من مآسي الفنانين والمبدعين في بعض المجتمعات التي لا ترى للفن رسالة، ولا تفتح للإبداع بابا، أن يكظموا آمالهم ويداروا آلامهم حتى يغيبوا تماما. بعد ذلك يأتي دور المرثيات. نهاية الأسبوع الماضي نُظم حفل خيري في مسرح مكتبة روتردام لفائدة فنان مغربي أمازيغي، يصارع المرض في إسبانيا. ما ميز الحفل هو "الشمل" الذي جمع معظم الفنانين الأمازيغيين في المهجر، وكأنهم يرون مصيرهم الفني مجسدا في مصير الفنان بوجمعة أزحاف، الراقد على فراش النسيان. المنسيون "تواتون"، أي المنسيون، هو اسم المجموعة الموسيقية التي أسسها بوجمعة مع رفاق آخرين في بداية السبعينات. سبعينات المغرب تحيل في ذاكرة المغاربة إلى ظهور الحركات الاحتجاجية ذات النهج اليساري. تمثل ذلك على مستوى التنظيمات الطلابية وعلى مستوى الغناء. فقد ظهرت مجموعات غنائية عبرت الزمن كظاهرة "تفرد" بها المغرب على باقي البلدان المغاربية والعربية. ظهرت فرقة "ناس الغيوان" وفرقة "جيل جيلالة" اللتين استقطبتا فنيا، قطاعا عريضا من مكونات المجتمع المغربي. وظهرت أيضا فرقة "تواتون" التي لا تختلف عن المجموعتين الأوليين سوى في الكلمات. استخدمت "تواتون" اللغة الأمازيغية (الريفية) مما جعلها الأقرب إلى وجدان سكان الريف المغربي الذين عانوا، كبقية سكان المناطق المغربية الهامشية، من ضراوة النسيان وتجاهل المركز لهم. ومع ذلك فكر "المنسيون" في غيرهم. غنوا لقضايا الإنسان في فلسطين وفيتنام وكوبا. غنوا للفلاح والطالب والعامل والعاطل عن العمل. في مدرسة الحياة الحياة هي المدرسة التي تخرج منها أعضاء فرقة "تواتون". فباستثناء طالب واحد، كانت بقية الأعضاء حرفيين؛ إما صباغ أو خياط أو بحار. ولكن هذا لم يمنعهم من اعتناق الفن الجاد والملتزم، بدل الفن "التجاري" الرائج في تلك الفترة. "بوجمعة، يقول عبد الحق أقندوش عضو المجموعة وصديق بوجمعة، فنان أعطى الكثير للأغنية الأمازيغية، وليس الأغنية الأمازيغية في حد ذاتها، بل للفن الجاد والملتزم بالقضايا الإنسانية والقضايا العالمية بشكل عام. غنينا جميعا للقضية الفلسطينية وللقضية الفيتنامية وللقضية الكوبية وللقضية الأمازيغية وللطبقة العاملة وللطلبة والكادحين". الظروف التي تكونت فيها المجموعة لم تكن ظروفا عادية. فقد خرج الملك الراحل الحسن الثاني عقب محاولتين انقلابيتين فاشلتين أكثر إصرارا على كبح المعارضة السياسية. ولم تجد التنظيمات السياسية المعارضة آنذاك من متنفس سوى الأغنية. كانت الأغنية متنفسا، غير أن الفنانين الملتزمين أصبحوا عرضة للمضايقات والسجون. بعض أعضاء فرقة "تواتون" هاجر نحو أوربا والبعض الآخر التزم الصمت، بينما آخرون أودعوا السجون. الرمزية كأداة للمواجهة في زمن الشدائد تقل الاختيارات. كان أمام مجموعة "تواتون" سبيل واحد للبقاء على قيد الحياة: استخدام الرمزية في الكلمات. صارت الكلمة حمالة أوجه. هذا ما يشرحه كاتب كلمات مغناة بالأمازيغية، الشاعر أحمد الصادقي المقيم في هولندا: "في الوقت الذي تكلم فيه بوجمعة عن العامل والفلاح والاستغلال والظلم، وتكلم عن الأمريكان بوجهين: وجه قبيح يقتل الناس في الفيتنام وفي كوباوفلسطين ولبنان، ووجه آخر يوزع الزيت والطحين، حاول بوجمعة آنذاك أن يحطم الكثير من المحرمات. في السبعينات كانت الأغنية الأمازيغية لا تتجاوز حدود ''حبيبي‘. بوجمعة لما غنى أغنية: ''غيّر طريقة عزفك‘ فقد كان يدعو إلى التغيير والتمرد على القمع والاستغلال". في ذاكرة الأجيال مهرجان روتردام الخيري كان مناسبة للكثيرين من أمازيغ بلدان الهجرة للقاء والتعارف. حضرت زوجة الفنان كريمة الطالعي نيابة عنه. كانت متأثرة بمدى اهتمام الأجيال بزوجها خاصة عندما شاهدت كيف أن شابة هولندية من أصل أمازيغي نظمت قصيدة في الفنان بوجمعة رغم تباعد الأجيال. "حينما أرى فتاة ولدت ونشأت هنا في هولندا ولا تعرف بوجمعة، ولكنها تحبه وتكتب شعرا فيه، فهذا دليل على إنسانيته وعلى أخلاقه وعلى مبادئه، ودلالة على المدرسة التي كون فيها أجيالا وما زالت تتكون فيها". الفنان التشكيلي محمد أبطوي، وهو فنان بدأ يشق طرقه الفني في هولندا بخطوات ثابتة، أنجز بالمناسبة لوحة تشكيلية بيعت في المزاد العلني دعما للفنان بوجمعة. واللوحة عبارة عن رسم لضريح ولي صالح مدفون على هضبة تطل على البحر في خليج مدينة الحسيمة. ''سيدي شعيب أولفتاح‘ هو اسم الولي الذي مات أعزب. وتقول الأسطورة إن كل من يبيت ليلة أو ليالي متتالية في الضريح، يصبح فنانا وعازفا على أية آلة موسيقية يشاء. يقصد الضريح كل حالم بالفن وعاشق له. حتى الفتيات الراغبات في ''تعلم‘ الرقص يفتح الضريح لهن بابه." هكذا تتمازج الأسطورة بالرغبة، وتتعانق الرمزية بالواقع المرير لموروث ثقافي آيل للزوال. بوجمعة جمع أمازيغ الشتات، لكن ليس في الريف، ليس في المغرب. بل في مدينة روتردام حاضنة أكبر ميناء في العالم. يالها من رمزية!