ما يجهله العديد من المغاربة هو الاعتقاد الراسخ لديهم بأن فقدان اللسان الامازيغي يعني لدى فئة منهم أنهم شيء وبقية الشعب شيء آخر ، ويتضح ذلك من خلال مجموعة من التصريحات و المواقف سواء منها العفوية أو المقصودة ، أو تلك الشهادات التي لا يأتي الارتيابُ أصحابَها زعما بيقينية حُكْمهم الذي لا يقبل المناقشة أو المزايدة. إلا أن اللسانيات الاجتماعية – إلى جانب العلوم الانسانية الأخرى - تقول غير ذلك وتسقط أقنعتهم الهشة - التي لم تعد وجوههم تقبلها - في خبر كان. لتسليط الضوء على هذه النقطة كان من الضروري القيام بسرد مقتضب لأحداث تاريخية شكلت المنعطف الذي أفلت فيه شمس الحقيقة عن أنظار من يعتقدون أنهم في أعلى العليين مواطنةً تيمنا بوعي زائف الذي اتى على الانجلاء. فلقد لعبت الظروف التاريخية و السياسية و الاجتماعية التي طبعت الجانب المسكوت عنه في التاريخ المغربي المعاصر دورا هاما في استغلال الوضع القائم غداة الاستقلال الذي كان يتميز بالفراغ السياسي المتجسد في اعتماد الدولة على جهازين سياسيين : جهاز تقليدي شكل استمرارية النموذج المخزني لما قبل الاستعمار و جهاز عصري مؤسساتي يعقوبي تبثته الادارة الفرنسية من خلال المؤسسات الادارية و العمومية ، في المقابل هناك تفكيك شبه نهائي للنظم السياسية للمجتمع الامازيغي، تفكيكٌ ساهمت فيه القوات الاستعمارية بحصة الأسد. فهذا الوضع تم استغلاله من طرف الأسر المعروفة بمذهبها البراغماتي المبني على المصالح الذاتية ومن طرف النخب المدينية المتعلمة والحاملة لأول مرة في تاريخ المغرب للخطاب القومي العربي العفلقي (نسبة إلى ميشيل عفلق). فاتحدا الاثنان على بناء دولة عربية ستُعيد تقديم ترشيحها لجامعة الدول العربية بعد أن رُفض طلبها الاول في الاربعينيات من القرن الماضي ! فبدأ المشروع اولا بمقاطعة دستور 1962 ومن بين أسباب هذه المقاطعة حسب الملك الراحل الحسن الثاني في أحد حواراته الصحفية، أن هذا الأخير رفض تسمية المغرب ب"المملكة العربية المغربية" على غرار الجمهورية العربية المصرية، والجمهورية العربية السورية، و المملكة العربية السعودية.... إلا أن رفض مقترحهم لم يمنعهم من مواصلة مشروعهم في تحقيق وطن عربي من المحيط إلى الخليج، فكان التعليم بمثابة المشتل الذي أنبت أولى المفاهيم القومية التي تعتبر المغرب بلدا عربيا، فبدأت صناعة الشعب "العربي" على حساب شعب آخر احتفظ بكل خصوصياته التي يجسد اللسان أبرزها، فكانت تنظيرات القوميين ترتكز على تعريب الحياة العامة في بداياتها وبعد سنوات على الممارسة ، اتضح أن هذا الهدف لن يتأتى إلا بإماتة "اللهجات البربرية"، في حين تنبأ آخرون لهذه "اللهجات" بالانمحاء و الاندثار في غضون عقود مع رفع وثيرة التعريب. حاملو هذا الخطاب مات معظمهم وبقيت الامازيغية حية ترزق ، بل تقوّت و تهيكلت أكثر مما كانت عليه ، لكن رحيل هؤلاء خلّف ضحايا من بني جلدتنا، اعتنقوا تنظيراتهم وقدسوها، جعلوا من الوهم حقيقة وبعد انجلاءه تمسكوا بقشور العناد، وأصروا على مشروعهم الذي على أساسه بنيت وطنيتهم. هذه الاحداث التي أتينا على ذكرها ساهمت في خلق نوع من اللاتوازن الاجتماعي بين مكونات الوطن، فكان الاقرار جهرا بالانتماء الى المكون الاصلي وصمة عار وجب ازاحتها من خلال التخلي عن اللسان و تعليم اللسان الدارج للحظي بميزات اجتماعية تتجاوز المواطنة بمفهومها المعروف، فكان لهذه التطورات أثر بالغ على تصرفات جزء من الاباء وبالخصوص جزء كبير من