بالرغم من تشكي كل المساهمين في صناعة الكتاب من تدني نسب القراءة في الوطن العربي، وضعف الإقبال على الشعر لدرجة أن معظم دور النشر أصبحت تتحفظ في طبع الدواوين الشعرية حتى أضحى معظم ما ينشر منها يكون على نفقة الشعراء أو بعض المؤسسات التي تحتضنهم، فإن الساحة الشعرية المغربية تعرف نشاطا شعريا غير مسبوق من خلال تنظيم مهرجانات ولقاءات شعرية في كل جهات المملكة ناهيك عن صدور عشرات الدواوين الشعرية في كل حين وآن (أحيانا كثيرة على نفقات الشعراء الخاصة) حتى ليعسر على الناقد تتبع كل ما يصدر من دواوين… ولعل من الأصوات الشعرية الشابة، التي بدأت تتلمس طريقها في حقل نسج الكلمات، صوتٌ قادم من المغرب العميق، أنجبته قرية ابزو النائمة في حضن سفوح الأطلس، إنه الشاعر صالح لبريني الذي احتفل بصدور أول مولود شعري له (حانة المحو) سنة 2015 بعد عشرات القصائد المنشورة على صفحات المجلات والجرائد المغربية والعربية… وديوان"حانة المحو" صدر في طبعته الأولى سنة 2015 عن مطبعة الجسور، منشورات اتحاد كتاب المغرب فرع بني ملال، وهو من الناحية الشكلية ديوان متوسط الحجم يمتد على مسافة ورقية بالكاد تتجاوز المائة صفحة، برعت الفنانة نادية فليح في تأثيث غلافه بلوحة حبلى بالدلالات والإيحاءات لا يتسع المجال في مقال قصير للوقوف عند تفاصيلها… يتضمن الديوان ثمانية نصوص وهي: 1. قنديل الغياب: من الصفحة 7 إلى الصفحة 20 2. لسميرة سر الفلق: من الصفحة 21 إلى الصفحة 38 3. مراكش: من الصفحة 39 إلى الصفحة 48 4. حدائق الليل من الصفحة 49 إلى الصفحة 54 5. دهشة القصيد من الصفحة 55 إلى الصفحة 61 6. حانة المحو من الصفحة 62 إلى الصفحة 70 7. مدراج الغربة من الصفحة 71 إلى الصفحة 96 8. الغثيان من الصفحة 97 إلى الصفحة 107. وهو ما يجعل القصائد متفاوتة الحجم أقصرها (حدائق الليل) مكون من ست صفحات، وأطولها (مدارج الغربة) يمتد على ست وعشرين صفحة، وإن توحدت عناوينها في كونها جاءت جملا اسمية (يغيب فيها الفعل مطلقا) مشحونة بدلالات سالبة متضمنة لكلمات تلخص رؤية الشاعر للعالم من حوله، وتقدمه عالما سوداويا يرى فيه سوى (الغياب/ الليل/ الدهشة/ المحو/ الغربة/ الغثيان…) وهو ما يُفترض معه من خلال العناوين الثمانية، نزوح الشاعر نحو السكون، الهدوء، الثبات والاستقرار ما دام الاسم – عكس الفعل – مرتبط بتلك الإحالات، إضافة إلى نفوره من كل ما كان يحيط به واتخاذه موقفا سالبا من واقع عربي لا موطئ قدم فيه للفرح، بعد توالي النكسات والنكبات… ومن تم ضرورة البحث عن (حانة) عساها تنسي الذات مرارة هذا الواقع ، و تمحو الأشياء التي تؤرق الجسد والعقل في علاقة الذات بالمكان (الواقع والمحيط)، وتجعل الشاعر يعيش غريبا تائها مصدوما من (مدارج غربة ليل يشعره بالغثيان…) وإذا افترضنا أن الشاعر يسعى إلى نسيان مدارج هذه الغربة، نفهم لماذا استعاض عن أطول قصيدة (مدارج الغربة) بقصيدة (حانة المحو) ليجعل عنوانها عنوان الديوان… إن المتصفح للديوان سيلاحظ أن الذات الشاعرة حامت حول أمكنة متعددة (مراكش، غرناطة، وبغداد، فاس…) لكن ظلت "مدينة ابزو" مسقط الرأس، وموطن الفؤاد حاضرة في كل ثنايا الديوان (شمس أوطاني ابزو) ص.10 ( ابزو مبتغاي الأصعب ، ابزو جسدي التراب، ابزو حلمي القتيل، ابزو وطني الأعذب) ابزو ( انت في الراء، والواو، والحاء سلطانه) 85… لكن هذا المبتغى الأصعب الساكن في الروح ليس في الحال