشرارة التي صنعت الثورة . فالبوعزيزي أوقد شعلة خلقت تغييرا جذريا لم يكن احد يعتقده ... تغييرا ضد الفساد والاستبداد والنهب ... فالاحتقان كان يسكن الملايين في صمت ، وكان يصعب رؤية ذلك ، بفعل غشاوة الجشع والاستكبار ... اعتصام استاذ التعليم غريب لكن حاضر في عالم الاحتجاج على الفساد ، وقد يذهب هذا النوع من الاحتجاج ابعد امام انسداد ابواب التعاطي الديمقراطي وشيوع الفساد بكل اشكاله ، ولا نستغرب يوما ما ان يهدد احد بحرق نفسه امام الادارة التي تظلمه . هناك ما يدعو رجل التعليم الى الاحتجاج بهذه الطريقة . فالفساد ينخر هذه المؤسسة في العديد من المناحي الادارية البشرية والمالية ، والعديد من رجال التعليم لم يعودوا يطيقون هذه التفاوتات التي تصنعها النيابة بينهم بفعل المحسوبية والزبونية والامتيازات التي ينتفع منها البعض ، ولم يعودوا يقبلون بالفساد المالي الذي جعل من موظفين أمثالهم لا يفوتونهم في السلم الاداري ، اثرياء ومقاولين تحت غطاء ... يمارسون سلطة مشوهة ، وفي غفلة داحل بلد ليس فيه اي مكان للمحاسبة والمراقبة ، فهم موظفون يسهرون على مسؤولية بهذه الادارة وهي مسؤولية فتحت ابواب النعيم المادي على اصحابها الذين لم يكونوا اكثر من اساتذة القسم ... . هناك فساد اصغر داخل هذا الحيز لا ينفصل عن الفساد الاكبر، الذي ينخر هذا المغرب الكبير، وتلك معضلة كبيرة ، هذا الفساد الذي لم يعد مقبولا ، فالتفاوتات التي تُصنع بين رجال التعليم لا تزيد الا من الاحتقان والكراهية والسخط والتمرد . وامام عجز النقابات وتهاونها واندماجها داخل الفساد هو ما يدفع البعض الى اتخاذ مواقف انفرادية لمقاومة الفساد او اللجوء الى قرارات احتجاجية غريبة بأشكال غير معهودة تتطور يوما عن يوم نحو نهاية مجهولة ، وربما غدا لن يكون بالإمكان احتواء ذلك ، ولن يكون اي جدوى لكل المسكنات ، فمنهج التدبير المختل البشري والمالي ، انما هو عبث بمصير البلاد لمن يقدمون منافعهم الشخصية ، ويفتقدون رؤى مستقبلية في عالم المتغيرات الحالية ، وصمت المسؤولين ودعمهم للفساد انما يصنع الارضية لذلك ، فالاحتقان يكبر يوما عن يوم ، فالدخان يتصاعد من اوكار الفساد التي تغطيها القنوات التلفزية ، ويتفرج الشباب على نهايتها التراجيدية على صفحات اليوتوب ... تلك عبرة يجب الاستفادة منها حتى لا نورط هذا البلد فيها ...