حسب الرواية الرسمية: خلية (طارق بن زياد) الجديدة تقع تحت إمرة مقاتل مغربي مقيم في معسكر للقاعدة بمالي، وتتوفر على أسلحة عُثر عليها بثلاثة مواقع بمنطقة أمغالا، على بعد 220 كلم من مدينة العيون التي كانت مسرحاً لأحداث دامية قبل أسابيع قليلة. الأسلحة المعثور عليها تتكون من رشاشات كلاشينكوف ومسدسات رشاشة وقاذفات إر بي. جي وذخيرة حية. والمعلومات عن وجود الخلية تمَّ استقاؤها من أفراد كانوا يحاولون التسلل إلى التراب الجزائري لتلقي تدريبات في معسكرات القاعدة، استعداداً للقيام بهجومات على مصالح أمنية ومصالح أجنبية بالمغرب، وبأعمال سطو على مؤسسات مالية لتوفير وسائل التمويل الضروري للخلية الإرهابية. رافق الإعلان عن تفكيك الخلية حديث عن وجود علاقة عضوية بينها وبين جبهة البوليساريو. قبل ثلاثة أسابيع من الإعلان عن الخلية الجديدة، كان قد أُعلن عن تفكيك خلية إرهابية أخرى، مشكلة من ستة أفراد، كانت تخطط للقيام بتفجيرات بسيارات مفخخة. وقبل التفجيرات الانتحارية ل16 ماي 2003، كان يتم الإعلان عن اكتشاف وتفكيك بعض الخلايا النائمة. لكن بعد التفجيرات المذكورة، جرت حملة اعتقالات واسعة جداً، طالت الآلاف من الأشخاص، وجرت محاكمات بالجملة. ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم، أصبحنا أمام مسلسل لا ينتهي من أخبار الإعلان عن اكتشاف خلايا وشبكات إرهابية. وأفادت بعض المصادر أن عدد الخلايا المفككة بلغ 60، بينما أكدت مصادر أخرى أنه تجاوز 80 وقارب المائة. أي أننا في المغرب نكتشف خلية أو شبكة إرهابية تقريبا مرة كل شهر في المتوسط، إلى درجة أن بعض الأخبار عن هذه الاكتشافات غدت مألوفة وعادية، ولا تعقبها تحليلات، ولا تسترعي نظر الملاحظين. بل إن وسائل الإعلام العمومية السمعية البصرية أضحت تمر على الأمر مر الكرام، وتصنفه في خانة الحوادث العادية التي لا تحتاج إلى أي تعليق أو متابعة تحليلية. يُعلن في المغرب عن تفكيك خلية إرهابية، ويُقال إنها كانت تخطط لتفجير مؤسسات عمومية وتنظيم هجومات مسلحة، ولا نرى اجتماعاً طارئا لمجلس الحكومة أو مجلس الوزراء، ولا نرى مداولات معمقة في البرلمان، بل لا توضع القضية في أكثر الأحيان كنقطة في جدول أعمال الاجتماعات الخاصة بالجهاز التنفيذي، كما لو كان الأمر بسيطًا وعادياً وجزءاً من الحياة العامة في أية دولة من دول العالم. هل ندرك حقيقة ما معنى أن نُوجد في بلد يجري فيه اكتشاف الخلايا الإرهابية بمعدل واحدة كل شهر، وأحياناً لا يفصل ما بين إعلانين إلا حيز ثلاثة أسابيع. هذا بكل تأكيد شيء خطير، ويدعونا إلى التساؤل التالي: لماذا لا يقع هذا في أغلب بلدان المعمور، بما فيها أحيانًا تلك التي تمزقها نزاعات مزمنة؟ ولماذا لا يُوضع هذا الأمر الخطير على طاولة النقاش الوطني؟ في حالة الخلية الأخيرة، لاحظنا أن السلطات العمومية قررت أن تسلط عليها من الأضواء ما لم تسلطه على غيرها، وأن تدلي بالكثير من التفاصيل، وأن تنقل الصحافيين إلى أماكن اكتشاف الأسلحة، وأن توجه الأنظار نحو الحدث. وذلك ربما بسبب وجود مصلحة رسمية ما في إبراز قيام علاقة بين البوليساريو وتنظيم القاعدة، وبالتالي محاولة إدراج نضال المغرب من أجل استكمال وحدته الترابية في نسق الحرب العالمية على الإرهاب. في الماضي، دافع