كتاب الأسبوع ... «انهيار الرأسمالية» لأولريش شيفر الطبقة الوسطى هي التي تذوق مرارة النظام الرأسمالي المحرر من القيود الحسين النبيلي يعتقد الكثير عن خطأ والبعض بنية التمويه وإخفاء شمس الحقيقة بالغربال، معتبرين أن المغرب بعيد عن تأثره بالأزمة الاقتصادية العالمية، ولعلنا حين نستحضر حادثة الأتربة الحمراء التي اكتشفتها صباح ذات يوم انجلترا على أسطح بناياتها وسياراتها في إحدى سنوات التسعينات من القرن الماضي، حيث أكدت المختبرات التي حللت تلك الأتربة أنها انتقلت عبر الرياح من الشرق العربي، الشيء الذي يؤكد فعلا أن العالم قرية صغيرة جعل مساحتها تتقلص يوما عن يوم بسبب اتساع التكنولوجيا الحديثة والإنترنيت، فما بالنا بأزمة اقتصادية عالمية بلغ تأثيرها مختلف مناطق المعمور جعلت العديد من الدول تعيش أزمة خانقة وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوربا كانت آخرها اليونان، مما اضطر العديد من هذه الدول نهج سياسة التقشف في اقتصادياتها بالرغم من احتجاجات شعوبها. عن الكاتب و الكتاب صدر كتاب انهيار الرأسمالية ” أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود” شهر يناير من سنة 2010 عن سلسلة عالم المعرفة ، وهو من تأليف أولريش شيفر من مواليد 1967 درس الاقتصاد في جامعة مونستر بألمانيا والصحافة بواشنطن ثم عمل محررا اقتصاديا بمجلة دير شبيغل الألمانية، ويشرف حاليا على تحرير الصفحة الاقتصادية في الصحيفة الألمانية. ترجم هذا الكتاب إلى العربية الدكتور عدنان عباس علي من مواليد 1942 ِيعمل حاليا أستاذا في عدد من الجامعات العربية حاصل على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعة فرانكفورت وجامعة دارمشتاد سنة1975 وله مجموعة من الدراسات والكتب والبحوث في الاقتصاد منها تاريخ الفكر الاقتصادي والأسس العامة لنظرية النمو الاقتصادي.. تكدس الأموال في أيدي قلة مقابل سواد أعظم يأتي هذا الكتاب لإماطة اللثام عن كثير من القضايا الاقتصادية التي تتشابك فيما بينها لتنعكس سلبا على الكثير من الميادين الاجتماعية الأخرى وخاصة التعليم الذي يعد الركيزة الأساسية في تكوين أي مجتمع كيفما كان نوعه ومستوى اقتصاده، وجدير بالذكر أن فكرة هذا الكتاب كما يشير إليها الكاتب في مقدمته جاءت في ربيع سنة 2008 حيث كانت الأزمة الاقتصادية في بداياتها الأولى والبورصات مازالت لم تتأثر بزلزال الأزمة بعد. يكشف الكتاب في تناوله الظاهرة عن الرؤوس الحقيقية التي نظرت بشكل مباشر لاقتصاد جديد يعتمد بالأساس تحرير السوق الذي كان سببا مباشرا في ظهور الأزمة التي عصفت بكثير من الميادين، يقول أولريش في كتابه هذا ” يكفي إلقاء نظرة سريعة على البيانات المخزنة في جهاز كمبيوتر ماركوس غرابكا الخبير لدى المعهد الألماني لكي نلمس الهزة العظيمة التي خلفها اقتصاد السوق المحررة من القيود في المجتمع الألماني، حيث أصبح عشرة في المائة من المواطنين المنعمين تحقيق ارتفاعات متسارعة