لم تعد القارة العجوز في منأى عن التهديدات الإرهابية المحدقة، والتي أصبحت معها درجة الخطر– الصفر (0)، من ذكريات الماضي القريب–البعيد. فشبح الإرهاب بات واقعا يتهدد دول أوربا. إرهاب أرادت بالمناسبة جهات غربية عنصرية، شبيهة بالإرهابيين في إرهابها وتطرفها الفكريين، أن تلبسه ثوب الإسلام والعروبة، والهجرة السرية. ففي كل مرة يضرب الإرهاب أوربا، تتكرر السيناريوهات والمشاهد ذاتها، وكأنها مستنسخة بعضها عن بعض: حالات طورئ، وإنزالات أمنية استثنائية، وسيارات إسعاف تقل تباعا القتلى والجرحى، وعمليات مسح وتحريات ميدانية في مسارح العمليات الانتحارية والتخريبية، ومداهمات بوليسية مباغتة، وقادة يتسارعون ويسارعون عقارب الساعة، في خرجات إعلامية، أمام عدسات الكاميرات، وتحت الأضواء الكاشفة.. وحالة حزن وأسى تخيم على الوجوه، وحشود غفيرة تصطف في الساحات العمومية وأماكن الاعتداءات، تشعل الشموع وتضع أكاليل الزهوى.. واستنكار شعبي ورسمي، ورسائل تعزية واتصالات هاتفية يجريها زعماء العالم مع قادة البلدان المكلومة، للتعبير عن المواساة والتضامن في المحن وفي مواجهة الإرهاب. كل هذا أصبح يشكل مظهرا اعتياديا ومألوفا.. لكنه لم يعد كافيا للتصدي للإرهاب واستئصال جذوره، وتفادي مخاطره المحدقة، وكذا، تجنب الإرهاب الفكري الذي تمارسه، بخرجاتها "السياسوية" النارية، جهات انتهازية متطرفة في أوربا، تستهدف الإسلام والمسلمين والعرب، والمهاجرين الذين في الأصل غالبا ما يكونون ضحايا الإرهاب في أوطانهم الأصلية. لقد ضرب الإرهاب فرنسا، ثم أعاد الكرة على أراضيها، وكاد أن يضربها مجددا، الخميس الماضي. وها هو يضرب بقوة، منذ أقل من أسبوع، بلجيكا، عاصمة أوربا وقلبها النابض. فشبح الإرهاب لا جنسية ولا دين ولا عقيدة له، ولا إنسانية فيه، أو حتى لا إنسانية له. القادة الأوربيون عودوا العالم على الخطابات ذاتها، التي ماانفكوا يرددونها في مثل هذه المناسبات الأليمة، التي توحد القارات الخمس والكرة الأرضية والكون، في نبل أحاسيس الإنسانية ومشاعر التآزر والتضامن. فهم مافتئوا يدعون،منذ أحداث "شارلي إيبدو"، إلى اتخاذ الحيطة والحذر، وإلى تكثيف التنسيق الاستخباراتي والأمني. إلا أن خطاباتهم هذه، فيها إقرار بفشل وإخفاق التنسيق الاستخباراتي والأمني المنشود. الآن، فقد حدث للأسف الشديد ما حدث. وهذا لن يغير مجرى الأحداث، ولن يوقف عقارب الساعة، وعجلة الزمن، وتسارع التاريخ بتناقضاته. لقد اتحد العالم وتوحد في مشاعر الحزن والأسى والغضب، وفي ردود الفعل الكونية. لكن ذلك لم يعد كافيا لمواجهة الإرهاب، هذا الشبح المدمر، الذي قد يستهدف أيا كان، دون ميز أو تمييز، مواطنين أبرياء، مسيحيين ويهودا ومسلمين.. وحتى من لا دين وديانة وعقيدة لهم. وقد يضرب في أي زمان، وفي أي مكان.. في المطار وفي محطة القطار. فهو ليس كالطائرة أو القطار، له مكان وتوقيت محددان. فالفاجعة تكون دائما إنسانية صرفة.. فثمة كذلك قتلى ومصابين عربا ومسلمين، ضمنهم مغاربة، كما حصل في بلجيكا، ومن قبل بلجيكا. فالإرهاب هو الإرهاب، والعرب والمسلمون بريئون منه. فإن كان جل أو حتى جميع الإرهابيين مسلمين أو عربا مسلمين