مجلس الجالية يشيد بقرار الملك إحداث تحول جديد في تدبير شؤون الجالية    الموقف العقلاني والعدمي لطلبة الطب        المغرب يمنح الضوء الأخضر للبرازيل لتصدير زيت الزيتون في ظل أزمة إنتاج محلية    المنصوري تكشف عن برنامج خماسي جديد للقضاء على السكن الصفيحي وتحسين ظروف آلاف الأسر    إحصاء سكان إقليم الجديدة حسب كل جماعة.. اليكم اللائحة الكاملة ل27 جماعة    حموشي يترأس وفد المغرب في الجمعية العامة للأنتربول بغلاسكو    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"    هذه حقيقة الربط الجوي للداخلة بمدريد    الكعبي يستمر في هز الشباك باليونان        لحظة تسليم علم منظمة "الأنتربول" للحموشي باعتباره رئيس الوفد الأمني للدولة التي ستحتضن الدورة المقبلة للجمعية العامة للأنتربول (فيديو)    التامك يتأسف لحظر "النقابة" في مندوبية السجون... ويقول: "ما بقاش عندي الوجه" للقاء الموظفين    المغرب يعتمد إصلاحات شاملة في أنظمة التأمين الصحي الإجباري    1000 صيدلية تفتح أبوابها للكشف المبكر والمجاني عن مرض السكري    الأسباب الحقيقية وراء إبعاد حكيم زياش المنتخب المغربي … !    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    بايدن يتعهد بانتقال "سلمي" مع ترامب    اعتقال رئيس الاتحاد البيروفي لكرة القدم للاشتباه في ارتباطه بمنظمة إجرامية    توقيف 08 منظمين مغاربة للهجرة السرية و175 مرشحا من جنسيات مختلفة بطانطان وسيدي إفني    «كلنا نغني».. جولة عربية وأوروبية للعرض الذي يعيد إحياء الأغاني الخالدة    ‬‮«‬بسيكوجغرافيا‮»‬ ‬المنفذ ‬إلى ‬الأطلسي‮:‬ ‬بين ‬الجغرافيا ‬السياسية ‬والتحليل ‬النفسي‮!‬    الخطاب الملكي: خارطة طريق لتعزيز دور الجالية في التنمية الاقتصادية    المنصوري تكشف حصيلة برنامج "دعم السكن" ومحاربة دور الصفيح بالمغرب    الجماهير تتساءل عن سبب غياب زياش    "أجيال" يحتفي بالعام المغربي القطري    ياسين بونو يجاور كبار متحف أساطير كرة القدم في مدريد    2024 يتفوق على 2023 ليصبح العام الأكثر سخونة في التاريخ    ليلى كيلاني رئيسة للجنة تحكيم مهرجان تطوان الدولي لمعاهد السينما في تطوان    مجلس جهة كلميم واد نون يطلق مشاريع تنموية كبرى بالجهة    بايتاس: أكثر من 63 ألف أسرة استفادت من المساعدات الشهرية لضحايا زلزال الحوز    انطلاق الدورة الرابعة من أيام الفنيدق المسرحية    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    صَخرَة سيزيف الجَاثِمَة على كوَاهِلَنا !    ما هي انعكاسات عودة ترامب للبيت الأبيض على قضية الصحراء؟    انتخاب السيدة نزهة بدوان بالإجماع نائبة أولى لرئيسة الكونفدرالية الإفريقية للرياضة للجميع …    ندوة وطنية بمدينة الصويرة حول الصحراء المغربية    مورو يدشن مشاريع تنموية ويتفقد أوراشا أخرى بإقليم العرائش    بنسعيد يزور مواقع ثقافية بإقليمي العيون وطرفاية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    ضبط عملية احتيال بنكي بقيمة تتجاوز 131 مليون دولار بالسعودية    تظاهرات واشتباكات مع الشرطة احتجاجا على فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية    سفير أستراليا في واشنطن يحذف منشورات منتقدة لترامب    قانون إسرائيلي يتيح طرد فلسطينيين        خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    أولمبيك مارسيليا يحدد سعر بيع أمين حارث في الميركاتو الشتوي    محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بتهمة "التجاهر بالفاحشة"    بعد رفعه لدعوى قضائية.. القضاء يمنح ميندي معظم مستحقاته لدى مانشستر سيتي    مزور: المغرب منصة اقتصادية موثوقة وتنافسية ومبتكرة لألمانيا    إعطاء انطلاقة خدمات مركز جديد لتصفية الدم بالدار البيضاء    إحصاء 2024 يكشف عن عدد السكان الحقيقي ويعكس الديناميكيات الديموغرافية في المملكة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإنسان يصنع قدره
نشر في السند يوم 20 - 09 - 2010

ظهرت فرقة في تاريخ المسلمين عرفت باسم الجبرية، تعتقد بأن الله هو الذي يخلق أفعال العباد وأن الإنسان مسير لا مخير..
