عبد الله، إسماعيل، أم هارون، وغيرهم من هؤلاء الأطر المعطلة البالغ عددهم 2300، المنحدرين من مختلف مناطق المملكة، قرروا إمضاء شهر رمضان بالعاصمة لمواصلة مسيرة الاحتجاج التي بدؤوها منذ منتصف شهر نونبر المنصرم، علهم ينالون مطالبهم بالإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية. تجاوزت الساعة السادسة مساء بقليل، يغص شارع محمد الخامس، الأبرز في العاصمة الرباط، بالمارة ممن يقضون آخر أيام عطلتهم الصيفية بالمدينة. مازالت الشمس حارقة، ومع ذلك تتقدم مسيرة من مئات المعطلين من أسفل الشارع غير بعيد عن مقر البرلمان، وهم يرددون الشعارات ويحملون لافتات عريضة.. عبد الله، إسماعيل، أم هارون، وغيرهم من هؤلاء الأطر المعطلة البالغ عددهم 2300، المنحدرين من مختلف مناطق المملكة، قرروا إمضاء شهر رمضان بالعاصمة لمواصلة مسيرة الاحتجاج التي بدؤوها منذ منتصف شهر نونبر المنصرم، علهم ينالون مطالبهم بالإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية. تختزل وجوههم الشاحبة وأجسادهم النحيفة قصص معاناة من وطأة البطالة والبعد عن الأهل وما تعرضوا له من ضرب وحشي في شوارع العاصمة على يد قوات الأمن، إلى درجة أن بعضهم عاد إلى بيته بإصابة تعيقه عن الحراك، والبعض الآخر أصيب من كثرة ما تلقاه من ضرب بأمراض عضوية وأحيانا نفسية، يستغرق علاجها مدة طويلة وتتطلب مبالغ مالية باهظة. معاناة نفسية «أحيانا كانت تمر علي أيام متواصلة وقوتي الوحيد الماء والتين، بل في بعض المرات كانت أمي تبعث إلي بالطعام من البيت، القطاني بالأساس، فلا أجد في جيبي ولو درهما واحدا لشراء خبز أتناول به طعامي»، يحكي (ع.م)، شاب في أواخر العشرينات من عمره، نحيف البنية من أفراد التجمع المغربي للأطر العليا المعطلة. رغم ظروفه المادية الصعبة، ثابر(ع.م) حتى نال دبلومه في الدراسات المعمقة في شعبة العلوم السياسية بميزة حسن من جامعة فاس، غير أن شهادته، التي كان يفترض أن تضمن له وظيفة توفر له حياة رغيدة وتعوضه عما عاشه من حرمان في سبيل إتمام دراسته، أصبحت في نظره «لا قيمة لها» أمام ما تعرض له من ضرب في الشارع. تتكون عائلته من 11 فردا، يعولهم أب يعمل إماما بأحد المساجد بضواحي إقليم تاونات، يعجز عن تلبية كل متطلبات أبنائه الضرورية، إلى درجة أن بعضهم اضطر إلى التخلي عن الدراسة بسبب ضعف إمكانيات الأب، «لقد ضحى إخوتي بدراستهم، بل إن أحدهم أجل زواجه حتى أتمكن أنا من إتمام دراستي»، يقول (ع.م)، معبرا عن ثقل المسؤولية الذي يشعر به تجاه أسرته، خصوصا بعدما أحس أنه استنزف كل مواردهم المحدودة. «غالبا ما لا أستيقظ إلا بعد الساعة الواحدة زوالا، وبذلك أتمكن من توفير وجبة في اليوم بدمج وجبتي الفطور والغداء»، يقول (ع.م). اضطر، بعد التحاقه بالرباط إلى اكتراء غرفة بحي «القامرة»الشعبي، يتقاسمها مع ثلاثة من رفاقه الآخرين، «حتى مشكل السكن يخلق لدينا نوعا من عدم الاستقرار النفسي، فبعدما تكون محبطا من التعسفات التي تمارس ضدك في الشارع، تكون مضطرا للتعايش مع 13 فردا يقتسمون معك المنزل ذاته، بل تجد نفسك في الكثير من الأحيان دخلت مع أحدهم في مشادات أنت في غنى عنها»، يفسر اسماعيل، أحد زملاء (ع.