لمدخولهم، بقي لزاما على العشرة في المائة من الفئات الموجودة في أدنى السلم الاجتماعي تدبير متطلبات العيش بشكل أقل بكثير عما كانوا عليه في مطلع التسعينات، وفيما تراكمت يقول أولريش لدى العشرة في المائة من المواطنين الموجودين في أعلى السلم الاجتماعي، ثروة تساوي ستين في المائة من ثروة المجتمع التي تتكون من أموال نقدية وعقارات ظل نصف المجتمع لا يمتلك شيئا منها سوى القليل” وهنا يبدو عمق المشكل الذي أصبحت تتخبط فيه البشرية، إذ لا يمكن لأحد مهما كان أن يجنب نفسه من هذا الوضع فألمانيا التي تمثل المجتمع الذي ترعرع فيه الكاتب وقدمه كمثال لا يمكن للملاحظ إلا أن يسقطه على واقعه ولو ببعض من الاختلافات البسيطة جدا، فحقيقة ما ذكره أولريش لا يجعل أي أحد يرزح تحت نظام رأسمالي إلا أن يلامس حقيقة تراكم الثروات في أيدي طبقة معينة دون غيرها، فالفوارق الطبقية لا يمكن أن تغيب عن النظر فهناك من يركب سيارات فخمة ويتوفر على أكثر من رصيد بنكي و منزل وقصر فيما السواد الأعظم يعاني من الفقر وشظف العيش. انعكاس الأزمة على الطبقة الوسطى يرى أولرايشر في كتابه “أن الطبقة الوسطى على وجه الخصوص هي التي ستذوق مرارة هذا التحول العظيم- أي النظام الرأسمالي المحرر من القيود- إنها القلب النابض في المجتمع، فهي الركيزة التي يستند إليها الاقتصاد الوطني، وهي الحصيلة التي أفرزها اقتصاد السوق أصلا، لكن هذا القلب النابض بالنشاطات الاقتصادية أمسى ينزف دما منذ سنوات عديدة، فبينما كان عدد أبناء الطبقة الوسطى سنة 2000 يبلغ في ألمانيا 49 مليون مواطن، تراجع هذا العدد بعد سبع سنوات من هذا التاريخ بمقدار بلغ 5 ملايين مواطنا، أي تراجع بأكثر من عشرة في المئة، وجزء ضئيل من هؤلاء استطاع أن يرتقي إلى مرتبة أعلى، والجزء الأعظم منهم انحدر إلى مصاف الثلث الأخير من السلم الاجتماعي. وضيع هؤلاء الخاسرون فرص عملهم أو أنهم ضحوا بجزء من أجرهم، أو باعتهم شركاتهم لشركات أخرى تدفع أجرا لا يكاد يسد الرمق. وإذا كان أبناء الطبقة الوسطى لم يتنعموا بنعم الازدهار الاقتصادي في كثير من الأحيان، فإنهم صاروا الآن المواطنين الذين يعانون المصائب..” هذا واقع ألمانيا فهل نحن بمنأى عن الأزمة؟ الجواب عن هذا السؤال نجده في التقارير الرسمية التي تشير إلى انتقال معدل البطالة من 9,6 في المائة خلال النصف الأول من سنة2009 إلى 10,0 في المائة خلال نفس الفصل من سنة 2010. وحسب مذكرة إخبارية أصدرتها المندوبية السامية للتخطيط، حول وضعية سوق الشغل بالمغرب خلال الفصل الأول من سنة 2010، عرف عدد العاطلين في المغرب تزايدا ب 4,5 في المائة على المستوى الوطني منتقلا من 1.090.000 عاطل خلال الفصل الأول من سنة 2009 إلى 1.139.000 خلال فس الفترة من سنة 2010 ، أي بزيادة قدرها 49 ألف عاطل ،ناتج عن التحاق 51 ألف ناشط من سكان المدن بصفوف العطالة رغم حصول ألفي فرد على عمل بالوسط القروي. وحسب وسط الإقامة، ارتفع معدل البطالة من 14,1 في