هذه الفرقة وإن غاب اسمها في أحشاء التاريخ، إلا أن روحها لا تزال حيةً في قلوب أكثر المسلمين، بل أكثر الناس الذين يزعمون أن الظروف والأحداث هي التي تسيرهم، وأن أمواج الحياة تتقاذفهم لا يستطيعون ردها، وأنهم خيرون طيبون لولا أن الظروف اضطرتهم لئلا يكونوا كذلك..
ما يدفع الإنسان لمثل هذا الاعتقاد أنه يجد راحةً في إعفاء نفسه من تحمل المسئولية، وتعليقها على القضاء والقدر.فالاعتقاد بالجبرية يعني أن ما يواجهنا من مصائب لم يكن من كسب أيدينا، وأنها كما جاءت وفق المشيئة الإلهية على غير إرادتنا، فإن الخلاص منها لن يكون إلا بالمشيئة الإلهية وحدها دون أن نقوم بأي دور تجاهها وأنها ليس لها من دون الله كاشفة.
وبذلك تصير النظرة إلى الأحداث بأنها تقع بشكل عشوائي، كلسان حال الشاعر الذي قال (جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ..ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيت ..وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا أم أبيت)
وخطورة هذه النظرة أنها تلغي أي أهمية للجهد البشري، بل إنها تلغي إنسانية الإنسان وتحوله من الإنسانية إلى الشيئية يسير على غير إرادة وهدى، وما دامت هذه هي نظرة الإنسان للحياة فلن يكون هناك أي قيمة للسعي وللعمل، لأن الحياة تسير على نحو عبثي دون سنن وقوانين تضبطها، وحين يظن الإنسان أن العبثية هي التي تحكم الوجود فلن يكون هناك داع للعمل والأخذ بالقوانين، فالعبثية تلغي جدوى القانون.
إن هذا الظن هو وصفة للتكاسل والتواكل والسلبية، وللفساد في الأرض، فمن يظن أنه لا دور له فيما يصيبه من أحداث وأن أمواج الحياة تتقاذفه بخبط عشوائي فلن يراجع نفسه ولن يصلح عمله.
لقد ميز الله الإنسان عن غيره من المخلوقات بالقدرة على الاختيار "وهديناه النجدين"، ومبدأ الاختيار هو الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، والاختيار في دلالته العميقة يعني أن الإنسان قادر على صناعة قدره بنفسه، فالله قد استخلفه في الأرض ومنحه القدرة على فعل ما يريد على أن يتحمل مسئولية اختياره، لذلك فإن الحساب والعقاب هو الوجه الآخر للحرية، وهذا هو تكريم الإنسان أن يختار ما يريد ويتحمل عاقبة هذا الاختيار: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".
وحين يتحدث القرآن عما ينتظر الإنسان سواءً في الدنيا والآخرة فإنه يربطها بعمله "جزاءً بما كانوا يعملون"
إن قدرة الإنسان على الاختيار يعني أنه مسئول عن نتيجة كل أفعاله، وأن كل ما يفعله اليوم سيلاقي نتيجته غداً، وإذا كانت أفعال اليوم هي التي تصنع حياة الإنسان في الغد، فإن واقعه اليوم أيضاً ما هو إلا صناعة الأمس، فإذا تساءلنا عن المصائب التي تواجهنا في حاضرنا:أنى هذا؟ فإن علينا أن نبحث عما قدمت يدانا، فهي لم تكن لتصيبنا إلا بما كسبت أيدينا: "قل هو من عند أنفسكم".
