جرت العادة عند عقلاء الناس أن يتحفظوا من تتبع نوايا الفاعلين والقائلين، ويعتبروا هذه النوايا من الأسرار الخفية التي لا يعلمها إلا الله تعالى وأصحابها. وإنما سميناهم عقلاء لاستلزام هذا الاعتقاد الأخلاقي العقل قبل الشرع، وإنما جاء الشرع ليؤكد هذه الحقيقة، ويحذر من مغبة التمادي فيها، لما يترتب عنها من فساد العلاقات، وظلم الأبرياء، وهتك الحقوق. ولقد ظل الصراع التاريخي بين التيارين الإسلامي والعَلماني المتطرف، في خلال المعارك الأيديولوجية، وأثناء المناوشات الفكرية والسياسية، يتأسس على ردود أفعال، منطلقها الأساس، هو الهتك المُتعمَّد للنوايا والمقاصد، السابقة أو اللاحقة للأعمال والقرارات، أو الأقوال والتصريحات. وهكذا، وعبر تاريخ هذا الصراع، لم يتوقف أحد المتصارعيْن عن غمز نوايا خصمه، وتأويل مقاصده؛ بالتشكيك، والاتهام، والتحذير، والتكفير،... فلقد اعتدنا أن نسمع من هذا التيار العَلماني، كلما حرك إسلامي أو عالم لسانه بحكم، أو فتوى تُشَرِّح فعلا صادرا منه، واستلزم بيانا؛ شكاوىً، واتهاماتٍ، بهتك النوايا التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وأن الله وحده هو الذي يتولى السرائر، وهو وحده الذي سيحاسب عباده، ووو...في حين لا يجد هذا التيار- أقصد المناوئ منه بالخصوص- أي غضاضة حينما يلِغ في نوايا خصمه الإسلامي، ويشتغل على تحليلها، وتأويلها، وفق هواه هو، وما تشتهيه نفسه، مما يخدم أجندته السياسية في صراعه مع خصمه. فيسهل على هذا التيار المناوئ أن يصدر تهما ثقيلة في حق خصمه الإسلامي بمجرد ما يلمح من كلمةٍ ينطق بها، أو عملٍ يصدر عنه، ما يفيد تُهَمَه المُبَيَّتة في حقه. إذ الإسلامي، عند خصمه، العَلماني، متهم حتى تثبت براءته. وليس غرضي من هذا الكلام، سوى ما لا حظته، في الآونة الأخيرة، من استشراء هذا الهتك المتعمد للنوايا، مع تزايد الحرب ضد التيار الإسلامي، وتشتت هذا التيار إلى مُزَقٍ فكرية و"فقهية"، بين المتطرفةِ الْبَيِّنِ تطرفها، والمعتدلة التي اختارت الوسطية والاعتدال في المقاربة والتسديد، وسواها من الطوائف. حيث أصبح التفريق بين هذه الطوائف، عند هذا التيار المناوئ، غير ذي جدوى، إذا تعلق الأمر بمضمار المنافسة السياسية، والصراع على الكراسي والمناصب. فبنكيران مثل البغدادي، وأردوغان مثل ابن لادن، والغنوشي، صورة طبق الأصل للظواهري،... وهكذا. فالإسلاميون، عند خصومهم، ملة واحدة. الفرق الوحيد بينهم هو مقدار "التقية" التي يلوذ بها كل واحد منهم. فالبعض اختار الكشف عن وجهه (مشروعه الإرهابي) الحقيقي منذ البداية، والبعض الآخر فضل التريث، واختار الصبر والمصابرة، في انتظار التَّمَكُّن، للإعلان عن مشروعه الإرهابي(!) في الوقت المناسب !. فبنكيران والبغدادي- زعموا !- وجهان لعملة واحدة. غير أن الأول اختار "التَّقِيَّة" المغلفة بالديموقراطية والحداثة، وحقوق الإنسان،... والثاني كشف عن وجهه البشع منذ البداية، و"جاءها من الآخر"، ولم يُمْهِل نفسه للتَّمَكُّن السَّلِسِ، فاختار أن يُنَزِّل مشروعه الإرهابي بِحَدِّ السيف . وهكذا في تحليل عجيب وغريب، ينتهك خصوم التيار الإسلامي الوسطي المُؤَسَّسِي، النوايا والقناعات، ويؤسسون لعجائب وغرائب، تُحيِّر الألباب. في حين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها حينما ينبس الإسلاميون والعلماء ببنت شفة في حق جرائمهم الأخلاقية التي لا تنتهي، وتجنياتهم في حق الدين، وأحكامه، وشرائعه؛ استهزاءً وسخرية. وتجرؤ بعضهم على الإساءة إلى نبي الإسلام، وصحابته،...