المائة إلى 14,7 في المائة بالوسط الحضري ومن 4,7 في المائة إلى 4،6 في المائة بالوسط القروي. ويعود ارتفاع معدل البطالة إلى عجز سوق الشغل عن مواكبة التزايد المطرد في عدد السكان النشيطين، حيث بلغ حجم السكان البالغين من العمر 15 سنة فما فوق أكثر من 11 ألف شخص خلال الفصل الأول من سنة 2010 مسجلا تزايدا ب 1،0 في المائة مقارنة مع نفس الفترة من سنة 2009 ، بينما لم يتم يتجاوز عدد مناصب الشغل المحدثة ّ 68ألف منصب، منها فقط 7 آلاف منصب بالقرى والباقي بالمدن، واستفاد منها على الخصوص حاملو الشهادات العليا والمتوسطة.وانحصرت المناصب المحدثة على قطاعات “الفلاحة، الغابة والصيد” و”البناء والأشغال العمومية” و “الصناعة”، بينما عرف الشغل بقطاع “الخدمات” تراجعا ب 26 ألف منصب ناتج بالأساس عن تراجع التشغيل بأنشطة “الخدمات الشخصية والمنزلية و”الخدمات الاجتماعية المقدمة للمجتمع”، رغم ارتفاع حجم التشغيل على مستوى أنشطة “المطاعم والفنادق” وعلى مستوى “البنوك، التأمينات، الأنشطة العقارية والخدمات المقدمة للمقاولات” .ناهيك عن انخفاض تحويلات المهاجرين المغاربة سيؤثر سلبا على رصيد المغرب من العملة الصعبة. يبدو جليا من خلال هذه المعطيات أن شرارة الأزمة قد وصلت إلى تلابيب اقتصادنا الوطني، وهذا أكيد خاصة أن قراءة كتاب أولريش تجعل القارئ يلمس ذلك من خلال إسقاط ما يذكره الكاتب على واقعنا فمثلا يقول في الصفحة 12 ” إنهم يشاهدون بأم أعينهم كيف ينتقل الانهيار إلى القطاع الصناعي عامة، وإلى الطبقة الوسطى على وجه الخصوص, إنهم شهود عيان على الحيرة التي تنتاب الدولة وهي تبذل قصارى جهدها لوقف التدهور. إن أبناء الطبقة الوسطى يشعرون منذ سنوات عديدة بأن الركب قد تجاوزهم. وفي حين تتخلف الطبقة الوسطى عن الركب، تتكون ” طبقة عولمية” طبقة تنال أرقى تعليم وتحصل على أفضل الرواتب، طبقة وطنها العالم كله. إن انهيار أسواق المال يمكن أن يسحب البساط من تحت الطبقة الوسطى، وقد صار المواطنون ضحية انهيار لم يكن لهم دور في اندلاعه، انهيار لا قدرة لهم على النجاة منه” ويقول في الصفحة الموالية باقتضاب ” ..وأمست هذه الأزمة تنشر ظلالها على أناس ظنوا حتى حين أنهم بمنأى عن المخاطر.. فعدد القوارب التي تهلك غرقا في خضم عاصفة العولمة في تزايد مستمر.” ويصور واحد من أشهر الاقتصاديين في الولاياتالمتحدةالأمريكية لورنس سامرز، واقع الحال فيقول بالحرف الواحد : ” إننا نشهد فزعا من اقتصاد السوق المحررة من القيود ما كان له قط، لا قبل انهيار جدار برلين ولا في الزمن السابق على انهياره” ” وفي السياق هذا كله، ارتقى ملايين المواطنين إلى مراتب أعلى: ارتقوا من الشريحة الدنيا إلى الوسطى، ومن الشريحة الوسطى إلى الشريحة الأعلى. ” تعريف الطبقة الوسطى في المغرب يقرب كاتب مغربي مفهوم الطبقة الوسطى بقوله :”إن محاولة التركيز على مفهوم الطبقة و خاصة الطبقة الوسطى يكتسي أهمية قصوى لما أصبحت تلعبه هذه الطبقة من أدوار