صدرت للمناضل واللاجئ السياسي السابق خلال السبعينات والثمانينات بالجزائر الأستاذ أحمد الطالبي المسعودي مذكرات شخصية، في جزئين، وفي انتظار صدور الجزء الثالث إلى المكتبات في القادم من الأيام، يتعلق الأمر بالجزء الأول الذي يحمل العنوان التالي الأسرار من محلها ، والجزء الثاني الذي قرر تسميته ب الأسرار من محلها، الجزائر حكاية عشق ، وتندرج مذكراته في سياقات تاريخ الزمن الراهن والمعاصر، المرتبطة أساسا بحفظ الذاكرة الجماعية المشتركة، انطلاقا من الأحداث السياسية الأليمة التي عرفتها بلادنا في العقود الأولى من استقلال المغرب، ويعتبر أحمد المسعودي من المناضلين البارزين في صفوف حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي أرغمته ظروف الملاحقات والقمع الشرس الذي كان يتعرض له المناضلون والهيآت التقدمية الوطنية خلال ما سمي بسنوات الجمر والرصاص، الى الاضطرار للفرار نحو الخارج، ليعيش مغتربا في ظل قسوة المنفى وكلاجئ سياسي، في الجزائر رفقة مجموعة من رفاقه في الحزب، لينتقل بعد إطلاق سراحه بعد موجة التضامن الدولي الواسع مع وضعيته كمعتقل سياسي من أجل الرأي، وذلك في بداية التسعينات من القرن الماضي، الى الانتقال مع أسرته وزوجته إلى باريس، ومنها إلى المغرب بعد صدور العفو العام الذي سمح للمغتربين والمنفيين بالعودة إلى الوطن. ويحكي المناضل اللاجئ والمعتقل في سجون النظام الجزائري الرهيبة في الجزء الثاني من مذكراته مأساة اعتقاله سنة 1983 في ظل نظام الرئيس الجزائري الشادلي بن جديد، وطرق التعذيب الفظيع الذي تعرض له في مختلف الثكنات والمخافر التابعة للأمن العسكري الجزائري وأجهزتها الاستخباراتية، بسبب حقه في التمسك بوحدة المغرب الترابية، ورفضه الانصياع للتحولات الجارية بعد استعادة المغرب لصحرائه، وبغض النظر عن التهم الرخيصة التي حاول النظام السياسي الجزائري أن يدبرها ضده، من أجل الإمعان في تعذيبه وإذلاله كمواطن ولاجئ مغربي محمي بقوة القانون الدولي لحقوق الانسان، والذي وقفت عنده بنوع من التمعن، هو الجزء الثاني، في انتظار صدور الجزء الثالث الذي يتمم الجزء الذي سبقه، يكمله في أهم محتوياته التي تركها للتفصيل فيها أكثر خلال جزئه الجديد، دون أن ننسى توجهنا بالتنويه والإجلال إلى المواضيع القيمة والتاريخية المتضمنة في الكتاب الأول، لتعرضه لوجوه لامعة في النضال الوطني، من خلال شخصيات مغربية بصمت تاريخه المعاصر بتضحياتها ونضالاتها الوطنية المشرقة، مثل المختار السوسي، والشيخ مولاي العربي العلوي .. يتوقف صاحب المذكرات في الجزء الثاني، عند أهم الخلافات بين مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في منفاهم خصوصا بالجزائر، بين مجموعة الفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي، ومجموعة محمد بن سعيد آيت يدر وعبد السلام الجبلي، في ظل تجاذب واضح بين شخصيات الرؤساء الجزائريين الثلاثة منذ تاريخ انتخاب وتنصيب أول رئيس لها، ممثلا في شخص أحمد بن بلة صديق المغاربة المنفيين عن حق وجدارة، والتحول الذي وقع بعد أن أطاح به عبر انقلاب عسكري الهواري بومدين، وسياسة حسن الجوار الجديدة مع المغرب التي نسجتها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بين الدولتين، وإن كانت هذه السياسة لم تدم طويلا، حيث لجأت الجزائر إلى تحريك عجلة الانفصال للبوليزاريو منذ منتصف السبعينات، مجموعتين مغربيتين منفيتين ومضطهدتين لم تختلفا أبدا حول مغربية الصحراء ومواقفهما الوطنية الراسخة من كافة الأجزاء الترابية المغربية التي لا تزال تحت نير الاحتلال الإسباني بالخصوص، والتي حاول النظام السياسي الجزائري استغلال ظروفهما وأوضاعهما من أجل ابتزازها في موقفها الوطني المتعلق بمغربية الصحراء، وآثرت الجماعة المنفية المتحدث عنها في هذا الصدد التحرك والانتقال نحو فرنسا، وقد عرف عن هذه الجماعة المنفية قولها المعروف اللهم تعذيب المخابرات المغربية، ولا تعذيب