يعتبر التعمير أو فن تخطيط المدن ميزانا تقاس عليه أوضاع تدبير و تقسيم المجال بما يناسب إحتياجاتها الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية و قد تعددت التعاريف الأكاديمية المقدمة لفن او علم التعمير حسب المدارس التي تناولته و الزوايا التي قامت بمقاربته المعرفية منه و هكذا نجد مثلا الفقيه القانوني الفرنسي " جون ماري أوبي" عرف التعمير بأنه مجموعة من الإجراءات التقنية و القانونية و الإقتصادية و الإجتماعية التي تساعد على تطوير المجتمعات بشكل عقلاني منسجم و أن دواعيه ينبغي أن تكون إنسانية في المقام الأول على إعتبار أن علم التعمير غايته الإنسان و تنمية مجاله أولا واخيرا في حين إعتبر الفقيه البلجيكي ايزكار لويس في تعريفه للتعمير أنه لا يعدو أن يكون فن تهيئة المجال وفق الشروط المثلى السكنية فقط خلافا للمدرسة " الأوسمانية" نسبة إلى الفقيه جورج اوسمان الذي ينظر الى التعمير كحلقة أمنية بداية يجب ان تكون متناغمة و متجانسة على إعتبار أن المدينة نسق شمولي او عام تلعب فيه شبكة الطرق و الماء و الكهرباء دورا أمنيا بالغا و أن على تخطيطها أن يراعي حالات السلم و الحرب أيضا .... على الصعيد الوطني كان المغرب من بين البلدان القليلة التي تعتبر مرجعا تعميريا بشمال أفريقيا و كان من الأوائل في مجال تشريع القوانين الأساسية للتعمير منذ بداية القرن الماضي و كان للدولة دور هام في عقلنة السياسات التعميرية و تنمية المجال عبر إصدار قوانين و مراسيم و دوريات و خلق إستثناءات في مجال التعمير و هو ما نتج عنه وضوح في رسم سياسات قطاعية فعالة و منتجة عدمناها اليوم بسبب بعض الممارسات التي تنتمي لزمن " اللحظة الإنتخابية " و إنهيار منظومة الأخلاق و المبادئ السياسية و إرتفاع منطق الإستغلال و أفول الأحزاب في تأطير المواطنين و المنتخبين معا بالإضافة إلى عوامل هيكلية أخرى زادها بلة تعدد المتدخلين و تضارب السياسات القطاعية و تولى كل طرف بركنه و تقديم الإستقالة فيما يخص تحمل المسؤولية الوطنية التي قدمت من أجله الدولة الكثير و الكثير جدا دون أثر يذكر . إن من بين أهم العراقيل التي يتخبط فيها التعمير منذ زمن بعيد هو الإفتقار الى عقول خلاقة و مبدعة قادرة على التفكير و التخطيط و التنفيذ السليم في تناغم و إنسجام .عقول تشد أزر القانون و المشرع بأفكار مبدعة تطرح الحلول و تقتحم في جرأة الإشكالات التعميرية و هذا ما نعدمه في كل البرامج الإنتخابية حيث تكاد تنعدم رؤى واضحة للسياسات التعميرية في رؤية جل الأحزاب و كذا غياب كلي لبرامج من هذا النوع تاركة كل العبء على الدولة لإيجاد الحلول و تقديم الرؤى بالإضافة إلى جهل المنتخبين الشبه العام للقوانين الأساسية المنظمة للتعمير أو فلسفاتها الكلية .. في أطروحة جامعية للدكتور المختار حيمود و المعنونة ب " دور سياسات التعمير في تنمية و تنظيم المجال الحضري " أورد الأستاذ حيمود أن التعمير في المغرب يتخبط بين إشكالين هامين الأول متمثل في تعدد المتدخلين و الثاني في مركزية القرار التعميري و لئن كان الإشكال الأول مسلم به للدكتور حيمود فإني لا أوافقه بخصوص الإشكال الثاني المتعلق بالقرار المركزي ذلك أنه و بعد إقرار