مركزية في جميع المجتمعات الحية، خاصة مشاركتها الفعالة والمؤثرة في دورة الإنتاج المادي والرمزي بما يعنيه ذلك مساهمتها المتعددة وعلى جميع المستويات سواء الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية في خلق و إغناء حركية مجتمعية تتأسس على مدى و حجم مساهمتها في الجانب الاقتصادي خاصة مسألة توزيع الثروة و نصيبها منها، وكذلك مساهمتها من خلال وعيها الطبقي المتقدم واستقلاليتها التامة عن التبعية للدولة في إغناء الحياة السياسية وإثرائها، دون أن ننسى رهانها على مشروع ثقافي تنويري ..قد لا نبالغ إذا قلنا بأن الطبقة الوسطى في المغرب تفتقد لوجودها الاعتباري المؤسس كما أشرنا على الوعي الطبقي المتقدم والسلوك النضالي والتأثير المباشر والفعلي في صناعة القرار السياسي والاجتماعي الأمر الذي يجعل منها عائقا موضوعيا أكثر منها طبقة موجودة بالفعل تمارس وجودها وكينونتها لتحقيق التغيير المنشود، وعلى أنها قد تكون القاطرة لتغيير بؤس الواقع و تغيير المجتمع برمته. و انطلاقا من هذا الوضع المفبرك يتبدى وبشكل لا يقبل النقاش أن هذه الطبقة لا تمتلك أيا من المقومات التي تحدثنا عنها، فلا هي طبقة منتجة بما يعنيه الإنتاج هنا من جهة أولى تقديمها لمنتوج مادي و رمزي يختلف عن منتوج الدولة الايديولوجي ومن جهة ثانية استقلاليتها بمنتوج خالص يثبت براءة منتوجها و بالتالي يثبت براءتها من أن تكون هي ذاتها منتوجا خالصا وأحد الأعمدة القوية و الصلبة لتثبيت واستمرارية الدولة، وما يؤكد قولنا هذا هو أن أغلب المنتمين لهذه الطبقة لا يساهمون في دورة الإنتاج بأي شيء يمكن أن ننعته أنه منتوج وسلعة تتمتع بالجودة والبراءة الفكرية أو الصناعية التي تجعلها قابلة للتداول في بورصة القيم بل إن السمة الغالبة على بنية هذه الطبقة بمختلف مكوناتها ومختلف الأنشطة القطاعية التي تمارسها أنها لا تخرج عن الطابع الخدماتي أي القيام بخدمة ما مقابل راتب شهري مما يجعلها مجرد طبقة استهلاكية موجهة لتغطية الاستهلاك الماكرو اقتصادي العالمي وذلك تبعا لتوصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي القاضية بضرورة خلق طبقة وسطى استهلاكية لتصريف منتجات الدول الصناعية الكبرى.. “.أما أولريش شيفر فيستفيض في توصيف النموذج الجديد الذي أتى على الأخضر واليابس قائلا : ” .. فعدد القوارب التي تهلك غرقا في خضم عاصفة العولمة في تزايد مستمر.. إن عدد المواطنين النافرين من اقتصاد السوق في تزايد مستمر. أضف إلى هذا أن هؤلاء المواطنين قد صاروا يتحفظون عن الإطار السياسي المناسب لاقتصاد السوق، وعن الديمقراطية أيضا؛ وأنهم يشيحون بوجوههم عن الأحزاب السياسية، ويتخلفون عن المشاركة في الانتخابات، ويعتزلون المجتمع. فهم يشعرون بأنهم باتوا بلا عون وسند، باتوا يشعرون بأن الدولة تعير اهتمامها للآخرين فقط وليس لهم، وبأن المشاريع الصناعية لم تعد ترى مأواها في الوطن، بل في كل أرجاء المعمور، وبأن السوق التي يفترض فيها أن تحقق لهم الرفاهية، قد أخذت تتصرف في كثير من الأحيان، بوحشية لا تعرف الرحمة” وهنا لابد من الإشارة في هذا التوصيف إلى ضرورة وضع خط أحمر وغليظ على جملة عاصفة العولمة..