تتناقل وسائل الإعلام بصفة تكاد تكون يومية احتجاجات حملة الشواهد العليا المعطلين أمام مبنى البرلمان وأبنية حكومية أخرى ، وتنقل عمليات الكر والفر التي يقوم بها المعطلون ورجال السلطة، غير أن ذلك ليس إلا قمة جبل الجليد الذي يخفي وراءه واقع المعاناة الاجتماعية التي يعيشها هؤلاء، فمركزة الاحتجاج جعلت المئات من حملة الشواهد العليا من باقي المدن المغربية يتدفقون على العاصمة الرباط، وهنا تتوزع حياتهم بين الاحتجاج وتأمين لقمة العيش إذ يمارس البعض منهم مهنا صغيرة بينما يعتمد آخرون على أسرهم، ونظرا لارتفاع تكلفة الاستئجار يتكدس العشرات منهم في غرف صغيرة بينما يبيت آخرون في الكنائس ومحطات القطار، ولا يسلم المعطلون من ملاحقة القضاء على خلفية عدم دفع أثمنة التذاكر في الحافلات والقطارات، ورغم المعاناة لا زال الأمل يحذوهم لتحقيق أحلامهم المؤجلة. معطلون توحدهم المعاناة كعادته زوال كل ثلاثاء، يحط محمد من الدارالبيضاء الرحال بالمحطة الطرقية القامرة، ومن هناك يتجه سيرا على الأقدام صوب الاتحاد المغربي للشغل ليلتحق بأفواج المعطلين التي تتقاطر زوال كل ثلاثاء وأربعاء وصباح كل خميس على مقر الاتحاد إيذانا ببدء العد العكسي للوقفات والاحتجاجات التي يخوضها حملة الشهادات العليا المعطلون بالمغرب، مطالبين بالإدماج المباشر في سلك الوظيفة العمومية . يقول محمد 46 سنة، حاصل على الدكتوراه في الفيزياء" يعيش المعطلون وأنا واحد منهم ظروفا صعبة، فأنا متزوج وما أتقاضاه عن الدروس الخصوصية التي أقدمها للتلاميذ في مادة الفيزياء لا يكفيني لأعول زوجتي وطفلتي الوحيدة، عدت للسكن مع والداي بعد أن عجزت عن تحمل تكاليف استئجار بيت، يضيف "أتنقل أسبوعيا بين البيضاءوالرباط وهذا يكلفني الكثير لذا أضطر لقطع مسافات طويلة سيرا على الأقدام أما إذا كنت رفقة مجموعة من المعطلين فإننا نمارس نوعا من الضغط على سائقي الحافلات ليخفضوا لنا ثمن التذكرة، يستجيب البعض، غير أن الأمر لا ينجح دائما". قبل أن يقرر محمد الالتحاق بمجموعات المعطلين المرابطين أمام مبنى البرلمان، كان يعمل مدرسا بالقطاع الخاص لكنه قرر ترك العمل هناك مبررا ذلك " القطاع الخاص في المغرب يحكمه التسيب ورب العمل يتعامل مع الموظفين كأنهم جزء من أملاكه، لذا صرفت النظر عن الاشتغال به، اكتفي الآن بإعطاء بعض الدروس الخصوصية للطلبة كما اعتمد على البقية الباقية من المدخرات التي مازالت بحوزتي". بوجه تعلوه صفرة المرض وبخطى متثاقلة ينظم إليه يوسف ابن سلا في السابعة والأربعين من عمره، جمعته بمحمد البطالة و"النضال" كما يحلو للمعطلين تسميته فأصبحا صديقين حميمين وكانا من أوائل من أسسوا مجموعة للأطر العليا المعطلة انضوى تحتها المئات من حملة الشواهد العليا المعطلين. يسرد يوسف قصته مع البطالة "حصلت على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في التاريخ القديم سنة 1992، وطيلة 20عاما وأنا اجتاز مباريات التوظيف من دون طائل،التحقت بالمعطلين مرغما بعد أن أوصدت كل الأبواب في وجهي" يضيف مشيرا إلى كيس بلاستيكي يحمله " ظروفي الصحية منعتني من استكمال دراسة الدكتوراه ولولا الأدوية لما تمكنت من الوقوف". يصمت برهة ثم يستطرد بنبرة تهكم "عمري الآن 47 سنة وما زلت احصل على مصروفي من إخوتي،ولم استطع تكوين أسرة كيف أكونها وأنا لا اعمل؟