انتهت القصة حتى قبل أن يصدر القرار الظني أو الاتهامي عما يسمى المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق. وثبت أن المحكمة مجرد فضيحة، فليس ثمة قضاء عادل ولا تحقيق نزيه، بل تلفيق في تلفيق، وترد في الوحل من ميليس إلى بلمار، ومكب نفايات مليئاً بفبركات تصنعها أجهزة المخابرات الأمريكية والإسرائيلية بالذات، وعلى طريقة قصص أسلحة الدمار الشامل التي مهدت لغزو العراق، ثم تبين أنه لا أسلحة بل يحزنون، وأن المراد كان تدمير العراق لمصلحة إسرائيل، وهو ما يتكرر اليوم بحذافيره من وراء ستار محكمة تدفع أمريكا موازناتها، وتمدها المخابرات الإسرائيلية بحكاياتها، وتجمع لها شهود زور، وتفتعل اتهاما لعناصر من حزب الله بتدبير وتنفيذ عملية اغتيال الحريري، وبهدف وحيد هو النيل من حزب الله، وتأليب السنة اللبنانيين عليه، وإشغاله في صدام داخلي يمهد لعدوان إسرائيلي جديد يتصور أن بمقدوره تصفية ونزع سلاح حزب الله . ولا تشغلونا من فضلكم بقصص تحقيق وعدالة فارغة، فليس الحريري أهم من لبنان، وقد قتل الحريري كما قتل قبله قادة لبنانيون كثيرون، وفي ظروف غامضة، وفي بلد يعاني من هشاشة سلطته الأمنية، وتحول إلى مزرعة هائلة لأجهزة المخابرات الأجنبية، وإلى برج بابل ناطق بلغات ومصالح الدنيا كلها، وتوجهت أصابع الاتهام إلى عديدين، وكان نصيب أجهزة المخابرات الأمريكية والإسرائيلية هو الأوفر، بيدها أو بيد عملائها، ولم يدخل حزب الله أبدا إلى هذا المستنقع، وليس في تاريخه الجليل رغبة أو شبه رغبة في تصفية خصم سياسي داخلي بالاغتيال الغادر، بل كانت قنابله الاستشهادية وصواريخه ودماء مجاهديه فداء للبنان والعروبة والإسلام، وأذاق الأمريكيين والإسرائيليين ويلات في حروب متصلة على مدى عقود، ولم يكن الحريري الأب ولا سواه ممن يستحق التفات ولا انتقام حزب الله .. جيش الأمة الذي لا يقهر . إذن، فاتهام حزب الله بدم الحريري قضية خلقية وسياسية، وتحقيقات المحكمة إياها أوهي من بيت العنكبوت، وقراراتها المنتظرة مجرد توصيف قضائي لشهوات الأمريكيين والإسرائيليين، ورغباتهم المحمومة في إلحاق الأذى بحزب الله الذي هزم إسرائيل مرتين، وقد شاءت الأقدار أن تكشف دجل وشعوذة المحكمة، وأنها تشرب من البئر المسموم ذاته الذي يسقي وسائل إعلام صهيونية الهوى، فقد تحولت وسائل إعلام بعينها إلى منابر تملي على المحكمة ما يتوجب قوله، وعلى طريقة تسريبات مخابراتية ظهرت في 'دير شبيغل' الألمانية أولا، ثم على شاشة قناة 'سي . بي . سي نيوز' الكندية أخيرا، وقبلها وبعدها في تليفزيون إسرائيل، وفي صحفها من نوع 'يديعوت أحرنوت' و 'هآرتس'، وكلها تتعامل مع أسرار المحكمة ومع عملها كعملية مخابرات، وتتحول بالاتهام من سورية إلى حزب الله بحسب تقلبات الطقس السياسي، أو تجمعها معا كما نتوقع، ولا تقدم دليلا سوى الكذبة المفضوحة نفسها، وهي أدلة الاتصالات، ووجود مكالمات هاتفية تنسب لعناصر في حزب الله وقت عملية اغتيال الحريري، وهو دليل ساقط بقرار دولي، فقد أدان اتحاد الاتصالات الدولي قبل شهور إسرائيل لاختراقها شبكة الاتصالات اللبنانية، وهو الاختراق الذي جرى التوسع فيه إلى حد الاكتمال قبل شهور من واقعة اغتيال الحريري، وأصبح بوسع إسرائيل من وقتها تغيير قواعد البيانات، وتوأمة الهواتف، وزرع أرقام في هواتف ثلاثة مقاومين بوساطة عميل لبناني لإسرائيل كشفته السلطات اللبنانية نفسها، ثم افتعال مكالمات وسيناريو عبثي يلصق بهؤلاء مع غيرهم تهمة جرى إعدادها سلفا، وفي توقيت يتوافق مع عملية اغتيال الحريري بمعرفة الأمريكيين والإسرائيليين . وقد كان السيد حسن نصر الله غاية في الذكاء والتوفيق، حين كشف الأوراق مبكرا، وبدأ حربا إعلامية استباقية لإجهاض الجريمة المدبرة، فحزب الله أيضا له جهاز مخابراته الممتد في عمله بطول وعرض عواصم الدنيا