و جملة يتخلفون عن المشاركة في الانتخابات.. لنطرح السؤال هل نحن لسنا من مكونات أرجاء المعمور؟ وفي الصفحة ذاتها من الكتاب يضيف شيفر مقتبسا ما أكده بالحرف الواحد أشهر الاقتصاديين في الولاياتالمتحدة لورنس سامرز:(( إننا نشهد فزعا من اقتصاد السوق المحررة من القيود، ما كان له وجود قط لا قبل انهيار جدار برلين ولا في الزمن السابق على انهياره)) لأن اقتصاد السوق المتكفلة بالرعاية الاجتماعية استعيض عنها بنموذج جديد يتصف بالوحشية والأنانية، ويطلب من بني البشر ما لا طاقة لهم به : نموذج اقتصاد السوق المحررة من القيود، فقواعد هذا النموذج لا تحددها الدولة، بل تمليها المشاريع العملاقة وأسواق المال. وفي تقريبه أكثر للظاهرة يقول شيفر:” ففي الثلاثين عاما المنصرمة كفت الدولة ومعها السياسيون المنتخبون وفق قواعد الديمقراطية من التدخل في عمل اقتصاد السوق تاركة قوى السوق تصول وتجول بالنحو الذي يطيب لها، أي أن الدولة والسياسيين تركوا الاقتصاد الوطني توجهه حفنة رجال تهيمن على الشركات العملاقة والمصاريف و لا تتمتع بأي شرعية ديمقراطية. ومنذ ذلك الحين أطلقت الرأسمالية العنان لطاقاتها الجامحة، لطاقاتها المعظمة للرفاهية من ناحية، والمدمرة لوحدة المجتمع من ناحية ثانية، إن هذه الطاقات غيرت نمط حياتنا بنحو متسارع حقا وحقيقة” يبدو كلام شيفر أنه لا يحتاج إلى أي تعليق بل إنه غني عن البيان، ليبقى السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح شديد هو ماذا عن التعليم القطاع الحيوي في هذا الزحام الاقتصادي المتوحش؟ في معرض حديثه قبل أن يعرج على مشكل التعليم أكد شيفر أن العلاقة بين اقتصاديات العالم متشابكة ومرتبطة بشكل دقيق فيما بينها، واصفا أن الأزمة لم يسلم منها حتى أولئك الذين كانوا يعتبرون أنفسهم في مأمن منها. ” إن العالم الجديد الذي نحيا في كنفه يختلف عن العالم الذي عرفناه قديما، فهو عالم يصعب علينا إدراك كنهه إنه عالم مثير للحيرة والارتباك، فكل شيء فيه له علاقة وثيقة بالأشياء الأخرى: البورصة في شنغهاي على علاقة متينة بمثيلتها في نيويورك، والقروض والعقارات الأمريكية على صلة وثيقة بالمدخرات الألمانية، وفرص العمل في فيتنام وثيقة العلاقة بفرصة العمل في برلين أو في ولاية بافاريا الألمانية، والين الياباني على ارتباط متين بالعملة الصينية.. فما يحدث في آخر طرف من العالم نلمس أثره لدينا خلال ثوان معدودة.. فمن يعتقد أنه قد اجتاز الصعاب وحقق ما كان يحلم به قد يرى نفسه بين ليلة وضحاها في زمرة الخاسرين ثانية؛ وذلك لأن الرأسمالية العولمية تقضي على فرص العمل بلا هوادة.. الأزمة تضرب عدة طبقات في المجتمع وعلى رأسها طبقة ” الوحل” ؟!! يضيف شيفر في مقاربته هذه قائلا : ” ..