وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيمة لأمته في حجة الوداع(1) قال تعالى : "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمومنين رءوف رحيم، فإن تولوا فقل حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم"(2). كان لخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع شأن عظيم إذ هي وصية مودع، والمودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول والفعل، وقد عرّض في إحدى خطبه في حجة الوداع بذلك فقال : "فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه"(3) وطفق يودع الناس، فقالوا : هذه حجة الوداع، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في شأن هذه الخطب : "فو الذي نفسي بيده إنها لوصيته صلى الله عليه وسلم إلى أمته"(4). وخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع متعددة، منها خطبته يوم عرفة(5) ومنها خطبته يوم النحر(6) ومنها خطبته بمسجد الخيف بمنى(7) وخطب ومواعظ أخرى بحجة الوداع أدمجنا بعضها في بعض لتيسير حفظها على المسلم في هذا العصر. خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في حجة الوداع فقال : "يا أيها الناس : أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم حرام قال : فأي بلد هذا ؟ قالوا : بلد حرام قال : فأي شهر هذا ؟ قالوا : شهر حرام. قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا إلى يوم تلقون ربكم(8) ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وربا الجاهلية موضوع، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إذا اعتصمتم به : كتاب الله؛ وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد، اللهم اشهد (ثلاث مرات)(9) ، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع(10) ورب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه(11) فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض(12) أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك... أيها الناس : اتقوا ربكم وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة مالكم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم(13) ألا أخبركم بالمؤمن ؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب(14) ... ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن : إخلاص العمل لله، والنصيحة لولي الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تكون من ورائهم(15) من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا، فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له(16) ... أيها الناس : ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلّغت ؟ قالوا : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم (17) . ثم قال : ألا إنما هن أربع : أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا ولا تسرقوا(18) ... ألا وإني فرطكم على الحوض أنظركم، وإني مكاثر بكم الأمم فلا تسوّدوا وجهي، ألا وقد رأيتموني وسمعتم مني، وستسألون عني، فمن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار، ألا وإني مستنقذ رجالا أو ناسا، ومستنقذ مني آخرون، فأقول : يا رب أصحابي، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك(19) ... ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا أبدا، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم، فيرضى بها (20)." وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، ألا ومن ادعى لغير أبيه أو تولى غير مواليه رغبة عنهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا(21) .. ما بعث الله من نبي إلا أنذر أمته المسيح الدجال، أنذره نوح والنبيون من بعده، وإنه يخرج فيكم، فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم، إن ربكم ليس بأعور، إنه أعور عين اليمنى كأن عينه عنبة طافية (22) .. أيها الناس: إنه لم يبق من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه(23) ألا يا أمّتاه هل بلغت ؟ (ثلاث مرات)، قالوا : نعم، قال : اللهم اشهد (ثلاث مرات)(24)". **** 1- هذه الوصية من خطب ومواعظ الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة الوداع. 2- آخر سورة التوبة : الآية 128/129 3- صحيح مسلم : 1297 4- صحيح البخاري 1737 5- وذلك في رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه في حديثه الطويل الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه. 6- من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه البخاري : 1739 7- من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه رواه أحمد وابن ماجة والدارمي والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع : 6766. 8- متفق عليه من خطبة يوم النحر من حديث ابن عباس 9- رواه مسلم 1218 10- متفق عليه من حديث بن عباس 11- صحيح الجامع : 6766 من خطبته بمسجد الخيف من حديث جبير بن مطعم. 12- متفق عليه 13- صحيح سنن الترمذي للشيخ الألباني : 1/337 من حديث أبي أمامة الباهلي 14- مسند أحمد : 6/21 وصححه الألباني في "الصحيحة" 549 من حديث فضالة بن عبيد. 15- صحيح الجامع : 6766 من خطبته بمسجد الخيف. 16- رواه أحمد والدارمي وابن حبان وصححه الألباني في صحيح "موارد الظمآن" عن زيد بن ثابت. 17- مسند أحمد (5/411) عن أبي نضرة من خطبة سمعها في وسط أيام التشريق قال ابن تيمية إسناده صحيح، وصححه الألباني في "الصحيحة" (6/450). 18- رواه أحمد عن سلمة بن قيس الأشجعي في حجة الوداع والطبراني والحاكم وابن أبي عاصم في السنة بإسناد صحيح. 19- رواه أحمد في مسنده عن عمرو بن مرة بإسناد صحيح، وهو في سنن ابن ماجة (3057) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (2499). 20- رواه ابن ماجة عن عمرو بن الأحوص في حجة الوداع (3055) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (2497). 21- مسند أحمد (4/186) عن عمرو بن خارجة من خطبة الوداع وصححه الألباني في صحيح الجامع (1794). 22- في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر وانظر فتح الباري لابن حجر (8/107). 23- مسند أحمد (2/133) عن عبد الله بن عمر في حجة الوداع يسند صحيح. 24- صحيح ابن ماجة للشيخ الألباني (2497).