لا زالت الأقلام الفكرية و السياسية تكتب عن الربيع فتحلل منحنياته و مآلاته على ضوء إفرازات الواقع الراهن و لا زالت في المقابل تتراكم الأحداث لتلقي بضلالها على مستقبل الدول و آفاقها، فهذا الربيع الذي بدأ ثائرا على الوضع السياسي و الاقتصادي و الأخلاقي و قام متحديا لسلطات الجبر السياسي عبر استنهاض هِمم الشارع للتصدي للفساد و الاستبداد صار الآن متهما من طرف بعض الأقلام بفعل حصيلته التي آلت إليها على ضوء استعصاء تحقيق قَدَر من الاستقرار المنشود ، بل بدا ذلك عند البعض الآخر خطأ قاتلا أنتجَ في زعمهم فتنا و كوارث اجتماعية فاقمت من حالات الهشاشة و الركود بدل تغييرها و إصلاحها ! للأسف الشديد، لازالت الثقافة الانهزامية و هاجس مطلب التحقق الاستعجالي تحكمان عددا لا يُستهان بهم من أفكار الناس فيقعون في مطبات الاستسلام للأمر الواقع و يتحولون "أدوات" لصناعة أجواء الهزيمة قولا و فعلا و يصيرون بذلك أعوانا و أسياطا للدول الظالمة تُنقِذ بهم سلطانهم من السقوط السريع . و يا للمفارقة ، فالانهزاميون و الاستعجاليون كانوا قبل قيام حركات دفع عجلة الفساد السياسي ساخطين و حاقنين على أوضاع التخلف المادي و أشكال الاستئثار السلطوي القهري إذ لم يكونوا يكفّون عن نقد مستويات العيش الاقتصادية الرديئة و لم يكونوا يرون في طبيعة الحكم الاستبدادي غير نمط قهري هو أم البلاوى بامتياز ، لكنهم مع ذلك تحولوا لوقود للسلطة الغاشمة يُثبطون عزائم الثوار و يرددون روايات الظلمة بعد أن يسري فيهم داء العجز قطعا ، فالكلام مع هذا الصنف من الناس لا يجدي نفعا إذ مشكلتهم تكمن أساسا في سيطرة النزعة الاستسلامية و غلبة الذات المفردَة على عيش الآخر و تقديم مصلحة الفرد على مصير الجماعة، فمتى ما صار الإنسان يفكر ليعيش لحظته هو بعيدا عن المصير المشترك فذلك مؤشر على ضعف "العقل الجمعي" و دالّ على تسوّس المجتمع من الداخل، و للحقيقة أن نصارح بأن قطاعا واسعا من الناس في مجتمعاتنا التي تحكمها في الغالب قوى مُتغلِّبة سيفية تستحق أن تعيش مُستَبَدّة خصوصا بعد أن طفحَ عجزهم و بانت سلبياتهم الخطيرة في عدم مناصرة المستضعفين الذين تحملوا الضربات لوحدهم، فليس هناك من تبرير منطقي يُسوِّغ للمتقاعسين و المنبطحين القعود عن حمل رايات الذود عن مصالح الجماعة بعد أن طالت سياط الطغاة كلّ ناقم على الضيم و أجهزت على كل المقومات الأخلاقية و المادية و سوست العقول على امتداد لا حصر له، و بعد أن ضرب الديكتاتوريون جذورهم في القهر السياسي و أداروا الأزمنة عليهم طويلا . لا مبرر البتة بعد أن حانت لحظة إعادة الكرامة التي ضاعت بين السنين بضياع الحكم الرشيد. بَلِهَ عقل البعض لما حسِبَ التغيير فُسحةَ تنزّهٍ يَعبُر بها الفاعل جنان القصور بسلام ليتسلّم مفاتيحها ببساطة ، و ازداد بلهُه عندما أقعد نفسه في ركون نافذة يسترق منها صيحات جماهير ثائرة فلا يجد غير حيلة التأشير لهم بعلامات النصر القريب عجزاً ، من فوق السطوح ترى الوجوهَ العاجزة القادرة تنتظر أن يجودَ الثوار عليهم بالعزة و لمّا يلجَ الجمل في سم الخياط ! و على جنبات قارعة طريق تلحظُ شخصا أو أشخاصا هنا أو هناك يتبلطحون على كراسي المقاهي يتمتمون أو يتبلطجون