م)، الذي اضطر هو الآخر إلى الكراء في أحد الأحياء الشعبية. لم يكن حظ الذين اختاروا السكن بغرف أحد الفنادق غير المصنفة أوفر من حظ زملائهم الساكنين بالأحياء الشعبية، عبد الله، أحد أعضاء التجمع، خاض تجربة فريدة خلال الأيام التي أمضاها في أحد النزل الشعبية، يقول: «بعد استقراري بالرباط، سكنت بغرفة فندق شعبي بالمدينة القديمة، لقد كان المكان «حقيرا» بكل ما للكلمة من معنى، سواء من حيث قلة النظافة أو نوعية القاطنين أو حتى مشكل المرافق العمومية التي كنا نشترك فيها». إعطاء الدروس الخصوصية والعمل في المقاهي وحراسة بعض المنشآت أو أروقة المعارض أو حتى مراسلة بعض الجرائد، هي الحلول التي يستعين بها هؤلاء الشباب على توفير بعض النقود لتدبير أمورهم في ظل غياب وظيفة قارة، بل إن بعضهم ممن تسعفه قواه العضلية يذهب إلى حد العمل في أوراش البناء وكل ما يتبادر إلى الذهن من أعمال مؤقتة. (ع.م) ليس سوى حالة واحدة من بين العديد من حالات المعاناة التي يعيشها هؤلاء المعطلون،(ع) هو الآخر معطل حاصل على دبلوم الدراسات المعمقة في اللغة العربية، يروي كيف لم يتمكن من زيارة عائلته القاطنة بمدينة الراشيدية بالجنوب، طيلة سبعة أشهر متتالية بسبب نقص الإمكانيات المادية، «البعد عن الأهل يجعلك تعيش قلقا وجدانيا ينضاف إلى معاناتك اليومية في الشارع». المرأة العاطلة. بالإضافة إلى ما يواجهه المعطلون الذكور من ضغوطات مادية ونفسية، تتعرض زميلاتهن الإناث إلى معاناة إضافية، «لم يعد زوجي يتقبل فكرة خروجي للنضال مع المجموعة وترك الأطفال لوحدهم في البيت، فانتهى به الأمر إلى تطليقي»، تقول أم هارون، 41 سنة وأم لثلاثة أطفال. بعد شهر من الطلاق، عاد شمل أسرة أم هارون للالتئام من جديد، لكن الوضع مازال «كفوهة بركان قابل للانفجار في أية لحظة» بين المرأة وزوجها، بسبب انخراط الزوجة في اعتصامات واحتجاجات التجمع المغربي للأطر العليا المعطلة. كان التحاقها ب»التجمع» بمحض الصدفة، حيث كانت ذات مرة مارة في الشارع، فرأت المجموعة تردد الشعارات وترفع لافتات مكتوبة عليها مجموعة من المطالب، فسألت عن الأمر، وبعد أن وجدت نفسها تتقاسم وإياهم مشكل البطالة قررت الانضمام إليهم. في البداية، كانت أم هارون تصطحب معها ابنها ذا السنوات الثلاث خلال الأسابيع الأولى من التحاقها بالمجموعة، غير أنها لاحظت أن الطفل أصبح منطويا على نفسه، وأن قدرته على الكلام تراجعت، إلى درجة أنه بعدما كان يتكلم بشكل عادي أصبح لا ينطق إلا اسم والديه، «عندما اصطحبت ابني إلى المستشفى أخبرني الطبيب بأنه يعاني من أزمة نفسية يتطلب علاجها مجموعة من الجلسات كلفة الواحدة منها 200 درهم، وفي الواقع لم أشرع في علاجه بعد لأنني لا أتوفر على المبلغ المطلوب»، تقول المرأة بحسرة. تتوقف أم هارون عن الكلام فجأة، تدخل يدها في حقيبتها وتخرج جواز سفرها، تفتحه وتعرض صورتها، قبل سنة من الآن، على صديقاتها الجالسات بجوارها، اللائي يبدين استغرابهن من التحول الكبير الذي نحتته سنة واحدة على ملامح المرأة وجسدها الذي أصبحت بعض عظامه بارزة من تحت الجلد، «فقدت أكثر من 20 كيلوغراما خلال سنة واحدة»، تقول المرأة بحرقة. أم هارون حالة فريدة من بين أفراد التجمع المغربي للأطر العليا المعطلة، حصلت على شهادة جامعية في الاجتماعيات في ليبيا، حيث أمضت 23 عاما بعد مغادرة