لكن أكثر الناس على اختلاف أديانهم وألوانهم بدل أن يلتفتوا إلى داخل أنفسهم فإنهم يبحثون عن أسباب مشكلاتهم خارج ذواتهم، ونقصد الذات هنا في جميع مستوياتها: الفردية، والجماعية، والحضارية، فالفرد يسب المجتمع والظروف لأنه فشل في حياته، والشعوب تحمل حكامها مسئولية الفساد والاستبداد، والعرب يحملون الغرب مسئولية خيبتهم وتأخرهم الحضاري، والغرب بدورهم يحملون العرب مسئولية الإرهاب والظلامية، ولا يفكرون بالأسباب التي قادت إلى هذه النتائج، وهكذا فإن كل حزب بما لديهم فرحون.
إن البشر يتقنون تبرئة النفس وتقديسها والعيش بنفسية الضحية وأنهم مظلومون مضطهدون، وحين تحل المصيبة بأحدنا فإننا نتعاطف معه بالقول إنه لا يستحق ما حدث له، وحين نتحدث عن تاريخنا نستفيض في وصف الجرائم التي قامت بها جيوش التتار تجاه عاصمة الخلافة، من جبال الجماجم وإحراق المكتبات، واسوداد نهر دجلة، وقتل الخليفة، ولكننا لا نبحث بجدية في حياة الخليفة الغارقة في الترف مما كان سبباً في تجرأ التتار على غزو ديارنا .
ونفس المنهج في حديثنا عن تاريخنا المعاصر فنرسم صورةً ورديةً بأننا كنا نعيش بأمن وأمان وادعين مسالمين، وفجأةً نزلت علينا البلايا من السماء، وغزانا الاستعمار، وأقيمت إسرائيل على أنقاضنا..
لكن القرآن قد جاء بفكرة انقلابية تنسف هذه المفاهيم السائدة، فهو لا يقر نفسية الضحية، وعلى العكس من ذلك يرسخ فكرةً غير مألوفة بين البشر وهي فكرة (ظلم النفس)، والبشر يتحدثون عن ظلم كل أحد لهم إلا ظلمهم لأنفسهم وهو الظلم الرئيسي الذي يركز عليه القرآن دائماً "وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم"، "وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"، "ظلمنا أنفسنا"..
إننا نحن المسئولون عما يواجهنا من مصائب لأن الله قد أعطانا القدرة على الاختيار، ونحن الذين نملك أن نصنع الحياة بالطريقة التي نريدها فحياتنا من صنع أفكارنا، ولا يتغير واقعنا إلا إذا غيرنا الأسباب التي قادت إليه "حتى يغيروا ما بأنفسهم"..
إن القرآن يبرز دائماً المسئولية البشرية في كل ما يصيب البشر، ففي قضية الإيمان والكفر، والهدى والضلالة يبين أنها ليست عشوائيةً فالله لا يضل إنساناً إلا إذا اختار هو الضلالة "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً"، "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً"، وفي المقابل إذا صدق إنسان في البحث عن الهداية ورغب في اتباع الحق فإن الله سيوفقه في ذلك "والذين اهتدوا زادهم هدى"..
الإنسان هو الذي يبدأ، والله يعطيه ما يريد ، فهو مخير لا مسير.
إن الإسلام يعزز دور الإنسان في اختيار قدره بدعوته على الالتفات إلى داخل نفسه لتغيير واقعه، فهناك في الإسلام مبادئ مثل الاستغفار والدعاء ينبغي ألا نفهمها بالطريقة التعبدية وحسب، بل لها دلالتها الفلسفية العميقة، فالاستغفار يكون لتدارك أخطاء الماضي حتى نتجنب آثارها المستقبلية، فهي محاولة للتأثير في المستقبل، والدعاء كذلك بمعناه الإيجابي أن الإنسان يحاول أن يستجلب شكلاً معيناً للمستقبل وأنه يستطيع أن يرد القدر بالقدر فلا جبرية أو حتمية (لا يرد القضاء إلا الدعاء)..