الدستور الجديد الذي ينص على حق الجهات في تنمية مجالاتها و ذلك بتقديم صلاحيات واسعة عبر سن إجراءات و نقل سلطات من المركز الى الجهات و كذا إعادة التقسيم الجهوي الجديد الذي يراعي المجالات و مدى تماسكها فإن الكرة اليوم أمام المنتخبين الذين عليهم أن يتحملوا مسؤولياتهم و يبينوا على علو أكعابهم في تنمية العمران و تخطيط المجال و لا ينتظروا في كل مرة الدولة لتقوم لهم بأدوارهم و هم غارقون في التخبط إن على الدولة مسؤوليات جمة و لا يجب أن نكلفها بأعباء تنازلت عليها للفاعلين الاخرين و قامت بتقليد مسؤوليتها اليهم في إطار عقد بينهم و بين منتخبيهم فعلى المنتخبين إذن تحمل المسؤوليات كاملة في مجال التعمير أو ترك الأمور إلى من يستحقها و يكون قادرا على تلبية طموحات المواطنين و إكراهات تنمية التراب التي تستلزم جهدا حازما و حضورا يوميا غي مواكبة و مراقبة صارمة لتتبع أشغال المجالس و مدى سلاسة العمل و كم شاهدنا من جماعات يغيب فيها الرؤساء شهورا عديدة بمبرر التفويض و هل تم إنتخابهم من قبل المواطنين على أساس الخصائص الشخصية و المقدرة على العطاء التي قدمت في الملصقات و البرامج الإنتخابية أم على أساس التفويض إن العقد الإجتماعي المبرم بين الناخب و المنتخب تأسس على المواكبة اليومية لحاجيات هذا الناخب و أئ شئ أخر لا يعدو أن يكون لغو قول فحسب و كان من نتائج هذا الغياب لرؤساء مجموعة من الجماعات موت كلي لعمل اللجن فالكل أصبح يفوض واجبه و يقدم إستقالته و لا حول و لا قوة الا بالله . إن مما يزكي قولنا في تقديم الدولة لكل المعونات للفاعلين في ميدان التعمير ما أوردته المادة الثانية من قانون التعمير 12.90 حيث أوردت أن مخطط التعمير يجب أن يوضع على أي مجال يستحق التنمية و التطوير دون أن يقيد يد الفاعلين بأى مسطرة يستوجب وضعها قبلا و يراجع في هذا كتاب الدكتور المالكي بعنوان مجال التدخل العمومي في مجال التعمير الصفحة 28 لمن يهمه الأمر . إن نقل الدولة للجماعات مهمة التعمير التقديري أولا و التنظيمي ثانيا يبرز مدى تمكن هذه الجماعات من الأدوات القانونية الكافية لأداء واجبها بفعالية و سلاسة و لكن الواقع يظهر أن فوضى المجال التعميري دليل على غياب العمل الجاد للجماعات و هو ما أشار اليه الفيلسوف السلوفيني الشهير في ميدان التعمير بيكاو في قوله أن " من لم يكن عالما بالخيوط الناظمة للتعمير و السلطة و المجتمع و الزمن يجب تحييده عن تولى هذه المهمة الشاقة " كما أن تغييب المجتمع المدني عن المشاركة في السياسات التعميرية و بلورتها بالشكل الأنسب و الذي يجعلها مع المواطن مجرد مستهلكين للخدمات العمومية يزيد من تشتت و تخبط المجال التعميري خصوصا و أن " محنة المجتمع المدني " بتعبير الدكتور محمد الغلايشي" تتعقد في ظل محدودية ثقافة المنتخب و الفاعل و عدم إدراكهم لحقيقة و ادوار المجتمع المدني الحقيقية. إن قضية التعمير ستظل من الملفات الحارقة على طاولة الفاعلين ما يستلزم جرأة كبيرة في معالجتها و قد مكنت الدولة الأطراف جميعا من الأدوات الكافية لهذا الأمر فهل سيكون هؤلاء الأطراف على قدر المسؤولية ؟ جمال الدين أجليان. رئيس جمعية رباط الريف للتنمية الترابية و المستدامة .