في البدء: كما هو معلوم فالورش الجهوي في إطار الجهوية المتقدمة يرتكز على مبدأ المشاركة لكل الفاعلين وطنيا ومحليا، من مؤسسات عمومية وقطاعات حكومية وأحزاب سياسية ومجتمع مدني ومواطنين وكل القوى الحية داخل المجتمع. وذلك من أجل بلورة التوجهات والتطلعات المرجوة من مشروع الجهوية المتقدمة كما أسست لها الخطب الملكية ودستور المملكة لسنة 2011. فإلى أي حد تحققت هذه الرؤيا الاستراتيجية الهامة التي واكبت هذا المشروع بعد دخول الجهوية الموسعة حيز التنفيذ لما يقارب خمس سنوات من تكريسها الدستوري والقانوني؟ أولا: أسس ومنطلقات عمل مجالس الجهات لقد خص دستور 2011 الجهات والجماعات الترابية الأخرى أهمية بالغة، نظرا للرهان الملقى عليها في تحقيق الاقلاع التنموي المنشود ببلادنا. وبهذا فقد نص في الفصل 136 على '' مبدأ التدبير الحر وعلى التعاون والتضامن'، كما أنه نجد في الفصل 137 ينص على أن الجهات تساهم في تفعيل السياسات العامة للدولة، وفي اعداد السياسات الترابية من خلال ممثليها في مجلس المستشارين. وكذلك نجد الفصل 140 الذي ينص على '' مبدأ التفريع، أي وجود اختصاصات ذاتية للجهات واختصاصات منقولة من الدولة وأخرى مشتركة بينها وبين الدولة ‘. كما يؤكد نفس الفصل على أن الجهات والجماعات الترابية الأخرى تتوفر في مجالات اختصاصاتها وداخل دائرتها الترابية على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها، كما ينص الفصل 141 على أن كل اختصاص تنقله الدولة الى الجهات والجماعات الترابية الأخرى يكون مقترنا بتحويل الموارد المطابقة له. وينص الفصل 145 في فقرته الثانية على أنه '' يعمل الولاة والعمال باسم الحكومة على تأمين تطبيق القانون وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، كما يمارسون الرقابة الإدارية ''. وبالنظر لأهمية المشروع الجهوي الجديد الذي اتخذته بلادنا كخيار للإقلاع التنموي ، وما يتطلبه مسار السياسات التنموية من اعمال لمنطق القرب من الاحتياجات المختلفة لمكونات الساكنة المحلية، وما تحتله إشكالية الجهوية من مركز الصدارة في الحقل السياسي والمؤسساتي، نجد أن الدولة في شخص الحكومة لا زالت لم تستوعب أهمية هذا المشروع نتيجة صراعات وهمية واختلاق حروب "دنكشوطية" بين الفينة والأخرى ويتم عكسها مؤسساتيا في مختلف المناسبات والمحطات، مما يطرح العديد من التساؤلات حول تأثير ذلك على العلاقة المؤسساتية بين الحكومة ومختلف المؤسسات المركزية ومصالحها الخارجية، وكذا المؤسسات الترابية من جهات وعمالات وجماعات ترابية أخرى. ثانيا: مشروع الجهوية الموسعة فشل أم افشال: كما هو معلوم، ولتفعيل ورش الجهوية المتقدمة، يقتضي الأمر إيجاد مؤسسات محلية منتخبة، بنخبة جهوية قادرة على تمثيل المواطنين والمواطنات، في تنسيق وتعاون جاد ومسؤول، بين المركز والمحيط، وبالطبع هذا ما سعى الى تكريسه مجموعة من رؤساء الجهات والجماعات الترابية الأخرى، بعد الانتخابات الأخيرة الأولى من نوعها منذ دخول دستور المملكة لسنة 2011 حيز التنفيذ. وذلك عن طريق القيام بمجموعة من المبادرات الجريئة والمتميزة، في مختلف المناسبات وعلى جميع الأصعدة -استقطاب الاستثمارات الخارجية، فتح مناظرات جهوية همت مختلف المواضيع والانشغالات، في الثقافة والاقتصاد البيئة والأمن وحقوق الانسان... ومختلف السياسات العمومية، ومبادرات متنوعة همت بالأساس دعم قطاعات التعليم والصحة بميزانية الجهة المحدودة أصلا ...