هل لنا أن نفهم السر الذي يميز قصة قوم يونس في القرآن الكريم عن غيرهم من الأقوام..إنها تمثل برهاناً على أن البشر يستطيعون بأنفسهم أن يصححوا مسار التاريخ، فهلاك الأمم ليس حتميةً تاريخيةً، ولكنه اختيار قابل للتعديل إن هم تابوا ورجعوا إلى الطريق الصحيح، هذه لفتة استفدتها من المفكر السوري جودت سعيد.
إن إرادة الله الغالبة لا تنفي دور الإنسان في صناعة القدر، نحن نعلم أنه لا يكون إلا ما يريد الله ولكننا لسنا مطلعين على علم الله حتى نتحرك بناءً عليه، فنحن حين نعمل فإننا نعمل وفق اختيارنا وليس بناءً على معرفتنا باختيار الله، وما نصنعه في النهاية يكون هو إرادة الله، فنحن نتحرك ضمن قدر الله ولا نلغيه، فنفر من قدر الله إلى قدر الله، إن المرض والهزيمة والفقر أقدار إلهية ولكن العافية والنصر والغنى هي أقدار إلهية أيضاً، والسعي لتغيير الحال من هزيمة إلى نصر، ومن مرض إلى عافية هي أقدار أيضاً..
إن الإسلام يذهب بعيداً في إعلاء قيمة الدور الذي يستطيع الإنسان أن يقوم به في صناعة قدره حتى يشمل ذلك الدور أموراً تفصيلةً نظن أنَّ أحداً من البشر لا يستطيع التأثير عليها، وأنها قدر إلهي محض لا نملك تغييره، مثل الطريقة التي سنموت بها، وهذا ما توضحه قصة الأعرابي الذي ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه اتبعه على أن يصاب بسهم في حلقه فيخرج من نحره فكان الجواب النبوي: إن تصدق الله يصدقك ، وهو ما كان له فمات بالطريقة التي يريدها بالضبط، ونفس المعنى في الحديث أن صدقة السر تقي مصارع السوء أن الإنسان يملك بعمله أن يختار طريقة موته.
إذا كان الإنسان يمكن أن يبلغ درجةً يختار فيها حتى طريقة موته، وإذا كان هناك من عباد الله الأشعث الأغبر الذي لو أقسم على الله لأبره، فهذا يعني أنه لم تعد هناك دائرة للغموض والقلق والعشوائية في هذه الحياة، وأن الإنسان يملك أن يمسك زمام قدره بيديه، وهذه هي قمة التكريم الإلهي للإنسان الذي نفخ فيه من روحه، وكون الإنسان فيه نفخة إلهية فهذا يعني أن فيه أثراً من صفات الله، وكما أن الله يفعل ما يريد، فإنه قد أعطى للإنسان القدرة على أن يفعل ما يريد، طبعاً في حدود بشريته وعبوديته "وما تشاءون إلا أن يشاء الله"..
وكما ذكرنا مثالاً من المستوى الفردي فإننا نذكر مثالاً آخر من المستوى الجماعي وهو قول الله عز وجل:"ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"، والمعنى أن الإنسان يستطيع أن يؤثر في الظواهر الطبيعية بتغيير رصيده النفسي..وبذلك تصير الطبيعة مسخرةً للإنسان، ويكون مسيطراً عليها بدلاً من أن يكون تائهاً حائراً مصدوماً أمام غضبها كما هو حاله اليوم .
جميل أن خبراء التنمية البشرية أدركوا جانباً من هذا المعنى الإيجابي للقدر فخرجوا لنا بقانون الجذب الذي يقول في خلاصته أننا نحن الذين نختار مستقبلنا إيجاباً أم سلباً، نجاحاً أم فشلاً..
