ذكريات حي شعبي من أحياء مدينة وجدة ...لها ما لها وعليها ما عليها... كم كانت أفراحنا ونحن صغار .كنا نقضي معظم اوقاتنا في اللعب ولاشيء غير اللعب .لعب خلال ايام السنة كلها بساعاتها ودقائقها بفصولها المختلفة وبمناسباتها العديدة.يأتي وقت الزربوط فتجد كل واحد منا يمتلك زربوطه الخاص ويتفنن في اختيار الأحسن والأجود فهذا من زبوج وهذا يصلح للنق أي لتحطيم الزرابيط الأخرى المصنوعة من خشب رديء وذاك صنارته من مسمار الهند وذاك خيطه من قيط وذاك وذاك... ويأتي وقت النيبلي فتجد الواحد منا يمتلك البوس وآخربينيكا وآخر بيقارو وتجد أماكن اللعب والحفر في كل ركن من أركان الدرب والتباري على أشده فمنا من يتصيد النيبلي بمهارة كبيرة فيمدد أصابعه وذراعيه أكثر من اللازم ويجمع منها بالتالي الكثير ويبدأ في البيع للذين خسروا كل ما لديهم فيصبح بين عشية وضحاها غنيا يملك مالا قد يسمح له بابتياع تذكرة في سينما النصر أو المعراج او باب الغربي أو فوكس وقد تسمح له بالدخول الى الملعب البلدي لمشاهدة المولودية الوجدية او الاتحاد الاسلامي الوجدي أو حتى لاسكرو... يمر الوقت ونحن ننتقل من لعبة الى لعبة وما أن ننتهي من واحدة حتى ننتقل الى أخرى.وهكذا دواليك... بدون أن نشعر كان اللعب يرفه عنا ويبعد عنا مشاعر الملل والوحدة ويجعلنا نقضي أوقاتنا مستمتعين بالفرجة تارة وبالتحدي والتباري الشريف بيننا مرات عديدة .كنا نجمع المال لشراء كرة لانفترق حتى نرجعها كشرويطة من ثوب استحال لونه وضاعت أطرافه بكثرة الاحتكاك وشدته.كنا ننتقل من ملعب الى ملعب ومن درب الى درب حاملين معنا زادنا الذي الذي لايبارحنا الكرة وأحذية في الغالب من ميكة وكثيرا ما كنا نبحث عنها في القمامة وربما وجدنا فردة واحدة لازالت صالحة للاستعمال فنأخذها ونقضي بها الغرض.ولكثرة ما كنا نمارس هذه الهواية أصبح الكثير منا لاعبا من مشاهير اللاعبين ولولا ضيق الصدور لذكرت بعضا ممن وصل الى اللعب في فرق محلية كالمولودية والليزمو ومنهم من وصل الى اللعب ضمن الفريق الوطني.... كنا نقضي قسطا من ليالينا في لعب دينفري وسبسبوت وحابا ونكمل غالبا سهرتنا في السمر على المحاجيات وفك الألغاز. بدون أن نشعر كان اللعب ينمي فينا جوانب لم نكن نأبه لها وقتئذ كالتعاون والتنافس والندية .. كان اللعب يجري في عروقنا جري الدم في الجسد ونحن نكبر شيئا فشيئا حتى أصبح من الطقوس اليومية التي لايمكن الاستغناء عنها,وكلما تقدمنا في السن الا وكبر معنا اللعب .كانت البداية مع صنع اللعب بأنفسنا وبأيدينا الصغيرة ولم نكن نحلم في أن نحصل على لعبة مما يباع في شارع محمد الخامس لأبناء الميسورين والطبقات الراقية كما ان تلك اللعب لم تكن لتشبع غرائزنا الطفولية المشاكسة.كنا نستعمل بقايا السيارات والدراجات وبقايا الثياب وبقايا كل الأشياء المرمية هنا وهناك بدون أي نظام يذكرفي أزقة درب امباصو. لم تكن المزابل المشتتة هنا وهناك ببعيدة عنا بل كانت تزاحمنا هي الأخرى حتى أصبحت جزءا من حياتنا المتكررة .