المغرب رفقة عائلتها، واشتغلت أستاذة جامعية تدرس مادة الجغرافيا، لمدة أربع سنوات، تنهمر دموع المرأة غزيرة فوق خديها، وتقول والعبرات تخنق صوتها: «لقد وجدنا أنفسنا فجأة لا نستطيع توفير ضروريات الحياة بعدما كنا نعيش في مستوى عال، وقريبا سنجد أنفسنا على قارعة الطريق بعدما ينفذ ما بقي لنا من مال». عادت الأسرة من ليبيا بعدما اطلعت أم هارون، عبر الأنترنت، على برنامج «فينكم»، لاستدعاء الكفاءات المغربية بالخارج، فقررت الرجوع إلى أرض الوطن رفقة أبنائها وزوجها دون أن تفكر في أنها قد تصادف مشاكل في إيجاد عمل، خاصة وأنها أمضت أربع سنوات من الخبرة. أم هارون ليست الوحيدة التي تعاني من ضغط كبير بسبب صعوبة التوفيق بين العناية بالأسرة والالتحاق بوقفات التجمع ومعارضة الزوج، فكل النساء الأمهات يجدن أنفسهن في موقف مماثل، مارية (اسم مستعار)، تروي بدورها كيف كانت ومازالت تضطر إلى اصطحاب وليدتها، منذ يومها الأربعين، معها إلى الشارع، «كنت أرضعها وأغير لها ثيابها في الشارع بمساعدة زميلاتي في المجموعة»، تقول المرأة. مارية أم لطفلتين، كبراهما تبلغ الآن من العمر ست سنوات، وتعهد إلى بيت أهلها بالعناية بها، «المشكل أن طفلتي صعبة الطباع، كما أنها لا تحب البقاء عند أمي»، توضح السيدة. يقطن أهلها بمدينة صفرو، بينما يسكننان هي وزوجها، الذي يشتغل معلما بإحدى ضواحي إقليم تاونات، بمدينة فاس، مما يعني أن شمل الأسرة لا يجتمع إلا لماما، لم أر زوجي منذ أزيد من شهر ونصف». تصمت مارية، وتبادر زميلة لها كانت تجلس بجانبها قائلة بنبرة عصبية: «المشكل أن المحيط كله من أسرة وجيران، وليس الزوج وحده، لا يتقبلون فكرة خروج امرأة متزوجة للاحتجاج في الشارع والعودة إلى البيت حتى حدود العاشرة مساء، فتكثر الإشاعات والمضايقات والضغوط النفسية». بعد فترة شرود تضيف: «أعود إلى البيت منهكة لأجد طفلي، الذي فطمته بسبب التحاقي بالمجموعة وهو لم يتجاوز سنته الأولى إلا بشهر واحد، جائعا ويحتاج إلى تغيير ثيابه، وزوجي الغاضب يستقبلني بلائحة من المطالب التي لا تنتهي والتي لا أستطيع رفضها لأن ذلك يعني أنني سأدخل معه في نقاش لا ينتهي حول مسألة التحاقي بالعاطلين». تحرشات واستفزازت منذ بدء المسيرة النضالية للتجمع المغربي للأطر العليا المعطلة، أحصى أعضاؤه ما يتعدى 900 إصابة متفاوتة الخطورة في صفوفهم، وتتراوح أشكال العنف الجسدي التي يلجأ إليها رجال التدخل السريع لردع هؤلاء المحتجين بين ضرب بالهراوات ورمي بالحجارة، أو جلد بالأحزمة الغليظة التي ينزعونها من سراويلهم لتصبح في أيديهم أداة تأديبية طيعة تبقى آثار ضرباتها مطبوعة على جلود الذين لم تسعفهم أقداهم للركض بأقصى سرعة. «إنهم يوجهون ضرباتهم بطريقة مقصودة، إذ يستهدفون المناطق الحساسة من أجسادنا، كمنطقة البطن بالنسبة إلى الفتيات ومنطقة أسفل الحزام بالنسبة إلى الذكور»، يقول (ع)، يصمت بينما ترتسم على ملامحه علامات التقزز، ثم يضيف: «مازالت صورة وجه زميلي الذي غابت كل ملامحه تحت سيل الدماء المتدفقة من رأسه وهو ملقى على الطوار بين الحياة والموت، بعدما تلقى ضربات متتالية على مقدمة رأسه، لاتفارق مخيلتي». يتعرض الكثير من هؤلاء المعطلين، بالإضافة إلى العنف الجسدي، إلى العديد من الاستفزازت والإهانات، التي