«كانت الحسيمة مدينة جميلة وهادئة تتمتع بزرقة بحرها قبل أن يتم احتلال شوارعها من طرف من نصبوا أنفسهم أوصياء على المطالب». استنكار وهمهمات تعلو في القاعة. ويسترسل الصوت «هؤلاء نزعوا الشرعية عن كافة المؤسسات وكان خطابهم عنيفا ومشحونا بالتيئيس». ويقول بالنبرة المتأنية نفسها «لقد انهارت أسطورة السلمية». كلمات كانت تقع على مسمع عائلات اصطفت في القاعة، كجلمود صخر حطه السيل من عل، فترتسم على لامحهم إيماءات استنكار وهم يسمعون تهما ثقيلة قد تسكن أبناءهم في أحسن الأحوال سنوات طوال في السجون، إذا لم يعفو من بيده العفو. القاعة ممتلئة عن آخرها، صحافيون مغاربة ومن بلدان مختلفة، مراقبون عن منظمات حقوق الإنسان، وعائلات منهكة الانتظار وسفر أسبوعي 1100 كيلومتر من الحسيمة إلى الدارالبيضاء، عناصر بزي الشرطة وآخرون من الصعب معرفة هويتهم، رضيع يصرخ بين يدي أمه هو أيضا شاهد هنا لا يعلم أن والده قد يطول غيابه وربما لا يعود، وعيون أخرى ترصد المحاكمة من بعيد. وأمام هذا الحشد يقف عشرات المحامين بزي أسود يترافعون عن عشرات الشباب المتواجدين في قفص زجاجي كبير يحجب صورهم لكن لا يكتم صوتهم حين يصرخون «الموت ولا المذلة». هذا ليس مشهدا من فيلم تراجيدي، إنه صورة حية ملتقطة من قلب إحدى أكبر المحاكمات في تاريخ المغرب المعاصر، فصل من فصول محاكمة معتقلي حراك الريف. تتوالى على مسمع الحاضرين أمور خطيرة: «تلقي أموال من الخارج لزعزعة استقرار البلاد» و«التآمر وتهديد سلامة الدولة» و«المس بالوحدة الترابية» تهم لو أن جاهلا بواقع البلد سمعها لظن فورا أنه ربما يعيش حالة حرب أو أن هناك طائفة منه تمردت وخرجت عن طوع السلطة بالسلاح. تثور ثائرة أحد المحامين بعد سماع سيل الاتهامات أن «مرافعة وكيل الملك (النيابة العامة) هي مرافعة سياسية ولا علاقة لها بالقانون» ويتابع «نحن في دولة تقسو على أبنائها» ويحتج القاضي على عبارة المحامي ويصر هذا الأخير على أن يكرر مرات عديدة «نعم نحن في دولة تقسو على أبنائها» تنابز واحتجاج في القاعة، ويرفع القاضي الجلسة. انتهى المشهد ولا تنتهي الحكاية. في هذه الرؤيا 51 معتقلا من معتقلي حراك الريف يقفون أمام المحكمة في الدارالبيضاء وحوالي 400 آخرون موزعون على سجون الحسيمة ومدن أخرى، فمن ضغط على زر الحسيمة حتى امتلأت السجون بأبنائها؟ من ضغط على زر الحراك؟ هل كان الريف بركانا خامدا؟ وما الذي أخرج حممه فجأة؟ هل أساءت السلطة استعمال سلطتها أم أن فكرة الحراك كانت نائمة بين دروب الريف وتتنظر فقط من يوقظها؟
عود على بدء بدأت الأحداث قبل سنة وما يزيد، وبالضبط في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2016 حين غزت آلاف المغاربة مشاعر حزن واستياء بعدما انتشرت صورة شاب، بين أضراس آلة لطحن النفايات، كالنار في الهشيم. فاشتعلت نار الاحتجاجات خرج فيها المواطنون للصراخ بفعل ما خلفته الصورة من شعور بالإهانة. وفي الريف كما في مدن أخرى رفع مواطنون ملصقات مكتوب عليها «طحن مو» إشارة لكلمة قيل أن رجل سلطة تفوه بها كنوع من الأمر لطحن الشاب الذي ارتمى في الشاحنة لإنقاذ أسماكه ففرم. تراجعت الاحتجاجات في المدن الأخرى لكن في الريف ظل الجمر متقدا حتى الآن. إنه محسن فكري شاب 31 