إن هذا الفهم الإيجابي للقدر يؤكد لنا أن الحياة لا تسير على نحو غامض فتشقينا يوماً وتسعدنا آخر، أو أن الحظ يبتسم لنا يوماً فننجح، ويتجهم آخر فنفشل، ولكننا نعيش وفق اختياراتنا، وبذلك نتحرر من أغلال السلبية والتواكل والتكاسل، وتنطلق طاقاتنا باتجاه التغيير لبناء مستقبل أفضلspan /spanspanظهرت فرقة في تاريخ المسلمين عرفت باسم الجبرية، تعتقد بأن الله هو الذي يخلق أفعال العباد وأن الإنسان مسير لا مخير..هذه الفرقة وإن غاب اسمها في أحشاء التاريخ، إلا أن روحها لا تزال حيةً في قلوب أكثر المسلمين، بل أكثر الناس الذين يزعمون أن الظروف والأحداث هي التي تسيرهم، وأن أمواج الحياة تتقاذفهم لا يستطيعون ردها، وأنهم خيرون طيبون لولا أن الظروف اضطرتهم لئلا يكونوا كذلك..ما يدفع الإنسان لمثل هذا الاعتقاد أنه يجد راحةً في إعفاء نفسه من تحمل المسئولية، وتعليقها على القضاء والقدر.فالاعتقاد بالجبرية يعني أن ما يواجهنا من مصائب لم يكن من كسب أيدينا، وأنها كما جاءت وفق المشيئة الإلهية على غير إرادتنا، فإن الخلاص منها لن يكون إلا بالمشيئة الإلهية وحدها دون أن نقوم بأي دور تجاهها وأنها ليس لها من دون الله كاشفة.وبذلك تصير النظرة إلى الأحداث بأنها تقع بشكل عشوائي، كلسان حال الشاعر الذي قال (جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ..ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيت ..وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا أم أبيت) وخطورة هذه النظرة أنها تلغي أي أهمية للجهد البشري، بل إنها تلغي إنسانية الإنسان وتحوله من الإنسانية إلى الشيئية يسير على غير إرادة وهدى، وما دامت هذه هي نظرة الإنسان للحياة فلن يكون هناك أي قيمة للسعي وللعمل، لأن الحياة تسير على نحو عبثي دون سنن وقوانين تضبطها، وحين يظن الإنسان أن العبثية هي التي تحكم الوجود فلن يكون هناك داع للعمل والأخذ بالقوانين، فالعبثية تلغي جدوى القانون.إن هذا الظن هو وصفة للتكاسل والتواكل والسلبية، وللفساد في الأرض، فمن يظن أنه لا دور له فيما يصيبه من أحداث وأن أمواج الحياة تتقاذفه بخبط عشوائي فلن يراجع نفسه ولن يصلح عمله.لقد ميز الله الإنسان عن غيره من المخلوقات بالقدرة على الاختيار "وهديناه النجدين"، ومبدأ الاختيار هو الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، والاختيار في دلالته العميقة يعني أن الإنسان قادر على صناعة قدره بنفسه، فالله قد استخلفه في الأرض ومنحه القدرة على فعل ما يريد على أن يتحمل مسئولية اختياره، لذلك فإن الحساب والعقاب هو الوجه الآخر للحرية، وهذا هو تكريم الإنسان أن يختار ما يريد ويتحمل عاقبة هذا الاختيار: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".وحين يتحدث القرآن عما ينتظر الإنسان سواءً في الدنيا والآخرة فإنه يربطها بعمله "جزاءً بما كانوا يعملون"إن قدرة الإنسان على الاختيار يعني أنه مسئول عن نتيجة كل أفعاله، وأن كل ما يفعله اليوم سيلاقي نتيجته غداً، وإذا كانت أفعال اليوم هي التي تصنع حياة الإنسان في الغد، فإن واقعه اليوم أيضاً ما هو إلا صناعة الأمس، فإذا تساءلنا عن المصائب التي تواجهنا في حاضرنا:أنى هذا؟ فإن علينا أن نبحث عما قدمت يدانا، فهي لم تكن لتصيبنا إلا بما كسبت أيدينا: "قل هو من عند أنفسكم". لكن أكثر الناس على اختلاف أديانهم وألوانهم بدل أن يلتفتوا إلى داخل أنفسهم فإنهم يبحثون عن أسباب مشكلاتهم خارج ذواتهم، ونقصد الذات هنا في جميع مستوياتها: الفردية، والجماعية، والحضارية، فالفرد يسب المجتمع والظروف لأنه فشل في حياته، والشعوب تحمل حكامها مسئولية الفساد والاستبداد، والعرب يحملون الغرب مسئولية خيبتهم وتأخرهم الحضاري، والغرب بدورهم يحملون العرب مسئولية الإرهاب والظلامية، ولا يفكرون بالأسباب التي قادت إلى هذه النتائج، وهكذا فإن كل حزب بما لديهم فرحون.إن البشر يتقنون تبرئة النفس وتقديسها والعيش بنفسية الضحية وأنهم مظلومون مضطهدون، وحين تحل المصيبة بأحدنا فإننا نتعاطف معه بالقول إنه لا يستحق ما حدث له، وحين نتحدث عن تاريخنا نستفيض في وصف الجرائم التي قامت بها جيوش التتار تجاه عاصمة الخلافة، من جبال الجماجم وإحراق المكتبات، واسوداد نهر دجلة، وقتل الخليفة، ولكننا لا نبحث بجدية في حياة الخليفة الغارقة في الترف مما كان سبباً في تجرأ التتار على غزو ديارنا .ونفس المنهج في حديثنا عن تاريخنا المعاصر فنرسم صورةً ورديةً بأننا كنا نعيش بأمن وأمان وادعين مسالمين، وفجأةً نزلت علينا البلايا من السماء، وغزانا الاستعمار، وأقيمت إسرائيل على أنقاضنا.. لكن القرآن قد جاء بفكرة انقلابية تنسف هذه المفاهيم السائدة، فهو لا يقر نفسية الضحية، وعلى العكس من ذلك يرسخ فكرةً غير مألوفة بين البشر وهي فكرة (ظلم النفس)، والبشر يتحدثون عن ظلم كل أحد لهم إلا ظلمهم لأنفسهم وهو الظلم الرئيسي الذي يركز عليه القرآن دائماً "وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم"، "وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"، "ظلمنا أنفسنا"..إننا نحن المسئولون عما يواجهنا من مصائب لأن الله قد أعطانا القدرة على الاختيار، ونحن الذين نملك أن نصنع الحياة بالطريقة التي نريدها فحياتنا من صنع أفكارنا، ولا يتغير واقعنا إلا إذا غيرنا الأسباب التي قادت إليه "حتى يغيروا ما بأنفسهم"..إن القرآن يبرز دائماً المسئولية البشرية في كل ما يصيب البشر، ففي قضية الإيمان والكفر، والهدى والضلالة يبين أنها ليست عشوائيةً فالله لا يضل إنساناً إلا إذا اختار هو الضلالة "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً"، "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً"، وفي المقابل إذا صدق إنسان في البحث عن الهداية ورغب في اتباع الحق فإن الله سيوفقه في ذلك "والذين اهتدوا زادهم هدى"..الإنسان هو الذي يبدأ، والله يعطيه ما يريد ، فهو مخير لا مسير.إن الإسلام يعزز دور الإنسان في اختيار قدره بدعوته على الالتفات إلى داخل نفسه لتغيير واقعه، فهناك في الإسلام مبادئ مثل الاستغفار والدعاء ينبغي ألا نفهمها بالطريقة التعبدية وحسب، بل لها دلالتها الفلسفية العميقة، فالاستغفار يكون لتدارك أخطاء الماضي حتى نتجنب آثارها المستقبلية، فهي محاولة للتأثير في المستقبل، والدعاء كذلك بمعناه الإيجابي أن الإنسان يحاول أن يستجلب شكلاً معيناً للمستقبل وأنه يستطيع أن يرد القدر بالقدر فلا جبرية أو حتمية (لا يرد القضاء إلا الدعاء)..