الاستخبارات الجزائرية ... . في هذا الإطار يتطرق الكاتب في الجزء الثاني من مذكراته، إلى فشل التوجه المسلح في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان يرمز إليه الفقيه البصري ... وتعرض قادته وأطره للسجن، على إثر ما يعرف ب مؤامرة 1963 ، وبعد ذلك أحداث 03 مارس 1973 في ضواحي جنوب المغرب، مما كان له وقعهما الذي لا يخفى على بعض الأطر في المنفى، الذين يرون أن الاستمرار في تكوين الخلايا المسلحة على الوتيرة نفسها أمر غير محمود العواقب، بل هو مغامرة. وكان البديل في نظر هذه المجموعة المنفية هو تبني خيارات وتوجهات المهدي بنبركة وخطه الفكري، والتركيز على التكوين الإيديولوجي والسياسي للمناضلين وأطر الحزب، بموازاة الدعوة لتنظيم وعقد ندوات لتكوين الأطر . وفي هذا السياق يكشف الكاتب في مذكراته عن المستوى الدراسي والمعرفي الضعيف للرئيس الشادلي بن جديد في العربية والفرنسية على حد سواء، وكيف أنه لا يختلف عن جيل جدته في عدم إلمامه البسيط بمبادئ الدين الإسلامي، وكيف أن الطغمة العسكرية الجزائرية، نجحت لتجعله ألعوبة في يدها لتمنح له ولاية ثالثة في رءاسة الدولة، رغم تنافي ذلك مع مقتضيات دستورهم، خاصة بعد افتعالهم بشكل مشترك للأحداث الاجتماعية العنيفة التي عاش تبعاتها شعب الجزائر سنة 1988 . والتي أبان عن أهم خيوطها رئيس الحكومة الجزائرية عبد الحميد الابراهيمي الذي تمت تنحيته، من خلال كتابه أصول الأزمة الجزائرية، وأصبح بعدها أستاذا للاقتصاد بجامعة الجزائر سنة 1976 ، وهي الأحداث التي بزغ فيها نجم الإسلاميين الجزائريين والبدايات الأولى لدخولهم في أحداث عنف مسلح مع حكم الجزائر، ذهب ضحيته الآلاف من ضحايا الشعب الجزائري من النساء والرجال والأطفال الأبرياء، ويتطرق صاحب المذكرات الى الشخصيات الجزائرية البارزة التي كانت برفقته في زنازن السجن، أو الحي العسكري المسمى بومعراف الرهيب، المعروف برطوبته وبرده القارس خلال فصل الشتاء، وحرارته المفرطة في الصيف. وقد تعرضوا بدورهم لتعذيب جهنمي خطير، ضمنهم مثقفين، وأساتذة، ومعارضين سياسيين، من اليسار والإسلاميين، ووزراء بقوا على إخلاصهم لرئيسهم أحمد بن بلة، وهو ما أطلق عليه أحمد الطالبي المسعودي الثورة تأكل أبناءها ، في مقابل تصويره موجة الفساد داخل زنازن سجن بومعراف، حيث كان هناك من الشخصيات الجزائرية الفاسدة من فئة المسجونين، من يقضون عقوقبتهم السجنية عن طريق كرائهم لمنازل خارج مؤسسة سجن بومعراف.. تطرق صاحب المذكرات في الجزء الثاني إلى موضوع أو محور ذي صلة بسفر البحث عن مذكرات محمد بن عبد الكريم الخطابي، رفقة الوزير الأسبق في حكومة عبد الله إبراهيم محمد الطاهري الجوطي، الذي التحق بالمنفى وكان مستشارا للرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة الذي مات في منفاه بباريس بعد سجنه ووضعه رهن الإقامة الجبرية في الجزائر، وكان من المنسقين بين الدكتور عمر الخطابي والمعارضة المغربية في الخارج في شخص محمد البصري، وقد درس محمد الطاهري الاسبانية من أجل معرفة ما كتب عن عبد الكريم ومقاومته المسلحة للاستعمار، وتوجهوا جميعا إلى الجزائر في هذا السياق، لمقابلة محمد سلام أمزيان أحد الرموز وقائد انتفاضة أحداث الريف إبان حكومة عبد الله إبراهيم، والذي التحق بعبد الكريم الخطابي في منفاه بالقاهرة .. والجدير بالذكر أن صاحب المذكرات كشف في هذا المحور عن جوانب، قد أثيرت، وتمكنت من الاطلاع عليها لأول مرة، كما وعد عن كشفه لوقائع وتفاصيل تاريخية جديدة في هذا المحور، ضمن الجزء الثالث المنتظر إصداره في القادم من الأيام، وفي هذا السياق تطرق صاحب المذكرات إلى ما يسمى ب مجموعة الخطابي لكون عناصرها تتحدر من منطقة الريف المغربي التي كانوا يتقاسمون معها مرارة المنفى، وقد كان سلام أمزيان أحد رموزها الذي كان يتردد بين العراقوالجزائر وهولندا، والعلاقة المباشرة كانت تقوم بها شخصية تعرف بعبد السلام الغازي . يحكي