سنة، من إمزورن، عازب كان يقطن بيتا اكتراه في الحسيمة ويتاجر بالسمك. آخر خروج له من ميناء المدينة رفقة أسماكه لم يكن يعرف أنه سيتسبب في خروج آلاف المواطنين احتجاجا في الشوارع. وفاته المأساوية أحيت غضبا دفينا في قلب منطقة حساسة جدا لتعامل السلطة. المحكمة في الحسيمة قضت يوم 26 نيسان/أبريل 2017 على سائق الشاحنة وعلى المستخدم في شركة النظافة الذي كان على متن الشاحنة نفسها وحارس قوارب الصيد، بالحبس النافذ خمسة أشهر بتهمة القتل الخطأ. خرج المسجونون وكان ضمنهم مسؤولون صغار في الصيد البحري والداخلية وطبيب بيطري، أنهوا مدة محكوميتهم، ولم ينته الحراك وظل محسن فكري روحا تبعث الغضب. أيمن فكري، ابن عم القتيل يقول «الكل يعرف كيف انطلق الحراك، بعد وفاة محسن فكري طحنا في حاوية القمامة بعد اعتراضه محاولة رمي أسماكه هناك، وبعد اعتصامه داخل الشاحنة تم تشغيل الآلة لتطحنه أمام الملأ». شهادة أيمن تفيد أن محسن لم يقفز لحاوية الشاحنة خلف أسماكه كما تداول الكثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي، بل قفز ليعترض رمي أسماكه في ماكينة الطحن، حيث أكد أن الأسماك كانت في سيارة أخرى وبقيت هناك ولم تطحن، وطحن محسن بدلا منها، لأنه «رفض التخلي عنها». وصورة ملتقطة صبيحة الحادث المأساوي، تبرز الشاحنة التي وقع فيها الحادث وإلى جانبها السيارة التي كانت تحمل الأسماك، حيث ظلت الشاحنة وبجانبها الأسماك مركونة هناك أمام المحكمة الابتدائية في قلب مدينة الحسيمة. الحادث كان وقع حوالي العاشرة ليلا واستغرقت مدة انتشال جثة الهالك حوالي ساعة، بعد أن قامت الوقاية المدنية بكسر آلة الطحن، وفيديو على موقع يوتيوب يصور عملية الانتشال. فور انتشار خبر الوقيعة احتشد الناس بشكل عفوي يستنكرون ما وقع، و«لمع شخص ناصر الزفزافي الذي ألقى كلمة مؤثرة تلك الليلة»، خاصة بعد انتشار جملة «طحن مو». فمن ردد هذه الجملة؟ وهل فعلا قيلت؟ وهل فعلا هناك من أعطى الأمر لطحن محسن؟ أيمن فكري يقول ان من بين الحاضرين من أكد ومن نفى الخبر، وأن الواقعة تم تسجيلها بفيديو رديء لا يمكن من التحقق من الأمر. في حين أن مصطفى الخلفي، الوزير الناطق الرسمي باسم الحكومة، قال في ندوة نظمت بالرباط يوم 6 نيسان/أبريل 2017 قال بخصوص هاشتاغ «طحن مو» الذي تمت مشاركته على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضا حول خبر أن شرطي قال لسائق شاحنة النفايات «طحن مو» أن العبارة مرفوضة، ولا يمكن قبولها، وأي مغربي يسمعها سيحتج، وهذا أمر مشروع، لكن مديرية الأمن أصدرت بلاغا أكدت فيه، بناء على تحقيق قامت به، أن ما راج حول الموضوع غير صحيح ، ومع ذلك انتشر الخبر بشكل واسع، وذهبت وسائل إعلام دولية إلى اعتبار محسن فكري، بوعزيزي المغرب رقم2، وقدمت المغرب على أنه يسير على الطريق الذي سلكته تونس إبان حرق محمد البوعزيزي نفسه، يقول الخلفي ضاربا بهذا مثلا إلى جانب أمثلة أخرى عن الأخبار الكاذبة الرائجة في وسائل الإعلام. إذن فكلمة «طحن مو» كانت خبرا كاذبا كذبته السلطات وأكد الوزير كذبه رسميا. هذا بخصوص العبارة، لكن الأكيد أن شخصا ضغط على الزر لتشتغل الآلة التي أزهقت روح محسن ولم تشتغل من تلقاء نفسها، فمن ضغط على هذا الزر؟ تعددت الروايات حول من ضغط، هناك من قال انه خطأ والمراد كان فقط تخويف الراحل كي يترجل من الشاحنة ويترك أسماكه تفرم في سلام، فلم يستجب بسرعة أو ربما كانت استجابة الزر أسرع ففرمته الآلة هو وأسماكه، وقائل أنه حتى وإن كان الأمر بالخطأ فقد سمع الحاضرون كلمة «طحن مو» من مسؤول وهي بمثابة أمر للطحن وتم التنفيذ، وكلاهما لم يكن لديه نية القتل. كثرت الروايات حول هذا الأمر، غير أن مكان تواجد الزر الذي به تبدأ عملية الطحن، يمكن أن يحصر احتمالات من ضغط عليه. الزر يوجد في مقصورة السائق. السائق إذن احتمال كبير. هل هناك زر آخر خارج المقصورة؟ نعم يقول أيمن فكري «الزر يوجد داخل وخارج المقصورة، هذا المعطى يشوش على الاحتمال الأول، لكن يبقى الزر الرئيسي داخل المقصورة، ولا يمكن أن تبدأ عملية الطحن إذا كان محرك الشاحنة متوقفا. الزر الآخر يمكن أن يشغله أيضا عامل النظافة الذي يوجد خلف الشاحنة، ويصعب أن يقوم بذلك دون ربط تقني بالسائق لأن الشاحنات تختلف وأن كانت تلك الإمكانية القائمة.
باعث ثان للحراك بعيدا عن السبب الميكانيكي واليد التي ضغطت، سردية تقول ان زر الشاحنة لم يكن سوى صدفة لأزار أخرى كانت ستفتح البوابة للحراك لينطلق في يوم ما وبأن الريف جمر غطاه الرماد وما ما زلت ناره وقادة. ياسر ويسكن إحدى قرى الريف، والذي رفض الكشف عن اسمه واسم قريته، لدواع أمنية، قال أنه لا يستغرب انطلاقة الحراك ويكرر مضمون قول إلياس العماري الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، رغم اختلافه الشديد معه ومع حزبه «لم تفاجئني الاحتجاجات، كنت سأستغرب إذا لم ينتفض الناس وليس لأنهم انتفضوا». ويستفيض ياسر في شرح حالة اليأس لدى ساكنة الريف من طبيعة التمثيلية السياسية «تمثيلية مزيفة ولا تعكس إرادة ساكنة الريف. بسبب اليأس من كل ما يأتي من المركز حتى ولو كانت معارضة ضد النظام، حتى ولو كانت نقابات عمالية يفترض فيها الحياد السياسي» وأضاف «نحن نشعر أننا خدعنا لمرات كثيرة جدا من طرف الحكام المركزيين ومن دار في فلكهم حتى من معارضيهم، وتضررنا من ذلك كثيرا تاريخيا. نحن نخدع كل مرة ونهمش وهذه أمور تبقى عالقة في الذاكرة الجماعية». ضعف المشاركة السياسية في تشريعيات سابع تشرين الأول/أكتوبر2016 في مدينة الحسيمة وضواحيها، أحد مظاهر أزمة التمثيلية، لكن لا يعني في نظر ياسر غياب فضاءات أخرى ل«إنضاج ممارسة سياسية خارج النسق الشرعي القائم» فضاءات مثل اليسار الراديكالي الحاضر بشكل قوي على مستوى الطلبة والخرجين العاطلين عن العمل وكذلك الحركة الثقافية الأمازيغية، مشيرا إلى أن الفضاء النقابي في الحسيمة مستقل عن قرارات المركزيات وعن مشاكلها فيما بينها وهذا «أمر غير مرتبط بهوية محلية وإنما باليأس من كل ما يأتي من المركز». الجانب الهوياتي له حضور في الأزمة، ويقول ياسر أن «هناك من يشعر أن الاستهداف له طابع عرقي وليس فقط ضبط النظام العام» لأن في نظره «الريفيون مجموعة هوياتية صلبة استطاعت الحفاظ على وحدتها رغم محاولات الصهر والتدجين التي تعرضت لها» وهو لا يخفي تخوفه قائلا: «ونحن نخاف بعد صعود الهوية الريفية من جديد أن يتم استهدافنا كمجموعة هوياتية ويتم تهجيرنا أو تفكيك نسيجنا الاجتماعي بشكل أو بآخر».
