هل العنف حالة مرضية تقتضي فتح عيادة طبية لمعالجة أصحابها أم أنها صناعة لمنتوج "مَنْع التطور" للجزائر أم أنه "وضع مؤقت" لسياسة غير واضحة المعالم؟ اعتقاد خاطئ يعتقد الكثير ممن يتابعون الشأن الجزائري بأن العنف سمة من سمات الشعب الجزائري، وهو اعتقاد خاطئ، لأن بقاء الجزائر 132 سنة تحت الاحتلال الاستيطان يدل على أن الشعب الجزائري مسالم. وعندما نضج العنف الثوري تحرك الشعب وتحرر من المحتل الفرنسي، لو كان العنف صفة من الصفات الشعب الجزائري لانتقم من الشعب الفرنسي الذي ساند جيشه في احتلال الجزائر. البعض من الدارسين العرب يميلون إلى أن العنف في الجزائر هو امتداد للثورة، وهو اعتقاد آخر خاطئ، فالنظام المغربي اعتقد بأن المواجهات بين قيادة الولايات بعد استرجاع السيادة بداية حرب أهلية، فتحرك لأخذ تندوف إلا أنه اكتشف خطأ اعتقاده. والعنف ظهر مع "الأفغان العرب في الجزائر" وكرّسته الجماعات الإسلامية المسلحة لاعتقاد خاطئ لديها. وهو أن أصحابها اعتبروا أنفسهم مسلمين والبقية "جهلة". وضللوا البعض بالادعاء بأنهم يريدون "إقامة دولة إسلامية" وأوهموا البعض الآخر بأنهم يسعون إلى "خلافة إسلامية" في الوطن العربي، مثلما ضلل الملك فاروق والملك فؤاد الرأي العام المصري بالتردد على المساجد أو إقناع علماء الدين بمبايعته خليفة. وعندما تسمع شيخا مثل المهري في الكويت يتحدث عن "خلفاء إرهابيين"، ويدعو إلى إقحام مذهب خامس (الجعفري) في المنظومة التربوي لجهلة بالمذهب الخامس وهو المذهب الإباضي، تتساءل: هل يستطيع أمثال المهري أن يقنع شيعة إيران بأن "مصحف فاطمة" ليس البديل للقرآن الكريم؟ أوليس أمثال من يمثّلون الشيعة في الكويت هم وجه آخر لمظاهر العنف في الوطن العربي؟ أوليس رفض التعددية الحزبية دليل على التطرف الديني؟ إن العنف ليس مرتبطا بشعب من الشعوب وإنما هو "حالة" يختلف علماء النفس في تفسيرها باختلاف سيكولوجية الشعب. والإنسان المقهور، كما يقول الدكتور مصطفى حجازي، هو الذي يلجأ إلى العنف أمام القوى المتسلطة عليه، فما يلقاه الأب من مهانة في عمله وما يواجهه في الشارع يفرض عليه ممارسة العنف على عائلته. فالرئيس الذي لا يتواصل مع شعبه عبر المؤسسات المنتخبة، والوزير الذي يمتهن الكذب أمام إدارة وزارته، والوالي الذي تغلق بسببه طرقات المدينة ويصطفّ الحرس البلدي والدرك والأمن أثناء تنقله، والأستاذ الذي لا يعطي الطالب حقه، والطالب الذي لا يرى في الأستاذ سوى "علامة" أو "نقطة في امتحان"، هم أسباب العنف. لكن هناك حقيقة يجب ألا نتجاوزها وهي أن العنف في الجزائر لا يتوقف عند الرئيس أو الوزير أو الوالي أو رئيس البلدية، بل يتعداه بسبب "تداخل الصلاحيات والوظائف". فالشرطي الذي لا يحترم المهمة المكلف بها بحيث يصبح شرطي مرور وشرطي حراسة في سفارة، وشرطي تفتيش، وتغيب عن ذهنه أنه في خدمة المواطن، يجعل المواطنين لا يحترمون "هذه المهنة" وتظهر البوادر الأولى لممارسة العنف باسم "البذلة" أو "الوظيفة" ويأتي رد الفعل طبيعيا لرفض الآخر. صحيح أن ما يسمى (العشرية الحمراء أو السوداء أو الدموية) هي التي دفعت السلطات إلى توظيف "كل من هب ودبّ" وخاصة ممن لهم "ثأر" بسبب الاعتداء على أفراد من عائلاتهم في الأرياف. لكن لا يعقل ألا نعيد "رسكلة" هؤلاء حتى يعيدوا الاعتبار لشرف المهنة؟ إذا لم نفكر في تحسين أداء الشرطة مع المواطنين وحمايتهم، عوض مضايقتهم، فإننا سنبقي على بوادر العنف مفتوحة. إن الشرطي الذي لا يفرق بين البرلماني وعضو الحكومة أو يفرق بين راكب السيارة الفخمة وراكب السيارة العادية يحتاج إلى دورات تدريبية. الاتصال المفقود بين الشعب والحكومة وتشير التقارير إلى وجود عصابات إجرامية تريد إغراق الجزائر في عنف جديد، والتصدي للإجرام القادم يحتاج إلى تعاون بين السلطة والشعب. وهذا التعاون مرهون بثقة الشعب في السلطة. وأتساءل: ماذا استفادت ولاية تيزي وزو من إبعاد الدرك سوى انتشار العنف والعنف المضاد؟ لو أن السلطة فتحت مجال اعتماد أحزاب جديدة لتحرك الشعب للمطالبة بعودة الدرك الوطني وانتهى دور الأحزاب الجهوية. وقد اتصل بي مجموعة من ولاية تيزي وزو وشرحوا لي من يقف وراء العنف هناك، ووجهوا رسالة، من توقيع المواطنين، إلى السلطات العليا للمطالبة بعودة الدرك. لأنه يحرّرهم من "سلطة أحد الأحزاب" الذي يشجع على استمرار العنف. وتتحمل السلطة، ممثلة في وزير داخلية سابق، مسؤولية العنف في ولاية تيزي. كما تتحمل السلطة مسؤولية "بقاء الوضع القائم كما هو"، وغلق المجال السياسي، وزرع الفتنة بين أعضاء الحزب الواحد، وتشجيع اليأس في الأوساط السياسية والإعلامية، فالنشاط الوحيد في الجزائر هو "أخبار الرياضة" بحيث بيّنت دراسة أجريتها حول الإذاعات المحلية مع "600 سائق طاكسي" بأن الثقافة "غير مرغوب فيها" في الجزائر. ولا شك أن الوضع الراهن لا يسمح للجزائر بأن تتحرك نحو المستقبل، فالأمل مفقود وأخبار الجرائم والمخدرات والنهب والاحتيال والانتحار تؤكد أن هناك تراكما للعدوانية وأن هناك يأسا كبيرا، وأن هناك غيابا للسلطة و"الاستهتار" بحقوق المواطنين: هل سمعتهم في العالم أن مسؤولا لحقوق الإنسان يتحدث عن "مفقودين مزيّفين"؟ المؤكد عندي أن هناك جهات خارج وداخل السلطة مستفيدة من العنف، لأنه يمكنها من تبذير المال العام وإبرام الصفقات المشبوهة. والأكثر تأكيدا أن إخراج البلاد من هذا "التأزيم" غير ممكن في الوقت الراهن، لأن السلطة لا تفكر في "حراك سياسي" وإنما هي تحبذ الجمود. ولكن هل تستطيع السلطة مواجهة "الغضب القادم" بسبب تزايد العنف والبطالة؟ أعتقد أن الرهان على التحاف بين السلطة والمال والمصالح لا يذهب بعيدا، بل ستكون نهاية شبيهة بأحزاب "التحاف الرئاسي"، التي تعتقد أن غلق المجال السياسي في وجه الأحزاب الجديدة سيدفع إليها مناضلين جددا والحقيقة أنه سيدفع بها إلى الانشقاق والفتنة ويعزز عضد الواقف ولو كان حمارا!