، وحتى سلك الوظيفة العمومية لا بد لي من قرار استثنائي لكي ألجها لأني تجاوزت السن القانوني، أحلامي بسيطة وهي أحلام مؤجلة أن احصل على عمل وأكون أسرة، لكن متى؟". مركزة الاحتجاج تزيد من تعميق معاناة المعطلين ينحدر منير34 سنة من مدينة الحسيمة، حاصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في الأدب الاسباني ابتدأت معاناته مذ قرر السفر إلى الرباط للالتحاق بصفوف المحتجين المطالبين بفرصة عمل، في الأيام الأولى لمجيئه للعاصمة كان منير يبيت في الكنائس ومحطات القطارات قبل أن يستأجر رفقة تسعة معطلين منزلا مكونا من ثلاث غرف بمدينة سلا حيث ثمن استئجار البيوت منخفض إذا ما قورن بالرباط. يروي منير أنه ومن معه من المعطلين يحرصون على ألا يستيقظوا من النوم إلا الساعة الثانية بعد الزوال حتى لا يضطروا للإنفاق الكثير"وهنا لابد من جمع وجبتي الفطور والغذاء جمع تأخير" يقول منير ساخرا ثم يضيف "كما نحرص على ألا يتجاوز ثمن الوجبة 6 دراهم". يضطر المعطلون إلى القدوم إلى حيث تنظم الاحتجاجات والاعتصامات سيرا على الأقدام أو يركبون الحافلات بدون دفع ثمن التذكرة - كما هو متعارف في أبجديات المعطلين "سلت"- مما يجعلهم حسب منير عرضة للمتابعة القضائية كما الحال لتسعة معطلين متابعون لعدم أداء تذكرة القطار، ولا زال القضاء ينظر في قضيتهم. أمام الاتحاد المغربي للشغل تفترش حكيمة ابنة مدينة تطوان الأرض وتدخل في حديث هامس مع زميلة لها منحدرة من القنيطرة، قبل أن تقدم إلى الرباط خاضت حكيمة الحاصلة على الماستر في تسيير البيئة حربا ضروسا مع أسرتها حتى استطاعت إقناعهم بوجهة نظرها وضرورة الالتحاق بصفوف مجموعات المعطلين، ولان ليس لها أقرباء بالرباط استأجرت حكيمة رفقة 11 شابة قدمن من مدن مختلفة منزلا تتقاسمن غرفتيه الاثنتين، في كل غرفة تعيش ست معطلات، تعتمدن في توفير لقمة العيش على ما يبعثه الأهل رغم رقة أحوالهم، تقول حكيمة "وضعية الشابات المعطلات ليس أفضل من وضعية الشباب، فهناك نساء متزوجات و أخريات حوامل وكذلك أمهات يجلبن أبناءهن معهن تواصل ضاحكة "الصغار أيضا يتلقون هنا أولى الدروس عن كيفية الاحتجاج والمطالبة بحقوقهم. التكافل الأسري والتضامن فيما بينهم ينقذ المعطلين "إلى متى ستستمر الأسر في تحمل نفقاتنا" تقول منى الحاصلة على شهادة الدكتوراه في البيولوجيا والقادمة من مدينة بني ملال، تتكفل أسرتها بتحمل نفاقاتها بينما تقطن هي عند خالتها المتواجدة بالعاصمة الرباط تعتبر نفسها أوفر حظا من زملائها الذين يضطرون لممارسة بعض المهن الصغيرة لتوفير قوت يومهم، إذ يشتغل البعض في بيع الملابس المستعملة بينما يقوم آخرون بإعطاء دروس خصوصية لطلبة المدارس. ينتمي المعطلون إلى مشارب واتجاهات فكرية مختلفة، وعلى الرغم من النقاشات الحادة التي تدور بينهم أحيانا فان التضامن فيما بينهم سمة توحدهم " ويؤكد على ذلك منير " في القانون الداخلي للمجموعة التي أنتمي إليها من يتغيب نقوم بإقصائه، لكن التضامن هو ما دفعنا لإعفاء عبد الرحيم ذو السابعة والأربعين، الحاصل على الدكتوراه في اللغة العربية، والمقيم في مدينة صفرو من الحضور" يستطرد " راتبه كإمام لأحد المساجد بالمدينة والذي يبلغ 600 درهما شهريا لا يكفيه للانضمام إلينا، فالتنقل من صفرو إلى الرباط يكلفه نصف راتبه الهزيل أصلا، بالإضافة إلى انه متزوج وأب لطفلين ويضيف "هو من بين الأئمة المحظوظين لأنهم منحوه مسكنا يقطنه". لكن التضامن الأسري والتضامن فيما بين المعطلين لا يكفي في نظر منير بل إن المسالة تتطلب حلا جذريا وهو الحصول على وظيفة في القطاع العام. " نتمنى أن يسوى ملفنا في اقرب وقت فقد ذقنا ذرعا بالمسكنات الكلامية والتنويم المغناطيسي الذي يمارسه المسؤولون" عبارة قذف بها يوسف قبل أن ينصرف.