الخ-. ونظرا لأهمية تلك المبادرات وجديتها، في صورة توحي بنوع من الندية والتنافسية بين مجالس الجهات والسلطة المركزية في شخص "الحكومة"، تعمل هذه الأخيرة على عرقلة عمل المجالس الجهوية بشتى الطرق الممكنة لإيقاف عجلة التدبير المحلي، بقصد أو بغير قصد، لكنها تصب في تطويع الجماعات الترابية وجعلها تحت رحمة المركز في اتخاذ القرارات المرتبطة باختصاصاتها. يخرج علينا بين الفينة والأخرى رؤساء بعض الجهات بمقالات وتصريحات إعلامية "رسمية وغير رسمية" يشكون فيها ضعف قدرتهم في التجاوب مع متطلبات الساكنة وإيجاد حلول لمشاكلها وانشغالاتها، وقلة الإمكانيات المتاحة لهم، لتنفيذ التزامات الجهات ومنتخبيها اتجاه الساكنة كما يقررها الدستور وقوانينه التنظيمية، وأخرها وليس أخيرها ما صرح به رئيس جهة طنجة-تطوان-الحسيمة، "..حول أدوار المجالس المنتخبة والمنتخبين وممثلي المواطنات والمواطنين..". ويؤكد من موقع ممارسة مهامه الانتدابية على رأس جهة الشمال، بأن "..دور المجلس، بأغلبيته ومعارضته، يكاد ينحصر في استقبال الرسائل من المواطنين والجماعات والجمعيات وحملها إلى الحكومة في المركز. وقد تختلف طريقة الإيصال بين مجلس الجهة ومجلس الجماعة والبرلماني والمستشار، فمنهم من يحمل الرسالة بصمت وبدون ضجيج، ومنهم من يستعمل وسائل مختلفة لإبلاغ معاناة الساكنة وأسئلتهم الثقيلة..". ويؤكد على أن "..ميزانيته جهته لا تتجاوز 450 مليون درهما، يصرف منها جزء مهم في التسيير، وما يتبقى لا يكفي حتى لتأهيل قبيلة واحدة في إقليمشفشاون، وما بالك بجماعة أو إقليم أو الجهة برمتها، ولذلك فإن الدور الذي يتبقى للجهة، بجميع أعضائها، للقيام به هو إيصال الطلبات والحاجيات إلى القطاعات الوزارية المتواجدة في الرباط-المركز..». ويسترسل في التأكيد على أن "دار لقمان لا تزال على حالها" في إشارة الى عدم المرور الى السرعة القصوى، بالرغم من مرور خمس سنوات على تفعيل التقسيم الجهوي الجديد في سياق اعتماد ورش الجهوية الموسعة بما لها من اختصاصات وأدوار جديدة أوكلها لها الدستور والقوانين التنظيمية، حيث قال "..وأعتقد أن دور المنتخبين كان هو نفسه في الماضي، في الوقت الذي كانت فيه وسائل الاتصال تقليدية ومحدودة، فكان المنتخب أفضل وسيط بين الساكنة والمركز، لكن التطور الذي عرفته وسائل الاتصال الإلكترونية والشبكات الاجتماعية والإعلام المكتوب والسمعي والبصري، تنقل كل دقيقة، وبالمكشوف، معاناة وحاجيات ومطالب المواطنات والمواطنين إلى المسؤولين في الرباط". ويؤكد في نفس السياق بأن دور المنتخبين عموما، ومؤسسة الجهة خصوصا، لا يكاد ينحصر في لعب دور الوساطة لإيصال الرسائل الى المركز-الحكومة، في شكل يوحي بنوع من "السعاية المؤسساتية"، كما يؤكد على أن مجالس الجهات ليست