بالاستنكار و التأفف ، و بين هذا و ذاك تسمع لجبري مُستبَدّ كلاما يبشُّ في وجه صاحبه ساخرا من "الحمقى" الثائرين دون غضاضة. الربيع الزاهر لا يمكن أن يكون كذلك إلا باجتماع عوامله و إلا صار خريفا ينتظر ربيعا جديدا، فالذين يتصورون عملية تغيير طبيعة حكم قهري تصورا عاطفيا دون رصد شروطه و تحقق الاقتناع الجماعي بضرورته (أي التغيير) و تحقق انتفاء موانعه إنما هم في الحقيقة لقمة سائغة لأنظمة صارت أدواتها في التنكيل و البطش عريقة، و ما لم تكن الجماهير الواسعة في مقدمة تحقق شروطه فإن إجهاض عملية الحراك و إفشال سحب البساط من تحت الظلمة ليس بالأمر الصعب على سلطة احترفت ابتلاع بؤر ثورية هنا أو هناك . إن البناء الجماهيري الجمعي رقم محوري، فهو يسمح بتسهيل و تسريع تقويض البنيان التسلطي و يُحدث ارباكات شديدة و يُرعب أزلام أعمدة النظام و يضغط باتجاه انتزاع تنازلات مهمة ، لكنه مع ذلك ليس الرقم الحاسم في معادلة التغيير الجذري و النهائي إذ قد يبتكر المستبدون طرقا مختلفة لشق الجماهير و زرع أسباب التفرق و تقطيع الكتلة الواحدة إلى كيانات يسهل قضمها فيما بعد ، فضلا عن كون الجماهير حتى لو تمكنت من إسقاط نظام متعفن أو إصلاحه من الداخل فإن القضية لا تبدو منتهية و لا يكون ذلك دليلا على نجاح الحراك الثوري ، بل قد يكون سببا لعودة الفاشية من جديد بأقنعة جديدة ( مصر نموذجا) أو قد يتنازع الجماهير فيتحامسوا فتحرض النخب الاستئصالية بعض الجماهير لمواجهة الآخر فتضعف بذلك سلطة الدولة و تنهار قيم التعايش السلمي ( تونس) فيدخل الطغاة من باب آخر و تحت مسميات مختلفة ، أو قد تتحكم الايديولوجيا المتحجرة في بعض قيادات الجماهير فترسل ألسنتها على المختلف معه في عز الحراك فيتسبب في هدم المشترك و تسود الفوضى في المعترك و يضيع الإصلاح المُنتظَر ( المغرب) . مخاضات تغيير الخريف إلى ربيع في خريطة السياسة و المجتمع ليست أمرا مُعادَلاتيا تُحسبُ بعدد الجماهير الثائرة- و إن كان عامل الكم ضروريا كما قلنا – إذ لا مناص من تحليل بنياتها الذهنية لإدراك مدى اقتناع الشريحة الساحقة بنُبل فعلهم التغييري و إلا فإن القضية لا تعدو أن تكون غثائية منخورة لا تملك القدرة على الصبر على موجات العنف السلطوي و ضربات لواحقها من البلاطجة الصغار المعدود أمرهم في سلك أعوان الظلمة ، فالجماهير العاطفية أو السريعة الذوبان و الانهزام كتلة بشرية لا تجدي نفعا مع حدة شراسة قمع أنظمة الاستبداد و لا تناسبها في إحداث توازن مع أجهزة الدول المحترفة قمعا و سفكا ، لذلك يُلاحَظ كيف تخف جذوة الصوت الجماهيري بمجرد تحرك أنظمة الاستبداد نحو استئصالها بالعنف و لغة البنادق لتتفرق فيما بعد شذرا فتتلاشى نهائيا كما تتلاشى الغيوم في اليوم الحار . إن الصمود يقتضي بناء بشريا جماعيا متينا، متشبعين بهموم الجماعة و متسلحين بروح الثقة لا تزعزعهم وعود الظالمين و لا تثنيهم ضربات المستكبرين، جماعة جماهيرية أو جماعات جماهيرية تنزل بثقلها في الميدان لبذل طاقاتها أملا في صناعة تغيير حقيقي يُعيد البسمة للقطاعات المهضومة و المكونات المظلومة، أما تسلق المنازل و إطلاق تهكمات و انتظار اللقمة الجاهزة فلا يحسنه إلا عجزة قادرة .. يُتبع بحول الله