بل وإلى الذات الإلهية نفسها !. ولقد حاولت طائفة من هذا التيار المناوئ، إبان قرار إخوان بنكيران المشاركة في العمل السياسي منذ ما يناهز العقدين، أن تجند كل ترسانتها الكيدية عبر الإعلام، وتشتغل على النبش في كل الأخطاء التي ارتكبها إسلاميو العالم عبر التاريخ المعاصر، والمسلمون خلال عصور حكمهم المختلفة، وعرضها، والتحذير من مغبة سقوط المغاربة ضحية لها، إذا وقعَ وصوَّتوا لهذا الحزب الظلامي المستبطن لبذور التطرف والإرهاب، المُظْهِر عكس ما يُبطِن !. فكانت الجرائد المناوئة تضِجُّ بمقالات يومية، تحذر مما سيقدم عليه هذا الحزب، إذا صعد إلى الحكم، من تحريم الفن والإبداع، وإغلاق دور المسرح والسينما، وفرض الحجاب على النساء، واللحية على الرجال، ومنع الاختلاط في المدارس، والحافلات، والشواطئ،...مما سيعيد المغرب والمغاربة إلى عصر الإماء، والحريم، والجلد، والقطع،.. !!. حتى إن أحد دهاقنة هذا التيار لم يتردد في تقديم مقارنة بين الحزب الإسلامي المغربي الذي قبل بالمشاركة السياسية وفق الأجندة المخزنية آنئذ، وقاعدة ابن لادن، بعد أحداث 11 شتنبر؛ ليخلص أن كليهما على أرضية مشتركة، وأهداف موحدة، وإن اختلفت الوسائل والسبل!!. وها نحن نشهد اليوم- بعد مرور سنوات على هذه التحذيرات التي لم يتحقق منها شيء لسوء حظ المتربصين !- على عودة ذات الأسطوانة المشروخة، تلوكها ألسنة وجوه شائهة، اختارت أن تقدم خدمات مجانية للخصوم العالميين لهذا التيار الذي اختار أن يلج حلبة الصراع السياسي، كأي حزب سياسي قبل بشروط "اللعبة"، بعد أن كان ممنوعا، ومحاصرا. ولئن كان طبيعيا – بل واجبا- أن تتوجه سهام النقد الباني، للسيد بنكيران وحكومته، من قبل المعارضة، والخصوم، وعامة الشعب المغربي، بحكم وضعه الاعتباري في سلم المسؤولية في هذا البلد، ودوره الثابت في الإصلاح والتغيير، وتحمله المسؤولية الأخلاقية والسياسية في تفعيل البرنامج الحكومي الذي تعاقد به مع الشعب المغربي، و في تنزيل مقتضيات الدستور؛ فإن الذي لا يبدو طبيعيا ولا مقبولا، هو النبش في نواياه، وتأويل أفعاله وأقواله، بإصدار الاتهامات الثقيلة في حقه، بناء على تَخَرُّصات لا دليل عليها البتة، اللهم الرغبة في استعداء الملك والشعب ضده، لتحييده وحزبه من ساحة الفعل السياسي، والممارسة الحُكمية، ليفسح المجال للعودة إلى دفة الحكم بأقل تكلفة،.. والْتذهبِ الديموقراطية والانتخابات بعد ذلك إلى الجحيم.. !. إننا، ورغم اختلافنا مع السيد بنكيران في تدبيره لمجموعة من الملفات، لا يمكن أن نقبل أبدا بأن ينبني الصراع معه على قاعدة الحسابات الشخصية، والمزايدات السياسية الفارغة، والاتهامات المجانية للنوايا والأفكار. لإيماننا بأن الصراع الديمقراطي الشريف هو ما تأسَّس على تقديم البدائل الحقيقية أمام الشعب؛ في التعليم، والصحة، والإدارة، والقضاء، والخدمات،... أما سياسة الضرب تحت الحزام، وقراءة "الطوالع"، وإصدار التهم كما اتفق؛ فذلك أسلوب لا يليق حتى بأفراد الناس ممن يحترمون أنفسهم، بَلْهَ من يتزعم الناس ويدعي أنه البديل المنتظر.. فالغاية لا تبرر الوسيلة، والله طيب لا يقبل إلا طيبا.. !