التي تريد الشاعر أن يرى فيه حبيبته، فيخيب أفق انتظاره وتغدو (ابزو حلمي القتيل ) والوطن ( الأجذب) الذي لا يجد معه الشاعر إلا الوقوف مشدوها والتساؤل ( فلم يا ابزو تطفئين الفرحة في مدامعي، وتشعليها حرقة) 84 إن وضع ابزو في (حانة المحو) شبيه إلى حد ما بحال جيكور في تجربة السياب فإذا كان الشاعر العراقي يوحد جيكور بالأم، يناجي جيكور، يحدثها يحلم بأن يراها في أحسن صورة، تختزل الأوطان كلها ، ويسائلها: ( إيه جيكور عندي سؤال أما تسمعينه؟ هل ترى أنت في ذكرياتي دفينة) . ص 208 فإن صالح لبريني يجعل من ابزو الأم في (حانة المحو) وجهان لعملة واحدة، وحدهما يساحقان الحب والإهداء، فكما رأى السياب جيكور انسرحت من قبر الأم : (أفياء جيكور أهواها ، كأنها انسرحت من قبرها البالي ، من قبر أمي التي صارت أضالعها التعبى وعيناها من أرض جيكور … ترعاها وترعاني ) ص190 بنفس التعالق ألفينا الأم وابزو يتوحدان في (حانة المحو ) ليشكلا التيمة الأساس في كل الديوان، مما يمكن أن يجعل من تعالق الشاعرين بقريتهما/ أمهما موضوع بحث مطول يتداخل فيه عشق المكان، والتلذذ بما يسلطه المكان على الذات من عذاب لدرجة يصبح الحلم والخلاص هو القتل على يد الحبيبة/ القرية لأن الموت من أجل القرية بداية حياة: يقول صالح لبريني : ابزو … لأجلك واعبدك أكثر فاذبحيني ثم اذبحيني… واقتليني ثم اقتليني … كي أحيا بعثي. ويقول السياب: جيكور لمي عظامي وانفضي كفني من طينه … هذا الوله بالعشيقة يجعل الشاعر مرتبطا مكبلا إلى المكان (جيكور ستولد لكني، لن أخرج فيها من سجني ) 412 = ابزو (مصيبتي أنك عشيقتي ) إنه الهيام الذي يفقد الشاعر عقله فتتساوى لديه كل المتناقضات ويصعب عليه تحديد هوية العشيقة: ابزو: هل أنت يا عشيقتي منارة لي أم مقبرة؟ = جيكور .. ماذا؟ أنمشي نحن في الزمن أم أنه الماشي … ص.188 إنه الوله والهيام الذي يجعل الشاعر يختزل العالم في قريته ويتخذها رمزا يتمطط، يتأسطر وقادر على حمل كل الأقنعة مما يتيح لكل قارئ أن يرى فيه قريته/ وطنه، فتغدو علاقة الذات بالمكان شكلا من أشكال صياغة رؤية فنية وتجربة شعرية تكسبها الرمزية إمكانات هائلة في التعبير، تحيل العلاقة بالمكان إلى مواقف وقضايا، ترمي بالقارئ في تخوم التحديات الكبرى وإن حملت مواقف شخصية من حيز مكاني ضيق، هذا هو الشعر الذي ينمط الرمز ويجعله يتلبس بصوت الشاعر فيغدو صوتا ثالثا، صوتا مركبا لا هو صوت الشاعر ولا هو صوت المدلول الحرفي للرمز، وإنما هو صوت شعري حالم عابر للحدود بإمكانه تحويل المكان/ ابزو إلى كل شيء ( عشيقة، حلم ، وطن، شعر …) فقط لأن الشاعر جعل ذلك المكان مسرحا لكل التناقضات ، وحلبة لِلَيِّ أعناق المتقابلات : ( ابزو فيك عرفت وجه الله مبتسما، وفيك عرفت وجه، الشيطان متجهما…) وبما أن الواقع لا يرتفع، والواقع العربي يعيش وضعا أصعب مما عاشه أيام النكبة والنكسة وكافة الأزمات… فمن الطبيعي ألا يمر هذا الوضع دون أن يترك جرحا في الذات، أغور مما تركته النكسات السابقة، فكان اليأس ثوب الديوان وجوهره من البداية إلى النهاية لا أحد في هذا الوجود يستحق أن تهدى له أزهار الكلمات، غير الأم / الوالدة، واهبة الحياة، فوحدها الأمومة لم يصبها تلوث الواقع العربي لذلك كانت أول جملة تواجه قارئ (حانة المحو) هي ( إلى والدتي فقط)، صدر الأم والشعر وحدهما قادرين على حمل/ تحمل ما في ذات الشاعر من هموم، وهذا ما وسم