أو عربا، فإن جميع المسلمين والعرب ليسوا إرهابيين. فمن الإرهابيين من يحملون جنسيات أوربية 100 في المائة، ومنهم كذلك من رأوا النور وترعرعوا في أحضان أوطانهم الأوربية، ولا علاقة تربطهم بوطنهم الأصلي، الذي قد لا يعرفون عنه سوى الاسم، أو فقط ما يسمعون عنه. إن السلاح الكفيل لمواجهة الإرهاب في القارة العجوز، وتأمين حدود الدول الأوربية، وتحصين أراضيها وشعوبها من الهجمات والعمليات التخريبية التي باتت تتهددها وتستهدفها، يكمن في توفر الإرادة السياسية لدى الدول الأوربية، والتنسيق المحكم بين حكوماتها وأجهزتها الاستخباراتية والأمنية، والإبقاء على الاتحاد الأوربي قائما بجميع أعضائه ومكوناته، لأن من الخطر إضعافه وتفكيكه، في حال انسحاب انجلترا منه، وكذا، تبني تشريعات وقوانين استثنائية، تحد من الحريات الفردية والجماعية، من أجل المصالح العليا للأوطان والمواطنين والشعوب. ناهيك عن إعادة النظر في السياسات الاجتماعية والاقتصادية إزاء المهاجرين الذين يقيمون في الأحياء الهامشية للمدن الأوربية، والشبيهة بال"كيتوات". فكما تنسق دول أوربا فيما بينها على المستوى الاقتصادي، والذي ممن تجلياته أن كانت أحدثت "الاتحاد الأوربي"، الذي وحد القارة العجوز في أكبر شطر جغرافي من ترابها، أو كما تنسق على المستوى العسكري، الذي خلقت من أجله "الحلف الأطلسي"، كدرع عسكري للدفاع عن مصالحها الاسترتتيجية في العالم، أو كما تعزز تعاونها الأمني في إطار منظمة الشرطة الجنائية الدولية ال"أنتربول".. فلا بد من أن تقيم القارة العجوز إطارا مؤسساتيا منظما، يضمن لها وفي ما بين بلدانها التعاون الاستخباراتي والأمني، والذي يجب أن يمتد إلى الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، وتحديدا المملكة المغربية. منظمة يمكن أن تحمل اسم "وكالة الاستخبارات الأورومتوسطية" (Agence d'Intelligence Euro-méditerranéenne)، يكون مقرها في إحدى البلدان الأوربية المطلة على البحر الأبيض المتوسط. وكالة استخباراتية من غاياتها تأمين حدود الدول، وتحصين أراضيها وشعوبها من الهجمات الإرهابية، سيما بعد أن بسط تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، سيطرته على أطراف ترابية شاسعة من العراق وسوريا، ولم تعد دول الجوار في منطقة الخليج، وحتى دول المغرب العربي (ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، وموريتانيا)، )، سيما في أعقاب سقوط الدولة في العراق، وتقهقر جيشها النظامي، في منأى عن التهديدات الإرهابية المحدقة. حيث استفاد هذا التنظيم الإرهابي الذي يضم في صفوفه 38 ألف مقاتل إرهابي، من خبرات "النخب" العسكرية والعلمية والمدنية التي التحقت بصفوفه، من العراق وسوريا، وكذا، ممن التحقوا به من 76 دولة أجنبية. إذ يسعى إلى توسيع مناطق نفوذه وتمدده الترابي والجغرافي "الأخطبوطي"، بتصدير تجربته إلى المغرب، بعد أن وجد لنفسه موطئ قدم في مستنقع ليبيا، جراء انهيار الدولة فيها، مستغلا غياب التنسيق الأمني والاستخباراتي في ما بين دول شمال أفريقيا، وسعي الجارة الجزائر إلى تصريف وتصدير أزماتها وصراعاتها الداخلية، السياسية والمجتمعية والقبلية، التي تتخبط في مستنقعها، إلى عمق الدولة المغربية، بافتعال القلاقل في أقاليمه الجنوبية، وتجنيد مرتزقة البوليساريو في خلايا "ظلامية"، تستهدف أمن واستقرار المغرب، الذي ظل القلعة الشامخة الوحيدة المحصنة ضد الإرهاب، في العالم العربي وشمال أفريقيا. فلماذا يجب أن يحظى المغرب بوضع شريك متقدم في "وكالة الاستخبارات الأورومتوسطية"، في حال إحداثها ؟ أولا: بالنظر إلى موقع المغرب الجيو–استراتيجي المتاخم للشريط الجنوبي لأوروبا، والممتد على طول الشمال–الغربي لأفريقيا، والمتصل في عمقه بمنطقة الساحل والصحراء الكبرى. ما يجعل المغرب وأوربا عرضة لمخاطر مرتبطة بالجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، وتقاطعاتها العضوية مع الظاهرة الإرهابية. ناهيك عن كون المحيط الإقليمي الراهن، الموسوم بالمتغيرات السياسية والأمنية في دول الجوار بشمال أفريقيا، وبعض دول الشرق الأوسط، مفتوحا على التحديات الأمنية في منطقة الساحل والصحراء، المتصلة بشكل مباشر بالأمن الاستراتيجي للمملكة المغربية والقارة العجوز، سيما بعد أن أصبح تنظيم "داعش" الأخطبوطي يسعى للتمدد جغرافيا وترابيا إلى المغرب، وأصبح على أبواب أوربا، بعد أن وجد لنفسه موطئ قدم في مستنقع ليبيا. ثانيا: ثمة جرائم لا تقل خطورة عن الإرهاب، وهي لصيقة به، وقد تكون وجهه الخفي، وتتمثل في الهجرة السرية، والاتجار الدولي للمخدرات، والجرائم الاقتصادية والمالية. جرائم تزداد خطورتها في المغرب وعلى أوربا، بالنظر إلى موقعه الجيو–استراتيجي المتاخم للشريط الجنوبي للقارة العجوز، والممتد على طول الشمال–الغربي لأفريقيا. ثالثا: لقد اكتسب المغرب ما يكفي من الخبرات في مجال محاربة التنظيمات الإرهابية، والتي يعمل دون توقف، على تطويرها، مستفيدا من كفاءاته الذاتية، ومن التجارب المريرة التي عاشها مبكرا مع الإرهاب، منذ تسعينيات القرن الماضي، منذ أن استهدفت الأحداث الإرهابية، سنة 1994، فندق أطلس–أسني في مدينة مراكش. وهذا ما جعله يحظى بجهازين استخباراتي وأمني قويين، فاقا وتفوقا حتى على أقوى الأحهزة الاستخباراتية والأمنية الغربية، وفي دول الجوار، شمال أفريقيا. ومن تجليات التفوق الاستخباراتي والأمني المغربي، على سبيل المثال، أن كانت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية أوقفت، بتعاون وثيق مع المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، الأربعاء 15 أكتوبر 2014، بمطار محمد الخامس الدولي بالدارالبيضاء مواطنا مغربيا مقيما بفرنسا ( ن. ر.)، بمعية صغيرتيه ليلى وأسيا اللتين أنجبهما من المواطنة الفرنسية (فاليري ر.)، وكذا، متطوعة مغربية كان ينوي عقد قرانه بها عن طريق عقد عرفي. وكان يعتزم السفر إلى تركيا، بغاية الالتحاق بصفوف التنظيم الإرهابي "داعش"، بعد أن قرر مغادرة بلد إقامته، باعتباره أرض "كفر". وكان الإرهابي المقيم بمنطقة تولوز في فرنسا، معروف بتشبعه بالفكر المتطرف. حيث سبق أن أوقفته السلطات الفرنسية، وأخضعته لتدابير المراقبة القضائية، بتهمة التحريض على الأفكار المتطرفة ذات الطابع التكفيري. وتشكل هذه العملية، إلى جانب عمليات أخرى، دليلا ماديا على يقظة