كنا نتفنن في صنع لعبنا ونتباهى أمام الآخرين بأننا نتقن الصنع ... كان في نهاية الدرب سقاية مشتركة يتزود منها الجميع باستثناء الدور التي كانت تحتوي على الحواسي أي تلك الحفر التي كانت في أعماقها مياه متدفقة الا أن خطرها كان يحدق بأصحابها خصوصا الأطفال الذين لا يأبهون لذلك.فكم من مرة سقط ضحايا وكنت تسمع مكبرات صوت سيارات الاسعاف ورجال المطافئ يهرولون لانقاذ ما يمكن انقاذه. تمر الأيام متشابهة في غالب الأحيان ولا مجال للمفاجأة .لعب ولهو وكتاب ومدرسة وهكذا دواليك . كانت الجنانات تحيط بالدرب من كل الجوانب .جنان الحبوس ,جنان عسيلة ,جنان الطومباهي,جنان الميلود الأعور...وكانت هي المزود الرئيسي لما يحتاجه السكان من الخضر والفواكه والأعشاب المعطرة من نعناع وشهيبة وكرافس وقصبر ومعدنوس وكنا نحن الصغار نقطف ما لذ وطاب من الفواكه بدون أن نأبه لأصحابها فوقت المشماش نملأ بطوننا ونجمع العلف ونستخرج منه النواة لنيبسه ونصنع منه صفارات صغيرات ونبيعه ووقت الكرموص المعسل الأسود والأخضر نجني منه ما يكفي لملء معداتنا الفارغة أما الهندية فكنا نقطفها تارة بأيدينا وتارة بقصبات معدة خصيصا لذلك و نأكل منها ونبيع والرمان نبيع قشوره للعطارين...وما كانت كل مرة تسلم الجرة فاحيانا كثيرة كنا نتعرض للتأنيب والعقاب..أما الحيوانات كالقطط والكلاب والحمير وبعض الطيورفكانت لنا معها حكايات وحكايات .فكنا نلقب أحد الجيران ببو حمارة لأنه كان يملك عربة تجرها حمارة ومن فرط اعتنائه بها أو خوفا عليها من اللصوص كان كل مساء بعد أن يطردنا بعيدا يدخلها الى الدار ويبيتها في مكان خاص بها.أما الكلاب فكنا أخشى ما نخشى منها خصوصا تلك التي كانت توضع لحراسة الفواكه والخضروات وبعض الفيلات في الطريق الجديدة كفيلا بريسول .والقطط كنا نحبها كثيرا الا أن ذلك الحب انقلب الى كراهية شديدة مما جعلنا ندخل في صراعات كان بعضها مميتا وكنا لاندري ما سبب ذلك التحول .أما الطيور فكان أقربها الى قلوبنا تلك الطيور الصغيرة الجميلة بألوانها الصفراء والحمراء والسوداء والتي كنا نطلق عليها اسم المقينين ,فكنا نصطادها بالعشرات في زوبية البايلك خارج المدينة في اتجاه الحدود المغربية الجزائرية ونربي بعضها فنستمتع بأصواتها الشجية ونبيع أعدادا منها في سوق الدجاج بجانب الركابة قبالة سوق القدس. في الصيف كان ملاذنا واحة سيدي يحي حيث المياه متدفقة من العيون الكثيرة والظلال الوارفة لأشجار متنوعة كالنخيل والصفصاف وغيرها من الأشجار.فكنا نأخذ معنا ما حضر من طعام الوقت ونقضي هناك النهار كله فارين من قيظ حرارة صيف مدينة وجدة تارة في الاستحمام والغطس والسباحة ومرات أخرى في الاستراحة والأكل تحت الظلال وحتى النساء والفتيات الصغيرات و الكبيرات كان لهن مكانا خاصا للأستحمام والتمتع بالمياه العذبة والمنبعثة من العيون تحت سقيفة لا يجرؤ أحد من الاقتراب منها والا نال نصيبه من الصراخ والعويل مما يعرضه للتحقير والاستهجان.وفي المساء نرجع قافلين الى منازلنا منهكين بالسباحة والمشي على الأقدام أو الالتصاق بمؤخرات العربات التي تجرها الخيول أو حتى الحميرناهيك عما يعترض طريقنا من مشاكل.كان يفصل بين حينا وسيدي يحي درب لازاري المعروف بعدائه لنا فكنا كالقط والفأر.