المغرب الرسمي عن أطروحة انتماء الحرب في الصحراء إلى صلب المواجهة بين المعسكر الشيوعي والعالم الحر، وعن كون المغرب يسدي خدمة ثمينة لهذا العالم، لأن محاربة البوليساريو هي في نفس الوقت صد للمد الشيوعي في المنطقة. وهكذا، قُدمت البوليساريو للعالم كحركة ماركسية تريد أن تُصَدِّرَ الثورة، وأن تهدد أسس وأركان الأنظمة الموالية للغرب. واعتقد بعض الشباب اليساري المغربي آنذاك أن في الإمكان تحويل منطقة الصحراء إلى قواعد ثورية حمراء. واليوم، فإن الاقتناع المشروع بالتأثير السيئ لعدم حل مشكل الصحراء على الأمن والاستقرار في المنطقة لا يجب أن يدفعنا بالضرورة إلى تبني «الاجتهاد» القائل بوجود صلات تعاون وتفاهم وتنسيق بين جبهة البوليساريو وتنظيم القاعدة. فهذا الأخير تنظيم عالمي لا يمكن أن يجازف بلد كالجزائر باستعماله ضد المغرب أو بالتحالف معه أو تسهيل تحالف الغير معه أو السكوت عليه، خاصة أن الأمر يتعلق ببلد مستهدف من طرف ذلك التنظيم، إلا إذا سلَّمنا بأن جبهة البوليساريو تصنع ما تريد على أرض الجزائر، وتمتلك حرية التصرف المطلق، ولا تكترث بمصالح الجزائر والتزاماتها الدولية، وتقبل بممارسة لعبة خطيرة ورعناء تصيب صورة الجبهة نفسها بأوخم الأضرار وأسوأ العواقب. المغرب مثل العديد من البلدان في العالم مهدد بالخطر الإرهابي، ويمكن أن ينتج انتحاريين بسهولة. والدليل على ذلك هو هذا العدد الوافر من المغاربة الذين يثبت باستمرار تورطهم في أعمال إرهابية تقع هنا وهناك. كما أن الحقل المغربي يتوفر على منابت للفكر التكفيري والجهادي الذي يضع الأنظمة والمجتمعات الآخذة ببعض أوجه الحياة العصرية في خانة الأعداء الواجب قتالهم. كما أن الظروف الاجتماعية ومظاهر الظلم والتهميش تسهل استقطاب شرائح واسعة من الشباب المغربي وتعبئتهم وتجنيدهم من طرف الشبكات الإرهابية. ولكن ذلك لا يمنح الأجهزة المسؤولة عن أمننا الجماعي حصانة ضد النقد والمتابعة والمراقبة والجزاء. نشعر أحيانا في المغرب بأن المطلوب منا هو أن ندع تلك الأجهزة تقوم بواجبها دون مشاكل أو وجع الرأس، وأن نفوض إليها بدون قيود سلطة تحديد مصيرنا الأمني على مقاس قناعات وتوجهات أفرادها، وأن علينا أن نلتزم الصمت والمسايرة. إننا في المغرب، وكأي بلد، لا يمكن إلا أن نقدر الجهد المبذول من طرف الساهرين على أمن المغاربة جميعاً. ولكن هذا لا يمنعنا من أن نطالب بأن تكون لنا ذات الحقوق التي لمواطني البلدان الديمقراطية على أجهزتها الأمنية. فعندما يتم اكتشاف هذا العدد الهائل من الخلايا الإرهابية، وبهذه السرعة، فإن ذلك يسمح لنا بالتساؤل المشروع عما إذا كان الأمر يتعلق بخلايا نائمة أو خلايا «ما قبل نائمة» أو «ما قبل الخلايا». وبمعنى آخر، فإننا نريد أن نعرف حدود الحرب «الاستباقية» وضوابطها، ونريد أن تتوفر كافة الضمانات لكي لا تتحول هذه الحرب إلى حرب على الحرية. لا يمكن أن تتحول الأجهزة الساهرة على أمننا إلى سلطة مقدسة، حتى وإن كانت حماية أمن الوطن والمواطنين وظيفة نبيلة ورسالة سامية. لقد لاحظنا بعد 16 ماي كيف اختلت شروط المحاكمة العادلة بالنسبة لمئات المواطنين الذين مثلوا أمام محاكمنا. لا ندري كم من الأبرياء ساقتهم الحملات الأمنية إلى السجون بدون مسوغ، والخطاب الملكي أفاد بحصول