كلها، ويخوض حربا عقلية وتكنولوجية مع المخابرات الإسرائيلية، ويعرف بالدقة طرق كشف الأوهام المتقنة، ويعرف وهذا هو الأهم عنوان الهدف من القصة كلها، وهو استثمارها في الحط من المكانة المعنوية الهائلة لحزب الله، وتصويره كفرقة اغتيالات، والتمهيد لعدوان ينزع سلاحه، وقد أعلنها السيد حسن بوضوح لا يحتمل التباسا، فقد قال أن المحكمة سقط اعتبارها، وأنه لن يتعامل معها أبدا، وأن أي يد تمتد بالأذى إلى أي عنصر في حزب الله سوف تقطع، والإشارة واضحة، فليس هناك من طرف لبناني يستطيع أن يوقف عنصرا من حزب الله، والمقصود بحد القطع هو اليد الأمريكية والإسرائيلية، ثم قال السيد أن هدف نشر الفتنة لن يتحقق، ولن يحدث التقاتل السني الشيعي الذي يسعى له الأمريكيون والإسرائيليون، ولن يحدث أي صدام بين حزب الله والجيش اللبناني، وهكذا أحال السيد قصة المحكمة وقراراتها إلى معاش مبكر، وجعلها ورقة ميتة، ولم يترك لقضاة المحكمة ومحققيها سوى حق التمتع بموازنات أمريكا المالية المفتوحة، والحق في أن يسودوا أوراقا، وأن يزوروا شهودا، وأن يعقدوا جلسات فارغة من متهمين أو محامين، وأن تتحول محكمتهم إلى كوميديا سوداء، وإلى نار تأكل نفسها، ودون أدنى تأثير على جاهزية حزب الله للقاء الجيش الإسرائيلي في حرب جديدة، ينتصر فيها حزب الله كما انتصر في حرب 2006، ويعزل عملاء أمريكا وإسرائيل في الداخل اللبناني، وينزع عنهم أوراق التوت، وقميص الحريري، ويفضح هويتهم كعملاء وجواسيس مباشرين للمخابرات الأمريكية والإسرائيلية .وقد رمى حزب الله الكرة في ملعب الآخرين، وحمل سعد الحريري بهواه السعودي المسؤولية المباشرة، فحكومة سعد الحريري ليست مقدسة، ويمكن أن تسقط في أي وقت، ويمكن أن تذهب إلى الجحيم نفسه الذي تذهب إليه المحكمة، فلم يعد سعد الحريري عنوانا لأغلبية شعبية ولا لأغلبية نيابية، خاصة بعد أن تحول وليد جنبلاط وكتلته الدرزية إلى جانب حزب الله وحلفائه، وعلى الحريري الابن أن يختار، فإما أن يمضي إلى الهاوية مع سمير جعجع وجماعة حزب الكتائب وسواهم من ذوي الهوى الإسرائيلي القديم المتجدد، أو أن يكون وفيا لتراث أبيه الذي كان يوما عضوا في حركة القوميين العرب، ووفيا لتراث السنة اللبنانيين الذين كانوا دائما عمادا لعروبة لبنان، ولا يبدو الاختيار سهلا بالنسبة لسعد الحريري، فقد ذهب بعيدا في حماية شهود الزور، ورفض إحالتهم للمجلس العدلي، ثم أنه يبدو أسيرا للرغبة السعودية المضغوطة بالمقاييس الأمريكية، خاصة بعد تدهور صحة الملك عبد الله الميال لتفاهم ما مع سورية، وانتعاش مصاعب الخلافة في الرياض، وتمدد لحظة العجز المصاحبة لفراغ تتناوشه الهواجس والريب، ورغم سفر الحريري إلى طهران، وما تعنيه الزيارة في ذاتها من رغبة ما في البحث عن حل يرتضيه حزب الله، إلا أن المشهد لا يبدو مريحا تماما، فثمة سباق مع الزمن، ورغبة في كسب الوقت، وعد تنازلي إلى أن يصدر قرار اتهام عناصر في حزب الله عن المحكمة سيئة الصيت، وقتها سوف تكون الفأس قد وقعت في الرأس، وتداعت دواعي الفتنة التي لا عاصم منها سوى عناية الله وسلاح حزب الله . وتلكؤ الحريري في اتخاذ موقف مسؤول يبرئ ساحة حزب الله، ويهدم محكمة الفتنة، هذا التلكؤ لا يفيد لبنان بل إسرائيل، ويرفع اللوم عن حزب الله إن هو رغب في اتخاذ إجراءات قوية تدفع الخطر، وقد تبينت الآن بوضوح شامل سلامة دوافع حزب الله في تحركه الخاطف يوم 7 ايار/مايو 2008، فقد أرادوا وقتها إلغاء شبكة الاتصالات الخاصة بمقاوميه، وإلحاقها بشبكة الاتصالات اللبنانية العامة المخترقة كليا من جانب إسرائيل، ونعتقد أن حزب الله هذه المرة لن يقع في حرب داخلية مفتوحة، بل ربما يكتفي بإجراءات ردع محسوب، وبتحرك شعبي سلمي يسقط رؤوس الفتنة، ويحصن جبهة الداخل اللبناني استعدادا لملاقاة جيش العدوان الإسرائيلي في النزال الحاسم .