الديوان بمسحة ذاتية وجدانية منكسرة يحضر فيها ضمير الأنا بكل القصائد، ضمير يحيل مباشرة على الذات الشاعرة بالاسم والصفة: هو ذا أنا "صالح بن محمد " المنذور لقبائل تزرع في مسالكي حسك الألم ) ص 25 / 26 وكما كانت ابزو رمزا للوطن العربي، أمست الأنا رمزا للإنسان العربي، فلا غرو أن يصرخ الشاعر مثبتا ونافيا: ( فأنا أنت/ وأنت أنا / لا ولن نفترق) ص38 هذه الذات الواقفة شاهد عيان على وطن يتباهى بمآسيه طبيعي أن ترتبط تلك الذاتية بالألم وأن يتسلل إليها – مع قلة ذات اليد- اليأس؛ فتتجرع ألما يزرع الذات في غربة مطلقة، وتعيش عطشا دائما لا أنيس، ولا ساقٍ فيها غير الحروف، ولأن الشعر يصنع المستحيل يصبح الحرف وطنا، ولباسا… (حرفي وطن يعانق هبيد النشيد، حرفي لباس لعري الجسد ) ص 11 ويصبح الحرف مسقى كلما اغترف من لجه ازداد ظمأ ( أنا ظمآن لماء الكلمات) ص14 ولا خلاص سوى الحلول في طبيعة المكان/ ابزو والتماهي مع أشيائها (أنت أيتها الريح ضميني إليك، خذيني أسيرا … ) ص13 (وأنت أيها الماء …توحد في أشياءك أشيائي …) عسى الذات تتخلص من قيود الزمان والمكان ويتحقق حلم الشاعر في تحويل قريته مدينةً فاضلة بقيمها المثلى المطلقة، الأنا فيها خارج الزمن ، متحللة من شروط ال(آن) ( ليس لي ماض، ليس لي حاضر ، ليس لي آت مرتقب) ص29، ولا شيء يوحد الزمن في عيون هذه ال(أنا) المنكسرة ويجعل الحاضر، الآتي والماضي واحدا غير الفواجع والمصائب هكذا كان (أمسي يسكن مغارة الفجيعة ) ص64 والحاضر لا خير فيه، وأقصى ما يمكن أن يقدم هو تقليب المواجع ( أعرف أن الحاضر لن يهبني غير المراثي والمراثي) ص78. وأن هذا (الحاضر عشوة يطوس ممشاك ص 98 … والأكيد أنه لا مستقبل لمن لا ماضي ولا حاضر له لذلك كان الشاعر متأكدا من مستقبله يكررها أكثر من مرة: ( أعرف أن الزمن سيأويني إلى قبر الفحيعة) ص 66 أعرف أني لن أربح غير خسارتي ص77 … (لتشهد أن الآتي طوفان رمل، يفيض ريحا تشعل خريفا، مفاصل رباك) ص 98. ومن كانت تلك رؤيته للزمن طبيعي أن يلبس المكان كسوة الحداد ، هكذا فقد المكان في (حانة المحو) إحداثياته، فتوحدت الاتجاهات في ال(هنا) وأضحى الأمام سرابا والخلف دما وحطاما: (أرى أيامي قدامي سرابا، وخلفي أيامي دم، حطام ومقبره) ص 91، وتلك ليس خاصية ابزو وحدها فكل الأمكنة والمدن التي عبرتها الذات توحدت في الفواجع (كل المدن التي أعبرها وتعبرني تشتعل مآتم وفواجع) ص 27 … ولا شيء يتراءى في الأفق غير السواد والسعال ( وهذا الأفق يتجلل بعباءة السعال) ص 99 والملجأ الوحيد للشاعر هو التعلق بسوالف الحروف، لأن السر المستبطن في الحشايا لا يعرف سرَه إلا الشعرُ. (جذري أن أستوطن حرفا ح ر ف ا يتربع عرش سري وسري لا يملكه إلا شعري يظللني بسدفة دهري) ص. 6/7 السؤال هو لماذا لم يعد الشاعر العربي يتقن العزف إلا على أوتار اليأس؟ ولماذا تخلى الشاعر العربي عن زرع الفرح والتعلق بحبال الأمل و لعل ذلك جزء من رسالة الشعراء؟ لعل الجواب الذي قد يقدمه أي شاعر يتهم بسوداوية الرؤية هو قوله: أروني فرحا في العالم العربي العربي لأكتب عنه… ومن تمة ف(حانة المحو ) ليست سوى صوتا من بين مئات الأصوات الصادحة بما يعج به عالمنا العربي، ولنتأمل كيف يرصد الشاعر صالح لبريني الوضع العربي من خلال تجربته الذاتية في الديوان وكيف يعيش وأين يسكن شعريا… ومن هو هذا الأنا/ الرمز للإنسان العربي؟ في الديوان الأنا تائهة في المكان يقول الشاعر ???? التيه لي سكن/ الأنقاض لي وطن) ص 8، وتائهة في الزمان: (أنا التائه في غواية الصمت، في سفر تاريخ أرعن) ص45 تضيق بها الأرض (الأرض بي تضيق، الجسد في منفى التيه يغرق) ص9، ويصبح مسكنها جحيما ( إن سكني جحيم الأهوال) ص 24 … وإذا كانت الأرض تضيق بالذات و( الأفق يتلبّسه طوفان الذبول) ص 10، وكل (المدن مكللة بالقبور) ص16… و لا ملجأ ولا مفر ولا شيء للذات غير( اليتم نديمي، الألم وشاحي، فأين حلمي المسروق … الضائع مني ؟ ) ص 19… والذات تشعر بقرب النهاية بعد أن ( لم يبق لي من أشيائي إلا الهباء…) لا حاضر ولا ماضي ( في حنجرتي صوت التاريخ اختنق) هكذا يضيق الخناق على الذات أينما يممت وجهها، والشاعر لا يكتفي بالإخبار بل يقسم ???? أقسم بربي أني لا أمشي إلا في لغز حرائق تستوطن دربي) ص 37/38… من كانت هذه صفاته وتلك طريقه فلا غرو أن تجد الذات ضالتها في الشعر (فلمن غير الحروف أعلن انتمائي) ص 20 وأن يكون اليأس هو الحل، والهروب بما تبقى من الذات ( سأمشي وحيدا إلى وحشة المنفى أحمل ما تبقى من وهج الحكاية) ص 47 إن الواقع أقوى من كل ما يتجلد به البطل المأساوي ، لقد انتهى زمن البطولة المأساوية حيث البطل لا يراوغ لا يهادن ولا يستسلم، ففي واقع مظلم (ليس في أفق الليل قناديل … أو شموس تشمخ في مجاهل المغيب) ص49 ، والبطل منبوذ في العراء وحيدا أعزل (والمدى جحيم يغشاك) ص5 … وطبيعي أن الذات الضعيفة عندما تشعر بتخلي الكل عنها بمن فيهم الآلهة، قد تقف على حدود الإلحاد: (السماوات التي قايضتها حلمك خانتك، وتركتك عبدا للعراء …) ص 51 في واقع كهذا تكون المواجهة وحتى المهادنة حماقة وتتجاوز الكلمات معانيها ودلالاتها، طبيعي إذن يصبح اليأس أملا، وتتجاوز الغربة معنى ألا يعرفك الناس إلى دلالة ألا تعرف نفسك ( أجهل وجهي ، أجهل نفسي، أجهل كياني) ص 63. ذلك هو الأنا / رمز الإنسان العربي (عاريا أحضن حلمي، في وطن يسكن الليلَ) حاضري ظلمة نفي وغربة) ص62 (أنا سليل المواجع ، وفي سمائي تموت المصابيح ص 12) تائه في سراديب لا نهاية ولا بداية له حتى الوطن/ ابزو المعادل للأم يشهر السيف في وجهه ولا تجد الذات سوى الاحتماء بسؤال: (فلم يا وطني تعلن ضدي الحروب)… ولما يحاربك وطنك ويرفضك زمانك يصبح الملجأ الوحيد هو البحث عن عالم مثالي لبناتُه الحروف والكلمات تتسع للمدى، وتصبح أنت السلطان، لك الحق أن ترفض أو تقبل فيه من تشاء لأنك خالقه وأنت مالكه ، وهديتك الأولى فيه (للأم فقط) ذلك هو عالم الشعر الذي عرّفه الشاعر بقوله: ( هو مركب الجنون ، هو كشف المجهول، هو اشتعال الأحلام ) ص60. ذلك هو الشعر، الذي يتيحك إمكانية خرق المألوف، وتغريب المعروف، وسيلتك لغة شعرية قائمة على الاختزال، الحذف، التكثيف والغرابة، واعتماد التعابير الاستعارية مادة أولية في تشكيل صورة معبرة عن رؤية الشاعر للعالم، قائمة على المشابهة والمجاورة منطلقة من أعماق الذات مشكلة بأطرافها المتناقضة فضاء لا حدود له من الخيال، يتحاور فيه الجماد ( القلم والدواة، الذات والأرض…) ويستحيل المعنوي فيه موغلا في المادية، وما يزيد تلك الصور الشعرية تأثيرها تقديمها في جمل متوازنة متوازية، قصيرة محلاّة بمختلف المحسنات البديعية لفظية ومعنوية ، محولة شاعرا شابا بعد أن حبا في أول خطوة إلى حكيم لا ينطق عن الهوى حروفه حبلى بالأسرار مهما حاول ناقد أو قارئ تأويلها، ستبقى هي خير من يقدم نفسها…