تجاوزات. أما تقارير المنظمات الحقوقية، فقد قدمت من المعطيات، ما يكفي لكي تُراجع آثار المسلسل القضائي الذي أعقب 16 ماي برمتها. فتلك الآثار عادت بنا إلى الوراء، وحولت عمل هيأة الإنصاف والمصالحة إلى عبث. فإذا كان الهدف الأمثل من كل مسلسل للعدالة الانتقالية هو حماية المستقبل أساساً، فإن ما وقع بعد 16 ماي من تعذيب وتوسع في دائرة الاعتقال وتوسيع في دائرة التجريم وإهدار للضمانات الدنيا، وشطط في عمل جهة الاتهام والبحث، وما تمتعت به الأجهزة الأمنية والاستخباراتية من امتيازات وصلاحيات واسعة، يجعلنا نقر بدون تردد أن مستقبل حقوق الإنسان في المغرب غير محمي. وعندما نتأمل مشهد محاكمة المعتقلين الستة، ونرى كيف حصلت خروقات خطيرة في محاكمة تابعها الرأي العام الحقوقي عن كثب، فإننا نُكَوِّنُ من خلالها فكرة عما قد يكون جرى في محاكمات لم تحظ بنفس القدر من المتابعة. فإذا كان المعتقلون الستة قد أُنزلت بهم عقوبات عن وقائع أثبت الدفاع أن بعضها كان موضوع متابعات سابقة، ومنفذوها يقبعون بالسجون، فيعلم الله ماذا حصل في الملفات الأخرى! بعد أكثر من نصف قرن على الاستقلال، لا نستطيع الجزم بأن هناك مكاسب نهائية في مجال حقوق الإنسان، وأن ما حصل في الماضي لن يحصل أبداً. ويكفي هنا أن نذكر بأن الضابط الذي قاد عملية نقل عشرات السجناء إلى تازمامارت لا زال يرأس جهازاً أمنيا تغطي صلاحياته نصف تراب المملكة. ولهذا، فإننا بصدد عمليات اكتشاف وتفكيك عشرات الخلايا الإرهابية المعلن عنها، نتخوف من أن تنطوي هذه العمليات على مصادرة لحقوق مشروعة أو لجوء إلى استعمال ردع وقائي لا يجيزه القانون أو توسع مفرط وغير مقبول في ممارسة الدولة لحق العقاب، خاصة أن المنظمات الحقوقية المغربية لا تتوفر على إمكانيات المتابعة الدقيقة واليومية لكل هذا العدد الهائل من الملفات، وأن ممثلي الشعب المفترضين لا يمارسون عملياً أية محاسبة جدية لعمل الأجهزة الأمنية وفق الآليات المعروفة عالمياً، وأن الحكومة لا تشرف على عمل تلك الأجهزة. وبناء على ما سبق، فإن الإعلان عن اكتشاف خلية أو شبكة إرهابية بهذا الإيقاع الغريب، أي مرة كل شهر، يدفعنا تلقائيا إلى طرح فرضيتين اثنتين: - الفرضية الأولى هي أن تكون هناك مبالغة في المتابعة وفي إعطاء الوقائع، التي يكون المعنيون قد باشروها، وصف الأعمال الإرهابية أو المخططات الإرهابية. أي أن هناك ربما إرادة لتهويل الملف الأمني حتى يحتفظ الأمنيون بعدد من الامتيازات والسلط، وحتى نصبح في حالة طوارئ غير معلنة، وبذلك يتمكن مسؤولو الأجهزة الأمنية من تعزيز نفوذهم في النسق المؤسسي وتقوية عناصر تدخلهم وتوجيههم للحياة العامة وتعويق المسار الديمقراطي. في الكثير من البلدان، يحمل الأمنيون نزعة معادية للديمقراطية، لكن آليات المراقبة الشعبية تحول دون إنتاج هذه النزعة للكوارث والنكبات. وفي الكثير من الأنظمة غير الديمقراطية، يفضل الأمنيون التوسع في المتابعات واعتقال أكبر عدد من الناس الذين يحملون المواصفات النمطية للإرهابي المحتمل قبل أن ينتقل هؤلاء إلى الفعل. وهذه الوصفة المتشددة تضمن الأمن بوسيلة التعسف. وقد تتحرك الأجهزة الأمنية بوحي من نظرة تقليدية للأمن، فتعتبر مثلاً أن الأعمال التحضيرية، حتى وإن لم تستنفذ العناصر المحددة في النص