في المقابل، إبان الزيارات المكثفة التي قام بها إلى مكان إقامته في الجزائر مع زوجته بنت المناضل المغربي الحسين الخضار وبناته الثلاثة، بعد إطلاق سراحه من المعتقل السري بومعراف، من قبل معارفه والشخصيات السياسية والثقافية المختلفة الجنسيات التي جعلت من منزله محجا لها رغم الحصار المضروب عليه من قبل الأمن العسكري، وبينهم عدة جزائريين، يحكي عن الزيارة التي قام بها أيضا الأستاذ والدكتور علي الإدريسي الحسيمي المنتمي حسب صاحب المذكرات لجماعة عبد الكريم الخطابي التي يمثلها في الجزائر السيد سلام أمزيان وعبد السلام الغازي، رفقة صهر علي الادريسي الكولونيل سي إسماعيل الذي كان يتقاسم معه أرضية وفراش زنزانة بومعراف في متاهة الصحراء القاسية، وهو عضو منتخب في أول مجلس تأسيسي جزائري بعد الاستقلال، وقد كان وفيا حسب كاتب المذكرات لأحمد بن بلة ومعارضا لبومدين، كما أنه يعتبر أحد الرموز التاريخية للثورة الجزائرية التي دعمها المغاربة بالغالي والنفيس لتحرير إخوتهم الجزائريين من قبضة فرنسا الاستعمارية . وقد تضمنت مذكرات أحمد الطالبي المسعودي الحديث عن ظاهرة اللجوء السياسي المغربي إلى الجزائر، واللجوء السياسي المغربي بعد الاستقلال سواء إلى إسبانيا، أو إلى فرنسا والقاهرة، نموذج إنزال قائد مقاومة الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي في مصر، ولجوء بعض علماء القرويين ورجال المقاومة وجيش التحرير، إلى مصر أو منطقة طنجة الدولية لخروجها عن نفوذ وسيطرة فرنسا واسبانيا؛ وكذلك تناوله المنفيون منذ الاستقلال إلى أواخر السبعينات، وهو الملف الحقوقي الذي وجد صداه في الحركة الحقوقية المغربية منذ عقد السبعينات، وكذلك في أجهزة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ومؤتمراتها الوطنية، وعملها الوطني بالجامعة المغربية، وهي التي اكتوت أيضا من آلام المنفى لبعض قيادييها ورؤسائها السابقين، ورفعت شعارات حفظها التاريخ : قسما لن ننسى رفاقنا في المنفى، قسما لن نخون رفاقنا في السجون، ومن المعلوم أن الحركة الطلابية المغربية مكوناتها الرئيسية، كانت من يسار الأحزاب الوطنية التقدمية؛ ومن مكون اليسار الجديد . وقد آلمه صمت وسكوت الجهات الرسمية المغربية عند اعتقاله في أكتوبر سنة 1983 من قبل الأمن العسكري الجزائري ، ورفض السيد ادريس البصري النظر في طلب تقدمه بالحصول على جواز السفر المغربي، بعد الإفراج عنه، وقد عاد إلى وطنه المغرب في بداية التسعينات بعد تمكينه من جواز السفر، وذلك إثر الدينامية الحقوقية الهامة التي عرفها الوضع الحقوقي في بلادنا خلال هذه الفترة . ختاما يبقى حديث الذاكرة، حديثا حقوقيا وإنسانيا ذو شجون، يستهدف إحياء الذاكرة الفردية والجماعية المشتركة، حتى لا تتكرر مأساة أكثر سوءا أو أقل، إذ كان جيله من المنفيين حسب تعبيره يخدم الوطن ويناضل ضد المطامع الأجنبية، فرغم صغر سنهم وكونهم شبابا يافعين، فقد كان شعارهم الوفاء للوطن، الذي هو عنوان التزامهم النضالي، ولم يكن من الحقيقة بالمطلق حسب ما يروج من قبل أوفقير آنذاك وإدريس البصري، من اتهامهم وهم في جوهرهم وطنيين بالخيانة والعمالة لجهات أجنبية . كما أبدى في آخر مذكراته، خوفه على مآل جيل ليس من جيله أو جيل من سبقوه، بل على الجيل الحالي والقادم، فهو يكتب مذكراته من أجل الشباب راجيا أن تثري مذكراته المستقبل، ولا يريد لهذا الجيل الجديد أن يكون جيل السجون والمنافي، وبالتالي فهو غير نادم على مواقفه الوطنية وما أقدم عليه في الماضي، وأن معاناته لها ما يبررها، فالشخص يموت وتبقى المواقف، وينحرف ولكن المبادئ تظل ثابتة، فيا له من كلام نضالي جميل، إذ لكل إنسان قدره، وكان ذلك هو قدرالاستاذ أحمد الطالبي المسعودي، أو بتعبير سياسي وحقوقي أكثر رصانة وواقعية، كانت تلك ضريبة مبادئه الوطنية ونضالاته المريرة من أجل انتصار الديمقراطية وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية في بلادنا .