كمثيلاتها من الجماعات الترابية الأخرى، بحيث لا تتوفر على موارد خاصة بها ، من قبيل منح الرخص وتدبير النفايات وقطاع النقل وما الى غير ذلك من الاختصاصات التي تسمح بإيجاد مداخيل تنمي مواردها، بحيث أن جل مواردها تعتمد بالدرجة الأولى على قروض وتمويلات الحكومة، وهي بالكاد مصاريف لا تكاد تغطي مصاريف التسيير وتدبير بعض المرافق الخدماتية الضرورية، ويتساءل عن الإمكانيات المتاحة في ظل هذه الظروف المالية الاستجابة لمطالب المواطنات والمواطنين في فك العزلة وتقديم الخدمات الصحية ومواجهة قضايا التعليم والبطالة والهشاشة الملقاة على عاتقها كجماعة ترابية ؟ ومن منطلق الواقع العملي الذي تجسده تصريحات الممارسين والمسيرين لأول تجربة جهوية بعد دستور 2011، نتساءل، من يتحمل مسؤولية عرقلة هذا الورش الهيكلي الهام الذي اتخذته بلادنا كخيار لا رجعة فيه؟ وهل حقا نحن أمام جهوية موسعة باختصاصات موسعة كما كرسها الدستور؟ أم أننا لا زلنا نعيش على وقع تدبير جهوي بعقلية مركزية متحجرة، المحكوم بنزعة الخوف من توسيع هامش الحكم المحلي؟ وان كان الأمر كذلك فعلا، هل يمكن اعتبار مشروع الجهوية الموسعة جاء متسرعا؟ وهل الأمر يرجع الى عدم توفرنا على نخب محلية قادرة على تنزيله كما هو مخطط له؟. ثالثا: العودة لتكريس سلطة الوصاية المفرطة على الجهات والجماعات الأخرى: من الأمور التي تؤرق بال المنتخبين وهيئاتهم، خاصة مؤسسة الجهة كأعلى هيئة ترابية، التطاول الذي تقوم به وزارة الداخلية على أدوارهم واختصاصاتهم، حيث أن "الحراك الاجتماعي" الذي يعرفه إقليمالحسيمة على سبيل المثال، كشف عورة الدولة وزيف شعار "الجهوية الموسعة" من خلال ما يضمنه الدستور والقوانين التنظيمية المؤطرة لها من اختصاصات وأدوار. حيث أن وزير الداخلية وممثليه على المستوى الترابي من والي وباشوات وقياد، داسوا على كل القوانين، وكل ما استجد على مستوى الوثيقة الدستورية التي صوت عليها المغاربة في 2011، في تجاوز خطير لأدوارهم المحددة بموجب الدستور، خاصة ما نص عليه في الفصل 145 الفقرة الثانية على أنه '' يعمل الولاة والعمال باسم الحكومة على تأمين تطبيق القانون وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، كما يمارسون الرقابة الإدارية ''. بحيث عملوا على سحب البساط من الممثلين والمجالس المنتخبة خاصة على خلفية أحداث إقليمالحسيمة، وراحوا يحاورون الناس في الشوارع والصالونات بشكل انفرادي، وينتدبون المواطنين ويكلفون لجانا شعبية بتنفيذ المشاريع وحل المشاكل العالقة، دون علم المجالس المنتخبة بذلك، الأمر الذي يمس جوهر العملية الانتخابية برمتها، دون وجود سند قانوني للقيام بذلك، ولا طريقة قانونية لصرف تلك الميزانيات المرصودة للقيام بتلك المهمات ولا من يتحمل مسؤولية صرفها، وفي ظل غياب تام لأي سند قانوني في حالة وجود خروقات في صرفها؟ انسجاما والمبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة. سلطة الوصاية المتمثلة في شخص وزارة الداخلية، بدى وكأن الهاجس الأمني ونزعة الخوف وعدم الثقة في المنتخبين، كانت سببا كافيا للدوس على كل المكتسبات الدستورية التي ضمنتها الوثيقة الدستورية بعد تفعيل الأدوار الجديدة للجهات والجماعات الترابية الأخرى، حيث ضربت عرض الحائط أدوار كل وسائل الوساطة من جماعات وجمعيات المجتمع المدني وأحزاب سياسية، مما ساهم في تعقيد الأوضاع وإعادة سيناريو الوصاية المفرطة التي اعتقدنا أننا قطعنا معها بمجرد دخول المغرب في مسلسل تفعيل التجربة الجهوية الجديدة. الأمر الذي يطرح معه مدى جدية دخول المغرب في دعم مسلسل اللامركزية باختياره التجربة الجهوية الجديدة المشمولة باختصاصات واسعة مضمونة بموجب الدستور؟ كما أن مسالة عدم الثقة وتفعيل سلطة الحلول تلك، تطرح معه إشكالات عديدة، هل الأمر يتعلق بعدم وجود نخبة محلية قادرة على لعب الأدوار الدستورية والقانونية المنوطة بها في حل المشاكل العالقة والتجاوب مع انشغالات الساكنة المحلية المعقدة؟ أم أن الأمر لا يغدو مجرد تصفية لحسابات سياسية ضيقة، على حساب القضايا الأساسية والجوهرية التي على أساسها يمكن أن نحكم بجدوى وجدية مشروع الجهوية الموسعة في أساسه؟ ألا يستدعي الأمر هنا تدعيم اختصاصات مجالس الجهات والجماعات الترابية الاخرى للقيام بأدوارهم الدستورية، من خلال دعم ميزانياتها بما يتناسب والمهام الملقاة على عاتقهم، وبالتالي التجاوب مع انشغالات الساكنة وتقديم الحلول المناسبة؟ كما يؤكدها الدستور بكون الجهات والجماعات الترابية الأخرى تتوفر في مجالات اختصاصاتها وداخل دائرتها الترابية على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها، كما ينص الفصل 141 على أن كل اختصاص تنقله الدولة الى الجهات والجماعات الترابية الأخرى يكون مقترنا بتحويل الموارد المطابقة له. أم أن هناك نية مبيتة للإبقاء على الوضع الحالي، دون وجود رغبة في دعم ديمقراطية التسيير المحلي؟ على سبيل الختم. نتيجة لكل ما أسلفنا ذكره ، وباستحضار مختلف المقتضيات القانونية المرتبطة بتنزيل الجهوية وعلاقة المركز بالمحيط ، ونظرا للدور المحوري الذي منحه المشرع للجهات والجماعات الترابية الأخرى ، لا يمكن الا القول بأن اللامبالاة والسلوكيات اللامسوؤلة للحكومة ووزرائها الممثلين لمختلف قطاعاتها، بامتناعهم عن دعم الجهات والجماعات الترابية الأخرى والتشبث بأساليب الماضي ومعاملة الجماعات الترابية ك"قاصرين" وأنهم مجرد وسطاء لتبليغ الرسائل والشكايات عكس ما يقرره الدستور والقوانين المؤطرة لمهام ممثليها الانتدابية، والتسريع بإخراج المراسيم التطبيقية لاختصاصات رؤساء الجهات نظرا لأهميتها الراهنة ، ما هو الا تكريسا للعقلية المتحجرة التي ميزت التجارب الجهوية السابقة التي عرفها المغرب ، والتي بدون أدنى شك ستكون لها نتائج وخيمة على مستوى تعقيد سيرورة بلورة مشروع الجهوية المتقدمة في ظل استمرار هذا التشنج غير المبرر في العلاقة بين المركز –الحكومة-، والمحيط – الجهة- ، نظرا لتأثير ذلك على عملية بلورة مشاريع منسقة ومندمجة، الهدف الأساسي منها تحقيق اقلاع تنموي ينطلق من القاعدة الى القمة ، وفق مقاربة تشاركية قائمة على خطط استراتيجية مبنية على النتائج الملموسة على أرض الواقع . عبد الخالق بن العربي