القانوني للتجريم، فهي تُعَدُّ واقعيا بمثابة أعمال إجرامية. ليس معنى هذا أن الأجهزة المذكورة تفبرك كل شيء وتقدم سيناريوهات من نسج الخيال المحض، ولكنها في الكثير من البلدان تستغل فرصة وجودها أمام فاعلين حقيقيين وأسلحة حقيقية، لكي تسمح لنفسها بافتراض قيام علاقات إجرامية بينهم وبين كثير من الأفراد الذين لم يتخطوا عتبة الفعل الإرهابي. ولقد رأينا في المغرب، مثلاً، كيف أدى التأويل الذي قدمه القضاء في الماضي للنص الذي يُجَرِّمُ «المؤامرة»، إلى متابعة شباب على مجرد تكوين خلايا يدرسون فيها النظرية الاشتراكية وينسقون عبرها نضالهم النقابي والسياسي، وكيف تم اعتبارهم عناصر تخطط لقلب نظام الحكم. ورأينا أيضا كيف يتحول إهمال إيداع التصريح القانوني بتأسيس تنظيم معين إلى اعتبار هذا التنظيم أتوماتيكيا تنظيما سرياً يستهدف الاعتداء على أمن الدولة. وفي الكثير من الأحيان، تصبح «وسائل الإثباث» التي تُقدم في البداية على أنها أدلة دامغة –مثل وجود أسلحة- مجرد وسيلة من بين أخرى، قابلة للشك فيها، وافتراض التلاعب بها. ففي محاكمة بلعيرج، انتبه الدفاع مثلاً إلى أن الأسلحة المعروضة على المحكمة لا علاقة لها بالأسلحة التي عُرضت على الصحافة في ذات الملف، والتي نُشرت صورها على أوسع نطاق، فضلاً على أن تلك الأسلحة لم تُفحص من طرف خبير في الميدان مستقل عن جهة الاتهام، ليتأكد من صحة ما جاء في المحاضر بخصوص نوعها وتاريخ صناعتها ومدى استعمالها أم لا وطبيعة الأمكنة التي طُمرت فيها... الخ. كما أن المحامين مُنعوا من الاقتراب منها أو لمسها. - الفرضية الثانية هي أن يكون كل ما قيل رسميا عن هذه الخلايا والشبكات وعن خطورتها صحيح مائة في المائة، ولا تتدخل فيه أية اعتبارات أو حسابات من أي نوع كان. وفي هذه الحالة، علينا أن نعترف بأن المغرب محتاج إلى وقفة مع الذات، وعلينا كمجتمع وكدولة أن نبحث الأمر من جميع وجوهه، وأن نحاول فهم هذا الذي يجري بيننا، والتماس سبل التحرر من هذا المآل الدرامي، وتحديد المسؤوليات عن هذا الإنتاج الغزير والكثيف والقياسي للخلايا الإرهابية. أي أن علينا أن نفتح نقاشا وطنيا عاما تشارك فيه مختلف المؤسسات العمومية والمدنية التي بإمكانها المساهمة في حسن قراءة الظاهرة ورسم الحلول ومداخل العلاج. وعلينا أن نتحرر من المسبقات ومن اللغة التبريرية التي يجد فيها المستعملون لها وسيلة للدفاع عن أنفسهم ومراكزهم. إن مثل هذا النقاش لا يؤتي أكله كاملاً، إلا حيث تكون هناك ضمانة بأن بالإمكان إجراء تغيير في البرامج التي اعتُبرت مسؤولة عن ظاهرة ما أو تغيير في الأشخاص الذين اعتُبروا مسؤولين عن الظاهرة، وأن هذا التغيير لا يشكل أية عقدة للنظام السياسي، لأنه يمثل جزءاً من اللعبة الديمقراطية. الإعلان عن اكتشاف خلية إرهابية كل شهر، في زمن السلم، واقعة غير طبيعية تؤشر إلى وجود خلل كبير في دواليب الدولة أو بنيات المجتمع أو هما معا. ولذلك، فلا مجال لاستسهال الأمر ودفن رؤوسنا في الرمال... وفي انتظار النقاش الوطني العام والشامل، لا بأس أن توفر لنا وسائل الإعلام العمومية فرصة التعرف على وجهة نظر المحامين الذين سينتصبون للدفاع عن المتهمين في ملف الخلية الأخيرة وفرصة الاطلاع على رواية هؤلاء المحامين للأشياء. نقلا عن الحياة الجديدة