تنهي ما ورائها من أعمال قبل عودة زوجها وابنتها حتى يكون كل شئ تمام فهذا ما يتوقعونه منها؛ وأثناء انشغالها في التنقل من تنظيف حجرة النوم إلى إنهاء إعداد الطعام بالمطبخ تسترجع مرة أخرى كلمات صديقها بالجامعة عن الطموح وصناعة الإنسان لحياته: كل واقع يبدأ بفكرة إذا آمن الإنسان بقدرته على تحقيقها أصبحت واقعه ؛ تسأله لا أفهم ماذا تقصد ؟ يجيبها: إذا سيطر على الإنسان فكرة كونه مقهورا سيظل مقهورا أما إذا سيطر عليه فكرة كونه قادرا على تغيير حياته فسيغيرها، مازالت تذكر نظراته إليها تلمس قلبها وتملؤها رغبة في الحياة؛ كلما اختلت بذاتها تستحضر صورته إلى ذهنها كما لو كان لقائهما بالأمس، عن عمد تفكر فيه، فهذا التفكير يمنحها شعور غريب بسعادة خاصة لا يشاركها فيها أحد. كم تمنت أن يكون لها؛ صغيرة السن كانت هي، تربت على أن تحقق رغبات الآخرين وتوقعاتهم منها؛ سعت دائما إلى إرضاء كل من حولها و تحقيق ملامح الصورة التي وضعها الآخرون لها: إذا بلغت الفتاة المحيض عليها أن تحتشم... فاحتشمت؛ التعليم مهم لكن الزواج أهم ... فتعلمت وتزوجت؛ الأطفال زينة الحياة يجب أن تنجبي فور تزوجك... فأنجبت؛ الزوجة الصالحة تطيع زوجها ... فأطاعت؛ عملك يأتي بعد دورك كزوجة وأم ... فأنهكت. بجسد منهك تذهب لفراشها كل ليلة بخاطرها السؤال: ماذا لو كان واقعها مختلفا؟ فتتذكره ... كان يدرس معها بالجامعة و طموحه كان جامحا ، منذ العام الدراسي الأول وهدفه أن يتعين بالجامعة ويستكمل دراسته العليا؛ كم أعجبها تحديده لهدفه ؛ كانت نظراته لها تعبر عن شدة إعجابه بها؛ كلماته تدفعها لأن تحدد ما تريد ومن تكون. كان هذا شيئا جديدا عليها لم تعتاده؛ تحمست لطموحه الذي دفعها لأن تكون مثله؛ اجتهدت هي الأخرى لتتمكن من استكمال دراستها العليا معه بعد التخرج، لم يكن الزواج الآن هدفهما. كانت تملؤها السعادة كل يوم وهي عائدة من الجامعة إلى منزلها بعد أن قضت معه أوقاتا بين المحاضرات تستمع إلى حديثه عن الحياة واختيارات الإنسان و إصراره على النجاح وتحقيق الذات. كم كان يشعرها بالحرية أن تكون معه وكأنها تمتلك قرارها بل تمتلك مصيرها... في الصباح، نفس الروتين توقظ ابنتها استعدادا للذهاب إلى المدرسة، تعد الفطور ثم توقظ زوجها للذهاب إلى عمله؛ تعد طعام الغذاء ثم تذهب هي الأخرى إلى عملها. كل يوم مثل سائر الأيام، تجلس بالساعات على مكتبها تعمل في الدفاتر و ملفات الكمبيوتر ؛ تستمع إلى أحاديث زملائها بالمكتب عن مشاكل العمل، مشاكل الطريق، مشاكل المجتمع الذي انهارت أخلاقياته ، مشاكل ، مشاكل ، مشاكل لتصبح الشكوى أسلوب حياة وعدم الرضا حالة عامة وخاصة ، فتشتكي هي الأخرى من كل شئ وأي شئ حتى تجاري زملائها الحديث. تعود للمنزل، تنهي ما ورائها من أعمال قبل عودة زوجها وابنتها حتى يكون كل شئ تمام فهذا ما يتوقعونه منها؛ وأثناء انشغالها في التنقل من تنظيف حجرة النوم إلى إنهاء إعداد الطعام بالمطبخ تسترجع مرة أخرى كلمات صديقها بالجامعة عن الطموح وصناعة الإنسان لحياته: كل واقع يبدأ بفكرة إذا آمن الإنسان بقدرته على تحقيقها أصبحت واقعه ؛ تسأله لا أفهم ماذا تقصد ؟ يجيبها: إذا سيطر على الإنسان فكرة كونه مقهورا سيظل مقهورا أما إذا سيطر عليه فكرة كونه قادرا على تغيير حياته فسيغيرها، لهذا هناك خاسرين ورابحين في هذا العالم، هناك مقهورين وهناك صانعي حضارة. تتخيل ماذا يا ترى سيقول زملاؤها بالمكتب إذا ما سمعوا مثل هذا الكلام و لا تملك نفسها من الضحك بصوت مرتفع فلقد تخيلت زميلها عادل - الشاكي الساخر كما يسمونه - يقول يا سلام !.. يعني أنا لو فكرت إن الطريق فاضي حيبقى فاضي أو إن رئيسي في العمل أتنقل مثلا لمكان آخر حيتنقل، تضحك وتنظر حولها لتتأكد أنها مازالت بمفردها ولم يسمع ضحكاتها أحد. يا ألهى مجرد التفكير فيه مقارنة بالواقع يملؤها بهجة؛ وتخطرها فكرة تبدو مجنونة فتردد لنفسها لا لا لا يجوز، ثم تعيد التفكير لماذا لا يجوز؟ ذهابي للجامعة ومقابلته إنما هو أمر عادي، هو بالتأكيد يعمل بالجامعة الآن فهذا ما أراده وإذا لم يكن يعمل بالجامعة فلن أخسر شئ، كما أنني دائما ما تمنيت استكمال الدراسة بعد التخرج فلما لا أذهب للجامعة؟ مازالت تذكر كيف لم يظهر أي تضرر عندما أخبرته أن هناك شاب تقدم لخطبتها وان والدها مرحب به و يشجعها على الموافقة، بل على العكس جاء رده باردا غامضا: هذه حياتك، وقراراتك مرتبطة بما تريدينه لذاتك وما تبغي أن تكونين ! كان رده أحد دوافع موافقتها على الخطبة، كما أنه لم يظهر أي تعبير بالضيق أو الفرح عندما علم بخطبتها، وقد انقطعت أخبارهما عن بعضهما البعض منذ تخرجا من الجامعة، إذن ذهابي للجامعة ومقابلته لا يمثل ضررا لأحد، وتقرر في ذاتها سأذهب للجامعة واسأل عنه ... أقصد واسأل عن برامج الدراسات العليا. وأثناء تناول الغذاء مع زوجها وابنتها تكسر الصمت وتقول: أفكر في الذهاب للجامعة غدا... وتستكمل سأسال عن برامج الدراسات العليا ... لم يعلق زوجها ... فتسأل هل تعتقد أنها فكرة جيدة ... فيجيب زوجها طبعا ولما لا السؤال لا يضر أحد... فتقول ماذا تعني؟ فيجيب هذه المرة الأولى التي تقترحي فيها عمل شئ مختلف و أنا سعيد بالفكرة فلما لا تسألي فالسؤال لن يضر أحد. تسعد بإجابة زوجها و تقضي الليل تختار ماذا سترتدي غدا، تقوم بتجهيز ملابسها و شعور بحماسة غير مسبوقة يسيطر عليها. تستيقظ مبكرا وبعد استكمال واجباتها الصباحية تستعد للذهاب للعمل ولكن اليوم ليس مثل سائر الأيام، فاليوم ستذهب ثانية للجامعة بعد سنوات من التخرج و ربما، ربما تقابله. تنظر لنفسها في المرآة وتبدو راضية عن هيئتها وزينتها، تصل إلى عملها وبوجهها إشراقه واضحة ليسألها الجميع تبدين رائعة اليوم، بك شئ جديد ، ماذا حدث من الأمس لليوم؛ وترد وهي تبتسم أبدا لم يحدث شئ و لكني سأذهب إلى الجامعة وبحاجة إلى إذن للانصراف مبكرا من العمل؛ بالطبع تثير إجابتها حب استطلاع الجميع لتقضي الساعات القليلة بالمكتب في الحديث حول ماذا إذا استطاعت استكمال دراساتها العليا، ماذا إذا حصلت على الدكتوراه مثلا وتركت هذا المكتب، ماذا و مئة ماذا عن المستقبل لم تفكر هي بها من قبل بل ولم يفكر بها زملائها أيضا، كم هو ممتع الحديث بتفاؤل عن المستقبل بدلا من الشكوى من الواقع، هذا حقا يوما مختلفا. تترك الجميع في منتصف اليوم للذهاب للجامعة، ترى في سلامهم هذا التطلع لرؤيتها غدا لمعرفة الأخبار وكأنهم زملاء جدد. وفي طريقها للجامعة تتنبه للسبب الخفي لذهابها وتتمنى أن تقابله؛ تداخلها جميع المشاعر المتناقضة من فرح وقلق، إقدام وتردد، أمل وخوف لكنها تستكمل طريقها فتصل إلى الجامعة وتتوجه مباشرة للقسم التابع لتخصصهما، تتوقف أمام مكتب سكرتارية القسم وبخطى بها بعض التردد