المهاجرين إلى الحواضر التي ستتحول فيما بعد إلى مدن كبرى، حيث اعتمد هؤلاء على سياسة تعريب ابنائهم ، فحظي اللسان الدارج بميزات اجتماعية في مقابل الصاق النعوت القدحية إلى الناطقين بالامازيغية ، فأصبح الامازيغي في نظر هؤلاء ذلك الأمي (وهو التعريف الذي أعطاه المهدي بن بركة للانسان الامازيغي) ، أو ذلك الجاهل الذي لا يعرف أن يتكلم أو يتصرف بسلوك حضري (وليس حضاري)، فشكل هذا الوازعُ الاداةَ التي سارع العديد من المواطنين إلى قطع الصلة بها و الاصطفاف في الجانب الاخر، تمهيدا لسبي القليل من " البريستيج" الاجتماعي الذي سيقيه – زعما - من الكلام المباح. هذا السلوك المتداول في الاوساط الاجتماعية زكّته الحملات الاعلامية و المقررات الدراسية التي تؤكد على ما هو متداول بل ساهمت في تداوله ، مما حدى بالعديد من الافراد بالتضحية بلسانهم للوقاية من تسليط اللسان الاخر. التضحية باللسان يعني مما يعنيه الخروج من كل ما له صلة بما يحمله باعتباره وعاء للفكر و الثقافة و التقاليد و العادات و لنمط العيش كذلك. فتربت أجيال واكتسبت تنشئة اجتماعية تنقص و تنحط من قيمة الامازيغي و تموقع أفرادها خارج الانسية الامازيغية : هكذا يعتقدون. فأصبح اللسان بمثابة المعيار الوحيد الذي على أساسه يصنف المغربي على أنه أمازيغي او أنه شيء آخر. و هكذا يعتقد المغاربة الفاقدين للسانهم الامازيغي -عن وعي أو عن غير قصد - أنهم شيء و بقية الشعب شيئا آخر. فبالرجوع إلى اللسان الدارج فغالبا ما يكتنف اجابات بعض فنانينا غموض – شأنهم في ذلك شأن العديد من المواطنين - كلما سئلوا لماذا لا يفهم المشارقة الدارجة المغربية وغالبا ما تكون اجاباتهم ساذجة تنم عن جهل ببلدهم وبتاريخهم وهو ما يجعل بعضهم يستغني عنها ويقدم ما تجود به قريحته بالمصرية أو اللبنانية ولهم الحق في ذلك. فغالبا ما يقدمون اجاباتهم خارج المحيط السوسيولساني الذي تعيش فيه الدارجة وكأنها لغة لقيطة فتح المغاربة أعينهم فوجدوا أنفسهم يتحدثون بها. ما يجهله الكثيرون هو أن الدارجة عبارة عن نتاج التعريب القسري للشعب عبر مراحل تاريخية شكلت مرحلة ما بعد 1930 أخطرها و أسرعها نظرا للأدوات المسخرة لذلك وحققت ما لم يتم تحقيقه على مدى 14 قرنا. أغلب البحوث الجامعية و الدراسات التي تناولت الدارجة من منظور اللسانيات واللسانيات الاجتماعية توصلت الى نتائج ، لا ينكرها إلا جاحد، تتجسد اساسا في عملية التثاقف الحاصلة بين الامازيغية ولهجات القبائل العربية – القليلة العدد- الوافدة ابان القرن الحادي عشر في عهد الموحدين ، منذ تلك الحقبة و التعريب مستمر، لكن بشكل بطيء وغير ممنهج. وبالتالي فالزعم بوجود ما يمكن تسميته ب"الصراع اللغوي" لم يكن له وجود في قاموس المغاربة على مدى التاريخ و الحقيقة أن هذا "الصراع" لم ينشأ الا في مغرب القرن العشرين، مغرب تبني الابادة اللغوية والعرقية باسم العروبة و تنظيرات القوميين الطامحين لبناء وطن عربي خالص. ففي ما مضى كان للمواطن حق التكلم بلغته الام دون ادنى احساس بالدونية أو الاقصاء، وكانت الامازيغية لغة الحياة في شتى المجالات، فلم يكن المواطن يحس انذاك انه مستلب أو أنه ضحية لممارسة عملية التعريب. ولنا عبرة في عظماء المغرب من امثال يوسف بن تاشفين الذي كان لسانه لا يجيد غير الامازيغية، او المهدي بن تومرت الذي ألف بلسانه الامازيغي كتب من قبيل : "التوحيد" و "المرشدة" التي لم تصلنا للأسف (والسبب معروف) وما لم نطلع عليه خُبْرا كان أعظم...