يأخذني العجب كلما تتبعت مسار بعض الناس الذين مَنَّ الله تعالى عليهم بتسلق مدارج المسؤوليات، من مسؤولين صغار، إلى مسؤولين يقام لهم ولا يقعد؛ بمسؤوليات ومناصب ذات مكانة في السُّلَّم الاجتماعي عند المغاربة.. كيف تتبدل أحوالهم، وتتتغير سلوكاتهم، ويتجرؤون على التنكر لأحوالهم الماضية، وصداقاتهم السابقة، ويستحيلون إلى مستبدين يستهويهم "ركوب" الكرسي، واعتلاء منبر الخطابة، والولوع-حدَّ الهوس- بالمدح والتصفيق؟ !. لقد كُتب لنا أن نعايش طوائف من هؤلاء، بدأوا مسارهم في درج المسؤولية صغارا يتلمسون رضى الأسياد، ويتمسحون بأعتاب من يهمهم الأمر من المسؤولين الكبار. وهاهم اليوم، بعد أن اشتد عودهم، وأمِنوا على كراسيهم من الزوال؛ يولون الأدبار لماضيهم الكئيب حيث كانوا هُمَلا يتمسحون بقوائم كراسي أسيادهم. بل وصل بهم الحال اليوم أن صاروا يستبدون بمناصبهم الحالية، ويقدمون نماذج لطواغيت صغار تتشكل منها قاعدة إداراتنا المختلفة، وتبني لها عروشا من "الوهم" كالذي ضلل طواغيت العرب، لعقود، حتى أسقطهم الربيع الشعبي !. عجبا لأمر من يناقش كل شيء، ويتكلم في كل شيء، ويفهم في كل شيء، ويدعي أنه الوحيد الذي يقوم على أمور الناس، وبدونه ستضيع الحقوق، وستتوقف الأرض عن الدوران، والشمس عن الطلوع !!... ثم يرتفع به غروره القاتل إلى التنكر لحاله الماضية، و الاعتقاد أن الكرسي الذي يعتليه إرث له و لأولاده، وليس دُوَلاً بين أبناء الشعب يعتلونه حسب الاستحقاق، والجدارة. وإذا نوزع فيه رأيته يقاتل دونه بالحديد والنار. فلا يأخذنا العجب ونحن نتابع انتفاضة الشعب السوري وقبله الليبي، كيف تمسك حاكما البلدين بالكرسي حَدَّ تدمير البلاد وقتل العباد؛ بل والهلاك دونه. فليس عجبا أن نشاهد بين ظهرانَيْنَا من يتمسك بالكراسي، و يستبد بها.. فللكراسي إِلْفٌ دون فطامه؛ ذهاب الأنفس، وهلاك المهج !!. لماذا يركب بعضنا حب الاستبداد، والنزوع نحو الغطرسة والاستكبار، كلما ترقى في سلم المناصب، واعتلى الكراسي، وتقدم الناس في تحمل المسؤولية؛ مع أن هذا الترقي، ليس سوى تكليفٍ بمزيد من المسؤولية الأخلاقية إزاء من وُلِّينا عليهم، وتحملنا "الوزر " نيابة عنهم، وقبلنا بالمزيد من الهم، والغم، والمعاناة،... مع أنه لو دام الكرسي لغيرنا ما وصل إلينا؟ ! لماذا يعتقد غالبيتنا أن المسؤولية هي تشريف مُنِحَهُ تقديرا على براعته في التدبير، وقدرته على الاجتهاد والعطاء، وتميزه بحسن السيرة والسلوك،ووو....على مهيع من قال:" إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي" (القصص،الآية:78). لذلك فهو-في نفسه- الأنموذج الذي يحتذى، والمثال الذي لا يخطأ، والأسوة الحسنة التي لا تضل؛ فيعد استبداده بالعباد؛ عدلا، وظلمه لهم؛ إنصافا، وأكل مالهم بالباطل؛ "تعويضا" يناله مقابل أتعابه التي لا تنتهي !، ونصائح الناس له؛ سوء أدب، وجرأة على الأسياد، ووو،...؟ ! لقد جرت العادة منذ العصور الأولى للحضارة الإنسانية أن يكون للكرسي (المنصب السياسي الأول ) مكانة متميزة في اهتمامات الناس وانشغالات الساسة ؛ مكانة دونها المال والعرض والأخلاق . فلا غرو ولا عجب ألا يشذ كل هؤلاء "المسؤولون"، على اختلاف رتبهم، وتباين نياشينهم، عن هذه القاعدة؛ فيتساقطوا على أعتاب الكرسي يقبلون قوائمه ، ويتمسحون به ! لكن في المقابل، لا نملك إلا أن نقف تقديرا وإجلالا لهامات عظام من الرجال والنساء الذين ظلوا –رغم ترقيهم في "مدارج السالكين" إلى رحاب السلطة والمسؤولية- أوفياء لماضيهم وصداقاتهم، ومنازلهم الضيقة في دروب المغرب الشعبي؛ يسكنونها. وعوائلهم في المغرب العميق هناك في الجبال والقفار والفيافي؛ يزورونهم في كل مناسبة، تماما كما كانوا، بل أحسن مما كانوا؛ بالمزيد من خفض الجناح، وطأطأة الرأس، والتواضع الجم؛ رغم المنصب المرموق ، والوضع الاعتباري المتقدم الذي يحضون به في دهاليز الدولة المغربية. رجال ونساء، وزراء وموظفين سامين وأطر دولة كبارا، من خيرة أبناء هذا الوطن؛ يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويعاشرون عامة الناس. لم يغيرهم "الكرسي"، ولم يستبد بنفوسهم الخيرة، حب التسلط، والرغبة في الاستبداد. فلهؤلاء تحية وتقديرا، ولمن سواهم، من المستمسكين بالكراسي الزائلة، الظانين الخلاص فيها ؛ نقول:" تواضعوا، فإن الكراسي لا تدوم" !!!