تتقدم نحو السكرتيرة الجالسة على أحد المكاتب للسؤال عن متطلبات استكمال الدراسات العليا بالقسم، فتدعوها السكرتيرة للجلوس وتعلمها بجميع مراحل الالتحاق والأوراق المطلوبة، ثم تستجمع شجاعتها و تعبر عن رغبتها في معرفة إذا ما كان أحد من دفعتها تم تعينه بالقسم وتذكر اسمه كمثال؛ وتأتي الإجابة كما أراداتها: نعم ، هو من أنشط الأساتذة بالقسم، اعتقد أنه بالمكتب اليوم إذا أردت مقابلته وسؤاله عن الدراسة بالقسم. تنهض من مكانها في حالة ارتباك وتعيد قول ما سمعته كمحاولة لاستعادة توازنها: هو هنا في الجامعة وبمكتبه اليوم ... وتأتي الإجابة المؤكدة: نعم ويمكنكِ مقابلته إذا أردتِ ذلك. تخرج من مكتب السكرتيرة في حالة من تشتت الأفكار والمشاعر... هل يجب أن تذهب لتقابله، ماذا ستقول له، هل مازال يذكرها، هل تغير، هل تزوج، هل حقا ترغب في مقابلته؟ وبجميع الأسئلة والتشتت الدائر في ذهنها تجد نفسها تتفقد أسماء الأساتذة المعلقة آملة أن تجد مكتبه، لماذا يداخلها شعور بعدم الارتياح ... تدرك أنه نفس الشعور وكأنها عادت طالبة في السنة الأولى تتفقد طرقات الجامعة بحثا عن قاعة المحاضرة، تُذَكِّر نفسها بالواقع فقد أنهت دراستها وتخرجت من الجامعة منذ سنوات ليشعرها هذا ببعض الارتياح... تستوقفها لافتة اسمه ... هذا مكتبه ... هذا هو... لقد حقق ما أراده لذاته. تتوقف أمام باب المكتب فينظر إليها نظرة الأستاذ للطالبة ويقول تفضلي.. دقائق وانهي محادثتي مع زميلك ثم أساعدك فيما تريدين، تتقدم وتجلس بمكتبه وبداخلها مشاعر مختلطة من الدهشة والتعجب، هي حقا تراه الآن وتجلس أمامه ... ماذا ستقول له ! لا تملك ذاتها من تأمله والاستماع إلى حديثة مع الشخص الجالس معه وهو يقول: لابد أن تقرأ و تبحث لابد أن يكون لك رأيك الخاص و يكون لديك الجرأة للتعبير عن هذا الرأي... لماذا تتفق مع باولو فريري أو لماذا تختلف معه؟ أين شخصية الباحث؟ لابد أن تحدد من أنت؟ ...هنا تدرك هي أنه لم يتغير كثيرا وإنما أصبح أكثر تعقيدا، حقا لقد خلق ليكون أستاذا جامعيا... مازال يسيطر عليها الشعور بعدم الارتياح وكأنها طالبة بالسنة الأولى... ويزداد هذا الشعور بانصراف الشخص الذي كان يحادثه و توجيهه إليها بالسؤال كيف يمكن أن أساعدك ؛ تتلعثم وكأنها في قاعة امتحان وأمام ممتحن لتخرج كلماتها غير مفهومة ثم يبادرها القول أنا أعرفك أنتِ سلمى، نعم ألست أنتِ سلمى التي درست معي بالجامعة منذ سنوات مضت؛ تأخُذ نفسا عميقا لتُهدأ من ذاتها وتقول نعم أنا هي .. أنتَ لم تتغير كثيرا، فيقول شكرا وإن كان هذا غير حقيقي، أشعر أحيانا أنني أكبر من سني الحقيقي بعشر سنوات، أخبريني كيف أنتِ وكيف الحياة معك ولماذا أنتِ هنا اليوم... تظهر في مخيلتها صورة زوجها وابنتها لتضفي على وجهها ابتسامة وهي تقول بإحساس من الفخر أنا بخير والحياة رائعة فقد تزوجت ولدي ابنة عمرها تسع سنوات، كيف حالكَ أنتَ ؟ فيقول أنا بخير لم أتزوج بعد، فقد شُغلت بالماجستير والدكتوراه والتدريس بالجامعة و لكن ربما قريبا؛ لم تجيبني على سؤالي لماذا أنتِ هنا اليوم ؟ فتقول ظننت أنني أرغب في استكمال الدراسات العليا ولكني اكتشفت أن هذا ليس ما أريده بل قد كان هذا دوما رغبة غيري ، لقد ساعدتني كثيرا زيارتي للجامعة على إدراك أن ما أريده حقا إنما أنا أملكه بالفعل. *أستاذ زائر دراسات الشرق الأوسط