هل لنا أن نفهم السر الذي يميز قصة قوم يونس في القرآن الكريم عن غيرهم من الأقوام..إنها تمثل برهاناً على أن البشر يستطيعون بأنفسهم أن يصححوا مسار التاريخ، فهلاك الأمم ليس حتميةً تاريخيةً، ولكنه اختيار قابل للتعديل إن هم تابوا ورجعوا إلى الطريق الصحيح، هذه لفتة استفدتها من المفكر السوري جودت سعيد.إن إرادة الله الغالبة لا تنفي دور الإنسان في صناعة القدر، نحن نعلم أنه لا يكون إلا ما يريد الله ولكننا لسنا مطلعين على علم الله حتى نتحرك بناءً عليه، فنحن حين نعمل فإننا نعمل وفق اختيارنا وليس بناءً على معرفتنا باختيار الله، وما نصنعه في النهاية يكون هو إرادة الله، فنحن نتحرك ضمن قدر الله ولا نلغيه، فنفر من قدر الله إلى قدر الله، إن المرض والهزيمة والفقر أقدار إلهية ولكن العافية والنصر والغنى هي أقدار إلهية أيضاً، والسعي لتغيير الحال من هزيمة إلى نصر، ومن مرض إلى عافية هي أقدار أيضاً.. إن الإسلام يذهب بعيداً في إعلاء قيمة الدور الذي يستطيع الإنسان أن يقوم به في صناعة قدره حتى يشمل ذلك الدور أموراً تفصيلةً نظن أنَّ أحداً من البشر لا يستطيع التأثير عليها، وأنها قدر إلهي محض لا نملك تغييره، مثل الطريقة التي سنموت بها، وهذا ما توضحه قصة الأعرابي الذي ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه اتبعه على أن يصاب بسهم في حلقه فيخرج من نحره فكان الجواب النبوي: إن تصدق الله يصدقك ، وهو ما كان له فمات بالطريقة التي يريدها بالضبط، ونفس المعنى في الحديث أن صدقة السر تقي مصارع السوء أن الإنسان يملك بعمله أن يختار طريقة موته.إذا كان الإنسان يمكن أن يبلغ درجةً يختار فيها حتى طريقة موته، وإذا كان هناك من عباد الله الأشعث الأغبر الذي لو أقسم على الله لأبره، فهذا يعني أنه لم تعد هناك دائرة للغموض والقلق والعشوائية في هذه الحياة، وأن الإنسان يملك أن يمسك زمام قدره بيديه، وهذه هي قمة التكريم الإلهي للإنسان الذي نفخ فيه من روحه، وكون الإنسان فيه نفخة إلهية فهذا يعني أن فيه أثراً من صفات الله، وكما أن الله يفعل ما يريد، فإنه قد أعطى للإنسان القدرة على أن يفعل ما يريد، طبعاً في حدود بشريته وعبوديته "وما تشاءون إلا أن يشاء الله"..وكما ذكرنا مثالاً من المستوى الفردي فإننا نذكر مثالاً آخر من المستوى الجماعي وهو قول الله عز وجل:"ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"، والمعنى أن الإنسان يستطيع أن يؤثر في الظواهر الطبيعية بتغيير رصيده النفسي..وبذلك تصير الطبيعة مسخرةً للإنسان، ويكون مسيطراً عليها بدلاً من أن يكون تائهاً حائراً مصدوماً أمام غضبها كما هو حاله اليوم .جميل أن خبراء التنمية البشرية أدركوا جانباً من هذا المعنى الإيجابي للقدر فخرجوا لنا بقانون الجذب الذي يقول في خلاصته أننا نحن الذين نختار مستقبلنا إيجاباً أم سلباً، نجاحاً أم فشلاً..إن هذا الفهم الإيجابي للقدر يؤكد لنا أن الحياة لا تسير على نحو غامض فتشقينا يوماً وتسعدنا آخر، أو أن الحظ يبتسم لنا يوماً فننجح، ويتجهم آخر فنفشل، ولكننا نعيش وفق اختياراتنا، وبذلك نتحرر من أغلال السلبية والتواكل والتكاسل، وتنطلق طاقاتنا باتجاه التغيير لبناء مستقبل أفضل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.