«البام» في عاصفة الاتهام حزب الأصالة والمعاصرة «البام» الذي منحته ساكنة الحسيمة أغلبية المقاعد في الانتخابات التشريعية ويرأس أمينه العام إلياس العماري، مجلس جهة الحسيمة-طنجة-تطوان، مثار سؤال حول ما إن كان هو الآخر زر أزمة سياسي وهو سؤال مشروع. وتوجهت له أصابع انتقاد عديدة تؤشر على أن الحراك دليل على أن هذا الحزب فشل في تسيير الجهة وفشل في لعب دور عراب الوساطة بين الريف والسلطة المركزية. و يقول عبد العزيز أفتاتي، القيادي في حزب العدالة والتنمية (الحزب الرئيسي بالحكومة) ان «البام» البؤس السياسي بإقليم الحسيمة الذي بوأته الدولة العميقة المكانة المعروفة وبالوسائل المعروفة، عليه أن يعتبر وعليه أن يقدم استقالته من تدبير الشأن المحلي قبل فوات الأوان، لأنه فشل فشلا ذريعا وهو جزء من المشكل وهو مستهدف من قبل الاحتجاجات ومن قبل الحراك وهو استهداف موضوعي، في حين ألقى إلياس العماري باللائمة على الحكومة وقال أن مشروع المنارة المتوسط عرف تباطؤا بسبب عدم التزام الشركاء بتوفير مساهمتهم الخاصة، وأن هذا المشروع لو أخذ طريقه كما كان مسطرا له، لكانت الكثير من المطالب التي خرج من أجلها السكان قد تحققت وما كان لمحسن فكري أن يموت بتلك الطريقة لأنه كان سيضمن فرصة شغل كريمة دونما الحاجة للبيع والشراء في أسماك ممنوعة من الصيد. ولا يتردد العماري في التأكيد على أن الجهة التزمت بمساهمتها دون تأخير أو تباطؤ.
حل أم ذريعة حراك؟ شهور قليلة بعد ذلك عرف المغرب زلزالا سياسيا، وتمت معاقبة مسؤولين. إدريس جطو، الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، قدم بالقصر الملكي في الرباط 24 تشرين الاول/أكتوبر 2017 تقريرا يتضمن نتائج وخلاصات المجلس حول برنامج الحسيمة منارة المتوسط، وقال بلاغ للديوان الملكي أن التقرير «أثبت وجود مجموعة من الاختلالات تم تسجيلها في عهد الحكومة السابقة» وأنه أكد «عدم وجود حالات غش أو اختلاسات مالية» وأعلن إسقاط ثلاثة وزراء وكاتب دولة من حكومة سعد الدين العثماني، ينتمون لحزب التقدم والاشتراكية وللحركة الشعبية.
الإعفاءات الملكية وحين أعلنت وكالة أنباء المغرب العربي الرسمية خبر الإعفاءات، كانت محاكمة معتقلي الريف في البيضاء حامية الوطيس وما زالت تجري أطوارها منذ مساء ذلك الثلاثاء الطويل. وصل الخبر إلى قاعة محكمة الاستئناف فأحدث رد فعل قوي بالجلسة، تصاعدت تصفيقات وعلت أصوات تهتف بحياة الملك والعدل دقائق بالقاعة، ونزل الخبر بردا وسلاما على المعتقلين وهيئة دفاعهم التي رأت في القرار نصرة للمعتقلين وردا على النيابة العامة، حين سارع المحامي إسحاق شارية مقاطعا بصوت عال نائب وكيل الملك بشأن رفض طلب السراح الذي تقدم به الدفاع، فور وصول الخبر «جلالة الملك يجيب النيابة العامة بإعفاء وزراء ومسؤولين على خروقاتهم في مشاريع الحسيمة». ناصر الزفزافي الذي كان يمثل أول مرة أمام المحكمة وكان محط نقاش حاد في تلك الجلسة بين الدفاع والنيابة العامة بشأن مآل التحقيق في واقعة تسريب فيديو يبدو فيه عاريا وبسبب ما اعتبره الدفاع تعذيبا جراء إيداعه بزنزانة انفرادية طيلة مدة سجنه، كانت قد ثارت ثائرته بسبب اتهامات النيابة العامة، صدح في قلب المحكمة والحراس يسحبونه خارج القاعة «والله لن تهزموني، لقد آمنت بالقضية ولا يخيفني الإعدام»، هذا لحظات قبل وصول خبر الإعفاءات الذي أشعره بغمرة انتصار إضافية حين عاد للجلسة وبدا منتشيا بقرار الملك «الآن يجب أن يقدموا هؤلاء للمحاكمة» في إشارة منه للمسؤولين المعفيين. وخارج المحكمة أصوات كثيرة رددت كيف يتم استمرار اعتقال هؤلاء إذا كانت المؤسسة العليا في البلاد تقر بوجود اختلالات في المشاريع وهو الأمر الذي ردده نشطاء في الحراك، واعتبره البعض أنه ربما هو زر من أزرار الحراك.