الأجهزة الاستخباراتية والأمنية المغربية، وفعاليتها في مواجهة التهديدات الإرهابية، وذلك على خلاف أجهزة استخباراتية وأمنية عريقة في دول متقدمة، كبلجيكا أو فرنسا التي وجدت صعوبة في رصد تحركات المنتمين للمنظمات الإرهابية، وضبط قنوات التمويل واللوجستيك، التي يعملون وفقها. وكدليل على الفشل الذريع الذي منيت به السلطات الفرنسية، عجزها عن توقيف 3 متطرفين فرنسيين، قامت السلطات التركية بترحيلهم، سنة 2014. إذ استطاعوا الولوج إلى التراب الفرنسي، دون أن تتمكن مصالح الاستخبارات والأمن من توقيفهم، رغم كونهم مبحوثا عنهم على الصعيد الدولي (...). رابعا: لقد أصبح المغرب نموذجا ومرجعا للأجهزة الاستخباراتية والأمنية العالمية، في محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة. واستطاع أن يفرض نفسه في الساحة الدولية. ما جعل العاصمة الرباط قبلة للعالم. وقد قام مؤخرا الوزير الأول ووزير الداخلية البلجيكيان، في إطار التعاون الأمني، والاستفادة من خبرات المغرب، بزيارة ميدانية إلى مختبر "مديرية نظم المعلوميات والاتصال والتشخيص" (DSITI)، التابعة للمديرية العامة للأمن الوطني. حيث اطلع المسؤولان الحكوميان البلجيكيان على مختلف المراحل المتعلقة بإنجاز المكونات الخاصة ببطاقة التعريف الوطنية، والتي يعتبر المغرب من بين الدول المتقدمة عالميا في ضبط وتخزين المعلومات الخاصة بالمواطنين الذين يتوفرون على بطاقة التعريف الوطنية، وكذا، تكنولوجيا البصمات الوراثية. ما يساعد على تبادل المعلومات على الصعيدين الوطني والدولي. الشيء الذي لا تتوفر عليه بلجيكا ومصالحها الأمنية. خامسا: لقد ظهرت المملكة المغربية ك"صديق حقيقي"، بعد أن وفرت معطيات ومعلومات دقيقة حول الخلايا "الجهادية" في أوروبا. كما كانت حذرت بلجيكا، قبل أسبوع، من حدوث هجمات إرهابية وشيكة على أراضيها. ويؤكد ذلك أن المغرب أصبح "شريكا استراتيجيا" لأوربا في مجال محاربة الإرهاب والتطرف. وهذا ما شكل سببا كافيا لكي ينوه الرئيس الفرنسي (فرونسوا هولاند)، ورئيس الوزراء البريطاني (دافيد كاميرون)، وملك بلجيكا (لويس فيليب ليوبولد ماري)، بالمملكة المغربية، ويقدموا الشكر والإطراء للعاهل المغربي محمد السادس. سادسا: تعتبر الأوسمة الرئاسية والملكية التي منحتها دولتان أوربيتان (فرنسا وإسبانيا)، من أكبر دول الاتحاد الأوربي، لعبد اللطيف الحموشي، المدير العام لللمخابرات المدنية المغربية، ثاني أقوى جهاز استخباراتي في المغرب، بعد "المديرية العامة للدراسات والمستندات" (دجيد)، التي يرأسها محمد ياسين المنصوري، (تعتبر) اعترافا بالدور المركزي والفاعل للمغرب وجهازيه الاستخباراتي والأمني، في "الحرب العالمية" على الإرهاب والتطرف، الذي بات يتهدد أوربا. وبالمناسبة، وقع رئيس الجمهوية الفرنسية (فرونسوا هولاند)، في ال5 يناير 2016، على مرسوم رئاسي، يقضي بتوشيح عبد اللطيف الحموشي بوسام الشرف من درجة ضابط. وكان الرئيس الفرنسي السابق (نيكولا ساركوزي)، منح المسؤول الاستخبارتي المغربي (عبد اللطيف الحموشي)، وسام جوقة الشرف من درجة فارس. وهما وساما شرف انضافا إلى وسام كانت منحته إياه ملكة إسبانيا.