وهكذا بنحو مفاجئ أمست الجوانب البشعة في اقتصاد السوق لا تلاحق فقط أصحاب الدخول المنخفضة والعاملين غير المؤهلين تأهيلا جيدا بل تنشر ظلالها على الجمهور العريض أيضا. وإذا كان أبناء الطبقة الوسطى قد حققوا لأنفسهم الكثير، فإنهم يخشون في اليوم الراهن أن يخسروا مكاسبهم ثانية ( دار للسكن، فرصة العمل، الثروة ومكانتهم الاجتماعية..) وبينما ينحدر البعض صوب الهاوية ببطء وبنحو يكاد يكون غير ملحوظ، يسقط الآخرون في الهاوية بنحو مفاجئ وسريع. من ناحية أخرى تكاثرت العقبات التي تحول دون ارتقاء أبناء الطبقة إلى مصاف أعلى في السلم الاجتماعي”. وفي قراءتنا لهذا الواقع يبدو واضحا أن طاحونة العولمة لم تتركنا بمعزل عن لولبها الحاد خاصة في إشارته هذه : ” ففي اليوم الراهن لا تضيع منا فرص العمل البسيط فقط، بل فرص العمل المخصصة للعاملين من ذوي الاختصاصات ذات الأهمية الكبيرة، علما أن فرص العمل هذه إما تنتقل إلى العالم الخارجي وإما تلغى كلية، وإذا كانت الأجور ترتفع بوتيرة معينة فإن الأسعار في المتاجر ترتفع بوتائر أسرع” وهذا ما يحدث في واقعنا حيث كلما تمت الزيادة في رواتب الموظفين والعمال واكبتها زيادات كبيرة في الأسعا،ر تجعل هؤلاء لا يبرحون مكانهم متسائلين عن جدوى الزيادة مقابل اشتعال في الأسعار؟ !! لتبقى العملية ما تم تقديمه باليد اليمنى يؤخذ باليسرى وهكذا دواليك.. ويصف شيفر خطاب المصانع والشركات السائد ب”الفظ” لأنه يزداد فظاظة في الضغط الذي يمارسه قادة ومديرو المشاريع على العاملين، مشيرا إلى عدد من الشركات التي سرحت عمالها بالرغم من أنها حققت رقم معاملات جيد جدا، بدعوى التخلص من “طبقة الوحل” “.. وبرر رئيس سيمنز بيتر لوشير تسريح الأيدي العاملة بحجة مفادها أن الشركة قررت التخلص من طبقة الوحل المتراكمة. ما طبقة الوحل التي يريد قادة الشركات التخلص منها؟ سؤال يطرحه شيفر، ليجيب عليه بقوله: ” المقصود بها أولئك الأفراد العاديون المستخدمون في الأقسام الإدارية، إنهم مديرو الأقسام والساهرون على الأعمال المكتبية اليومية، أي أنهم أولئك الذين يعملون في القيادية الدنيا والوسطى. ويجلس هؤلاء في المكاتب المكيفة وليس في مواقع الإنتاج الخانقة للأنفاس، إنهم يسهرون على أداء الأعمال الروتينية التي تحولت الآن إلى أعمال تنجز بالكومبيوتر، فهم يحجزون تذاكر السفر ويسددون فواتير الدين المستحقة، ويقبعون بالقرب من مراكز القوة والسلطان ولا علاقة مباشرة لهم بمواقع الإنتاج والأسواق في أغلب الأحيان. إن طبقة الوحل هذه موجودة في المصرف الألماني(( دويتشه بنك )) وفي شركة فولكس فاغن وفي مؤسسات التليكوم والبريد وسكك الحديد الألمانية. وفي وسع المرء أن يسمي هؤلاء بالشريحة الوسطى” ليجد السؤال شرعيته حول ما مدى قدرتنا على إسقاطه على واقعنا؟ التعليم المجس الحقيقي لنبضات قلب أي مجتمع كيفما كان نوعه. يقول شيفر في إحدى صفحات هذا الكتاب :” ونشرت إفرازات اقتصاد السوق المحررة من القيود ظلالها على حياتنا العائلية بهوادة كأنها ضيف غير مرحب به. فلكي يدخل أطفالنا معمعة السوق المعولمة بخطى أسرع، تعين عليهم أن يستوعبوا بنجاح مواد الدراسة الثانوية خلال ثماني سنوات وليس خلال تسعة أعوام كما كان مدرجا فيما مضى من الزمن. بهذا المعنى انحطت حقبة الشباب إلى سنوات تعليم مثيرة للتوتر والإرهاق، وهكذا لم تعد لدى التلميذ ساعات الفراغ الضرورية لتعلم العزف على البيانو أو ممارسة الرياضة؛ ففي المساء على التلميذ أن يبذل قصارى جهده لدراسة الموضوعات التي لم يستوعبها في النهار. وتنتقد الجمعيات والاتحادات ذات العلاقة بالشؤون الاقتصادية نظامنا المدرسي منذ التسعينات، مشيرة إلى أن هذا النظام لا يتمتع بالكفاءة المطلوبة، وأنه بحاجة إلى ” الرشاقة ” التي يتصف بها الإنتاج الصناعي. ويسبب هذا كله نتائج وخيمة: فكثير من المدارس لا تفلح إلا بصعوبة في تنظيم جداول مدرسية تستغرق نهارا كاملا، فثمة نقص كبير في عدد المقاصف ومقار قضاء ساعات الفراغ والتربويين. أضف إلى هذا أن كثيرا من الآباء والأمهات يشعرون بأنهم مطالبون بتحقيق ما لا طاقة لهم به، إذ يتعين عليهم النهوض بدور المدرسين والمعلمين، علاوة على هذا ينتاب كثيرا من الطلبة القلق والخوف من عدم اجتياز الامتحانات النهائية”. بعد هذه الإشارة إلى واقع التعليم بألمانيا يذهب شيفر إلى توصيفه أكثروهو يحلل ويفكك واقع البورصات والحياة المالية للألمان التي تدنت إلى مستويات دنيا على مستوى العيش من حيث “التباين بين الأغنياء والفقراء في تزايد متواصل”.. حيث عبر هؤلاء عن أمنيتهم في انتهاج طريق ثالثة تقع بين الرأسمالية واللاشتراكية. وأفرد شيفر بعد عرضه هذا بابا خاصا يصف فيه الواقع التعليمي بألمانيا ننقله كاملا. التفاوت في توزيع فرص التعليم. إن الشخص المتمتع بالمرونة الكافية وبالمستوى التعليمي الجيد يستطيع التحرك في الاقتصاد المعولم بيسر وسهولة، أما الشخص الذي لا تتوفر له هذه الخصائص، فإن هذا هو الذي يتخلف بسرعة فائقة عن الركب، وبالتالي فإن من لديه الإمكانات المناسبة يرسل أطفاله في كثير من الأحيان إلى مؤسسات التعليم الخاصة، وليس إلى رياض الأطفال أو الجامعات الحكومية، فإن الخيارات المتاحة له في تزايد مستمر؛ ومن نافلة القول التأكيد هنا أن هذه الخيارات متاحة لأولئك الأفراد فقط الذين يحصلون على الدخول الجيدة. فتكلفة بعض المدارس الخاصة تصل في بعض الأحيان إلى نحو 1500 يورو في السنة. أما من يرسل أبناءه إلى جامعة من جامعات الصفوة الممتازة في فرنسا أو بريطانيا أو في الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإنه يدفع 50 ألف يورو، أما بالنسبة إلى جميع أولئك الذين لا قدرة لهم على تحمل هذه الأعباء الضخمة، فإنهم مجبرون على إرسال أبنائهم إلى المدارس الحكومية المكتظة فيها قاعات الدرس بالطلبة، والمتدهورة أبنيتها والتي يتولى التدريس فيها معلمون تراجعت رغبتهم في العطاء كثيرا، فالدولة تبخل في إنفاق المال على أهم مورد مستقبلي : على تعليم مواطنيها.