منارة المتوسط يثير تساؤلات إلا أن هناك من كانت له قراءة أخرى تظهر وكّان الفرحة في غير محلها، اسماعيل العلوي القيادي في حزب التقدم والاشتراكية الذي تم إعفاء أمينه العام نبيل بن عبد الله، من مسؤوليته الوزارية جراء «الزلزال»، قال أن «الإخوان الذين أُعفوا، لم يكونوا يستحقون ذلك. وهناك نوع من الكيل بمكيالين، لأن عددا كبيرا من السادة الوزراء الذين يهمهم الأمر والذين وقعوا على الاتفاقية لم يتكلم معهم أحد، في حين أن قطاعاتهم لم تقم بما كان مطلوب منها « مضيفا أن المشكل مطروح في الجوهر وأن مشروع الحسيمة منارة المتوسط يطرح عددا من التساؤلات، لماذا يقال أن رئيس الحكومة لم يكن على علم بفحوى المشروع؟ وعدد كبير من الوزراء لم يكونوا هم كذلك على اطلاع دقيق على مضامينه، إذن من وضع هذا المخطط؟». ويضيف بشأن الأموال المتعلقة بالمشروع «علينا أن ننظر هل هذه الأموال سلمت لوكالة أقاليم الشمال؟ ولماذا هذه الوكالة؟ وهل كان في استطاعتها أن تدبر هذه الأموال التي كانت مبرمجة في مشروع الحسيمة؟ إذا عثرنا على من وضع البرنامج يمكن أن يتقدم هو بهذه التوضيحات». قرار الإعفاءات الذي أطلقت عليه الصحافة «الزلزال الملكي» لم يكن في نظر المعطي منجب، مؤرخ ومحلل سياسي، سوى «زوبعة في فنجان» حسب ما جاء في مقال له تحت عنوان «زلزال ملكي أم زوبعة في فنجان؟ « منشور في «القدس العربي»: «المشكل أن رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران نفسه صرح منذ شهور أنه لم يكن على علم مسبق بالمشاريع المعنية وأنه شاهد مراسيم توقيعها بالتلفاز كباقي المواطنين». وقال «يبدو وكأن هذا القرار يراد به أساسا فعل شيء ما حتى لا يبقى النظام تحت الضغط الكبير الذي أحدثته وعود الملك أمام مجلسي البرلمان، والتي خلقت آمالا وانتظارات غير معقولة عند بعض الفئات المحرومة من قاعدة المجتمع». وجهتا النظر الأخيرتين تلتقيان في كون المشروع الذي تم معاقبة وزراء ومسؤولين على التهاون في تنفيذه، لم يكن يعلم حتى رئيس السلطة التنفيذية بمضامينه، وهي قراءة يستشف منها أن المسؤولية الحقيقية تقع على عاتق جهات خارج الحكومة، وهي فرضية رددها كثيرون بخصوص المسؤولية عن أزمة حراك الريف حيث أشار العديد من المحللين أن الحكومة لا تحكم ولا تحرك ساكنا في ملف الريف وأن «جهات أخرى» هي من تدير ليس فقط أزمة الريف، بل تتحكم في كل أزرار الشأن السياسي في المغرب وتحيط بكل شيء. وذهب البعض إلى اتهام هذه الجهات بعرقلة المبادرات الرامية للحل بعد أن ذهبت بعيدا في صك الاتهامات، والتقرير الذي أعدته مبادرة نور الدين عيوش، المقرب من القصر، حول أزمة الريف والتي أعلن أصحابها أنه تم رفعه ل«الجهات العليا» ذهب التقرير ولم يعد بنبأ. فهل يكون زر الحراك فعلا هناك؟ عودة للوراء، يمكن استنباط أن مشروع منارة المتوسط الذي خلق كل ذلك الجدل وشكل خلفية ل«الزلزال السياسي»، لم يكن يعتبره بعض نشطاء الحراك جوابا على الأزمة التي أشعلت الحراك من أصله. وأحمد الزفزافي، والد ناصر الزفزافي قال إن «مشروع منارة المتوسط هو كماليات» مؤكدا أن النقط التي سطرها الملف المطلبي لحراك الريف لا تتواجد ضمنه، وأن المطلوب هو توفير معامل لتشغيل الشباب كي «لا نأكلهم مع الحوت الذي يأكلهم في البحر» مشيرا لهجرة الشباب وأن الساكنة تنتظر توفير جامعة بالقرب من الحسيمة وتوفير الحق في العلاج. محمد جلول، أحد قادة الحراك ، ذهب في المنحى نفسه حين أجاب في جلسة الاستماع إليه يوم 4 نيسان/أبريل الجاري، القاضي علي الطرشي الذي سأله ما الهدف من مواصلة الاحتجاج رغم أن الدولة أطلقت مجموعة من المشاريع في المنطقة منذ 2015 ان «الدولة نفسها اعترفت بفشل النموذج التنموي في المغرب، هذا النموذج الذي كان السبب في خروج الريفيين إلى الاحتجاج ، وهذا الاحتجاج جعل أعلى سلطة في البلاد تقرر إعفاء عدد من الوزراء، لأنهم فشلوا في المشاريع التي كانت مقررة، بالإضافة إلى أن هذه المشاريع التي أطلقت في 2015 لم تستجب لحاجيات السكان». هذه المعطيات والآراء تجعل الرأي العام أمام تأويلين متضاربين، الأول: أن التنفيذ المثالي للمشروع كان يمكن أن يجنب المنطقة الحراك، كما يذهب إلى ذلك إلياس العماري و«تهاون» المسؤولين هو ربما زر الحراك والذين لم يفوا بواجباتهم وتم إعفائهم هم من ضغطوا عليه. وتأويل ثاني: أن المشروع لم يكن حلا من الأصل و«اعفاء المسؤولين الفاشلين» في نظر تقرير جطو، ليس سوى شماعة لحسابات سياسية بعيدة عن الاستجابة لمطالب الحراك، وقريبة من موضوع «البلوكاج» والمآلات التي اتخذها تشكيل حكومة سعد الدين العثماني منذ إعفاء بن كيران والتي ما زال مخاضها السياسي مستمرا. تأويل يذهب في اتجاه أن من ضغط على زر «البلوكاج» الحكومي وزر الحسيمة، يد واحدة. وإذا كانت الخصوصية الهوياتية والتاريخية لمنطقة الريف قد جعلت البعض يتوجسون من حراك الريف ونواياه ويطلقون تهم الانفصال والأجندات الخارجية وما إلى ذلك مما تداولته وسائل إعلام وحملته المحاضر التي يحاكم بها معتقلو الريف، إلى درجة أن خرجت أحزاب الأغلبية ببلاغ تتهم فيه نشطاء الحراك بالعمالة وتلقي أموال من الخارج والمس بالمؤسسات الدستورية للبلاد وبالوحدة الترابية والترويج للانفصال، فهل انتشار الاحتجاجات بأماكن مختلفة فند هذه الأطروحة في عقل السلطة؟ وإذا كان الأمر فعلا كذلك، فان شبح «انفصاليين» بالريف ربما أيقظ الفتنة»؟ فمن الذي يضع يده على زر يوقظ احتجاجات أخرى في مناطق البلاد؟ وهل الدولة ماضية في تعقب أثر «الانفصاليين» في كل حراك؟