كان أطفالهم يعترضون طريقنا ويسلبون كل ما كنا نحمل معنا ويضربوننا وكنا نعاملهم نفس المعاملة وربما أكثر كلما هم أحدهم بالنزول الى وسط المدينة فكان يرى من الضرب ويسلب ما لديه ويسمع من الشتم ما لايستطيع أن يرد على كل ذلك لسبب بسيط وهو أنه في حينا بدرب امباصو ونحن هم الأسياد ... تفتحت قلوبنا على فتيات حينا الصغيرات فكنا نرى بعضهن كالحور تمشي على الأرض لجمالهن .ربما لابتعادهن عنا واحتراسهن الشديد وربما لتحذيرات الأمهات من مغبة الاقتراب منا أكثر فأكثر .كان الخوف والتوجس هو المتحكم في علاقاتنا فكنت تراهن يلعبن في زاوية من زوايا الدرب ألعابا خاصة بهن كلعبة الحجلة أو ما يسمى عندهن بالشرطة وتعتمد على رمي حجر صغير في مربعات والتناوب على ذلك كلما خسرت احداهن أو لعبة الحبل والقفز عليه اما بصورة فردية أو ثنائية أو حتى جماعية كما أن المولد النبوي كان فرصة مواتية لاستعراض مهارتهن في الضرب على الدفوف والدربوكة والشنيشلة ...لكل منا لعبه ولكل منا نمط حياته :خطان متوازيان ... كانت ألعابنا بريئة في غالب الأحيان .لم نكن نريد منها سوى المتعة وتجزية الوقت وادخال الفرحة الى قلوبنا الصغيرة التي كانت تعاني من هموم شتى ونحن لازلنا نخطو خطواتنا الأولى في الحياة .الا أن بعض ألعابنا أخذت تحيد عن تلك البراءة فكنا مثلا نرى في بعض زوايا الدرب البعيدة عن أعين الآباء والأمهات المتربصة مجموعة من شباب الحي يتحلقون على لعب الورق فمنهم من يربح ومنهم من يخسر فاكتشفنا بذلك لعبة من الألعاب الخطيرة التي يكسب منها الماهر في رمشة عين المال الوفير في الوقت الذي يخسر فيه البعض الشيء الكثير.ومنهم من كان لايرى الا ومعه تلك الأوراق اللعينة وهي لاتفارقه بحيث ان شغله الشاغل هو تصيد الأبرياء ونصب الفخاخ لهم حتى لقب بقزة لأنه كان يعرض على أطفال الدرب وشبابه هذه اللعبة التي كنا نسميها بالقز.... كان الفقيه سي عبقادر الزعيمي -رحمة الله عليه-من أشد الفقهاء جدية وحرصا على تحفيظنا للقرآن الكريم بدرب امباصوبحيث انه كان في كثير من الأحيان يلجأ الى الفلقة وهي تعني الضرب على ممشى القدمين بالحزامة التي كان ينزعها من سرواله اذا لم ينفع لا وعد و لا وعيد خصوصا مع الأطفال المشاغبين الذين لا يرعوون فكنت تسمع بين الفينة والأخرى صراخ أحدهم رغم اغلاق جميع أبواب الحانوت الذي كنا نقرأ فيه أوقات الفراغ من المدرسة بالأخص في فصل الصيف.كما أن تشجيع المجتهدين من الطلبة كان يتم بتحنيش لوحة الحافظ للقرآن أي بتزويقها بشتى الألوان من طرف الفقيه أو من ينوب عنه من الطلبة الكبار فكان يقام حفل بالمناسبة تساهم في تمويله نساء الحي اللواتي كن يتبرعن بقطع من السكر وأوراق من النعناع و المسمن أوحرشة تشجيعا من طرفهن على حفظ القرآن وكنا ونحن نجوب الحي رافعين الألواح الى الأعلى ومرددين بأصوات عالية يكاد يسمعها الجميع (بيضة بيضة لالة .باش نزوق لوحتي .لوحتي عند الطالب.والطالب في الجنة .والجنة محلولة .حلها مولانا.مولانا واصحابو .في الجنة ينصابو ....) كان فصل الصيف يعرف ازدحاما شديدا للأطفال حفظة القرآن سيما وأن المدارس تغلق أبوابها فتكون فرصة للمراجعة وحماية لنا من التسكع دون فائدة تذكر واستعدادا لموسم دراسي جديد.....