لا تستثني الإناث ولا الذكور، «في إحدى المرات، وصل الأمر بأحد رجال التدخل السريع إلى نزع حجاب إحدى الفتيات وسبها بكلام جارح في الشارع العمومي»، تقول إحدى الفتيات مستنكرة. طلب الشغل يؤدي إلى عاهات مستديمة «عندما أخبرني الطبيب بأنني مصاب في كليتي وأحتاج إلى القيام بعملية غسل للكلى، أحسست بأن ركبتي لا تقويان على حمل جسدي من قسوة وقع الخبر علي»، يقول عبد الله، بصوت تخالجه نبرة حزينة. عبد الله، 35 سنة، من مدينة فاس، واحد من أوائل من التحقوا بالتجمع المغربي للأطر العليا المعطلة للمطالبة بتوظيفه، بعد حصوله على شهادة الدراسات المعمقة في لسانيات اللغة الفرنسية، ليعود إلى بيته بإصابة تسببت له في عاهة قد تلازمه مدى الحياة، «5000 درهم هو المبلغ الذي يتطلبه مني العلاج شهريا، وإلى حد الساعة لم أبدأ بعد حصص العلاج لأني لا أتوفر على المبلغ المطلوب»، يفسر عبد الله. عجز عبد الله عن تغطية نفقات العلاج التي يتطلبها غسل كليتيه بصفة منتظمة في مصحة خاصة، بالنظر إلى غياب إمكانية ذلك في المستشفيات العمومية، جعله يستغيث بالطب الشعبي ويجرب التداوي بالأعشاب للتخفيف من آلامه التي تزداد حدة في كل مرة، غير أن هذا الحل لم يكن ذا جدوى لتستمر أوضاعه الصحية في التدهور، يصمت هنيهة ثم يتابع: «لم أعد أستطيع المشي على قدمي لمسافة طويلة، حتى إنني إذا أردت الخروج فقط لأشم القليل من الهواء أكون مجبرا على أخذ سيارة أجرة ذهابا وإيابا»، بل إنه أصبح على موعد منتظم مع المستعجلات، إذ كثيرا ما تستدعي وضعيته الصحية المتدهورة نقله إلى المستشفى في حالة حرجة، ودموع والدته ترافقه. «منذ إدلائي بتصريح لإحدى المحطات التلفزية التي كانت تغطي إحدى وقفاتنا الاحتجاجية، وأنا مستهدف من طرف قوات التدخل السريع، التي أصبحت تركز على ضربي في كل وقفة يقوم بها التجمع ويقع خلالها تدخل أمني»، يقول. عبد الله ليس الوحيد الذي قصد الرباط محاولا حل مشكل بطالته، فعاد منها بمشكل أكبر منه بكثير، لحسن، هو الآخر، أصيب، خلال إحدى المسيرات الاحتجاجية للتجمع، بكسر مضاعف في ركبته اليمنى، ليجد نفسه مضطرا إلى إجراء عملية جراحية كلفته مبلغ 13000 درهم. «كان تدخل رجال الأمن عنيفا ذلك اليوم، أذكر جيدا كيف تبعني اثنان من رجال قوات التدخل السريع وضرباني بشكل مقصود في ركبتي»، يسترجع لحسن لحظة الحادثة التي جعلته لا يستطيع المشي حتى الآن، ثم يضيف: «ليست هذه هي المرة الأولى التي أضرب فيها، فوقوفي في الصفوف الأمامية وبنيتي الجسمانية الضخمة، يلفتان الأنظار إلي». ج، 29 سنة، أصيبت بدورها في ركبتها، حيث تلقت الإسعافات الأولية في مستشفى ابن سينا بالرباط، لتتابع، منذ ثلاثة أشهر، القيام بثلاث جلسات للترويض أسبوعيا، إذ تكلفها الجلسة الواحدة 50 درهما. «وصلت إلى البيت بفاس، بعدما نقلني زملائي إثر الإصابة، بعد منتصف الليل، والأسوأ أن أمي انهارت عند رؤيتي في تلك الحالة»، تقول الفتاة. ج، حاصلة على دبلوم الدراسات المعمقة في مادة التاريخ، كانت، رغم إصابتها التي تعيقها عن التحرك، تلتحق بأعضاء التجمع في فترات النضال، «كان زملائي يحملونني فوق ظهورهم إلى القطار، كما كانوا يرافقونني أحيانا حتى المنزل»، غير أن التجمع أعفاها منذ مدة من الحضور مراعاة لوضعها الصحي والمادي.