قبل البدء... نتميز نحن – العرب والمسلمين- بفورة دم غير طبيعية . ربما نمثل استثناء بين الأمم والشعوب الأخرى في طريقة التعامل مع الاحداث والأقضية والنوازل المريبة التي تحل بنا عن غير سابق إنذار . فتجد الواحد منا "ينتفض" بطريقة غير طبيعية ليعبر عن رفضه وسخطه وامتعاضه على ما يحل به من مصائب و مشاكل . فالعرب خاصة ، والمسلمون عامة ،لهم "جينة غضبية " فريدة ، أو ما نسميه نحن المغاربة بالدارجة : " النقشة" ، تظهر بشكل قوي كلما شعروا بأن إحدى مقدساتهم الدينية أو الاجتماعية أو الاثنية أو العرقية... مُسَّتْ بشكل من الأشكال . ولكن هذه "النقشة" تظهر -"سُكَّر زيادة " !-كلما تعلق الأمر بمقدس ديني ؛ فالهبَّة تكون أعظم ، والغضبة أشد ، والخسائر لا تعد ولا تحصى . بل من " المنتفضين" من يتقن مسرحية الانتصار لل"حق" ، والذوذ عن حياضه ؛ فيبرَع في تمثيل أدوار درامية تبهر الجميع، لكن النهاية تكون دائما مأساوية ، والنتيجة عكسية ؛ فلا العدوان يُرد ولا المقدس يُنتصَر له . وهكذا كان المسلمون حتى في فجر الإسلام . فقد كان بعض كبار الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – ينتفضون دون أدنى تفكير أو رويَّة . ولولا وجود الرسول – صلى الله عليه وسلم – بين ظهرانيهم لخسر الإسلام عقودا كثيرة من عمره الدعوي . ومما جاء في صحيح البخاري أن رجلا من الأعراب دخل المسجد والرسول – صلى الله عليه وسلم – في اجتماع مع أصحابه ، فارتكن ركنا في المسجد وأخذ يتبول ، فلما رآه بعض الأصحاب قاموا ليعنفوه ، لكن الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم- ينهاهم ويقول لهم :" لاتزرموه "( أي لا تقطعوا عليه بولته حتى يتم) . وأمر النبي صحابياً من أصحابه، فأتى بدلو من الماء وصبه النبي- صلى الله عليه وسلم- على الموضع الذي تبول فيه هذا الأعرابي؛ فأزال النجاسة بالماء الطاهر، وانتهت القضية .ثم قال للأعرابي :" إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا، إنما جعلت للصلاة، ولذكر الله، ولقراءة القرآن" .فقال الأعرابي : "اللهم ارحمني ومحمدا ولاترحم معنا أحدا أبدا" فرد عليه صلى الله عليه وسلم بقوله : "لقد حجرت واسعا ياأعرابي"... تصور معي أخي القارئ الفاضل لو لم يتدخل الرسول –صلى الله عليه وسلم – في مثل هذه الحالة كيف ستكون النتيجة ؟ ! وكم ستخسر الدعوة بسبب هذه الردود الهوجاء ؟ !! وبعد... الرسوم المسيئة ..عود على بدء: إن أغلب ردود الفعل العنيفة التي أعقبت نشر منابر إعلامية لرسوم مسيئة لجناب المصطفى – صلى الله عليه وسلم - ، لا تعدو أن تكون ردات فعل عاطفية لا تقدم ولا تؤخر . إن لم أقل إنها قد أساءت إلى الإسلام أكثر مما خدمت رسالته الحنيفية. فأغلب "المنتفضات" و"المنتفضين" حملتهم "عاصفة الخروج" لتصفية حساب قديم / جديد مع "غرب" ديمقراطي، حر ومتفوق، يحمل من مقدرات العيش الكريم، والرفاه المثير ما يحلم بنصيفه مسلمونا "الأشاوس" . كما أن أغلب هؤلاء خرجوا في صفوف وراء "لجن منظمة"، أعضاؤها مسيسون، جاؤوا ليركبوا "الظهور"، وأعينهم على انتخابات آتية، أو مصالح آنية. وبعضهم الآخر جاء "ليتصالح" مع عقيدة الأمة، التي خاصمها لعقود، بعد أن ثبت له بالدليل الملموس أن المستقبل لهذا الدين ولمعتنقيه، وأن كل من يخاصم دين هذه الأمة سيكون مصيره مزبلة التاريخ. وفي صفوف هؤلاء وأولئك شراذم جاءت لتوجه المعركة إلى الداخل لتصفية حسابات ضيقة مع أنظمة بوليسية، ذاقت منها السام والعلقم ؛ فركبت الحدث ، ووجهت السفينة إلى غير مرساها الحقيقي . نحن والغرب: لقد وعى الغرب بحقيقة وحجم الصراع مع المسلمين، كما وعى بمكامن ضعفهم، الممثلة في عواطفهم الجياشة، وحماساتهم المتهورة؛ فهيأ لهم معارك تناسب قدراتهم العاطفية ، وتقف دونها عقولهم المعطلة بفعل الجمود والاتكالية والانكفاء إلى ما قدمه الأسلاف الذين أقاموا الاجتهاد في صنوف المعارف والعلوم، فنهضوا بالأمة، وأعلوا شأنها، واكسبوها العزة في نفسها، والمناعة من عدوها. فالغرب هو صاحب المعركة، وهو الفاعل فينا على الدوام، أما نحن –المفعول بهم - فنصرخ ونولول و"نجذب" أمام عدو يسخر من سذاجتنا، ويستفز مشاعرنا، ويلهينا بأنفسنا عن أنفسنا، وهو يعلم علم اليقين أن الأمر ليس بأيدينا بل بأيدي حكوماتنا الموقرة التي تدين في العلن وتتواطؤ في الخفاء... وهذا الغرب هو عينه الذي تعامل بشكل حضاري مع صولات وجولات ابن لادن وجماعته، التي تقتل رعاياه، وتدمر حرثه ونسله ؛فلم يحرق سفارة ، ولم يطرد سفيرا ، ولم يدمر مسجدا... حقيقة حب الحبيب(ص): إن خروج هذه الملايين في ربوع المعمور ، وتصريف غضبهم ؛حرقا ، وتدميرا ، وقتلا... ليس دليل قوة ولا عزة ولا منعة من جانب المسلمين ، بل هو دليل ضعف وانتكاسة وبعد عن الخلق الإسلامي الرفيع ، الذي يجرم معاقبة الناس بجرائر غيرهم .(...لا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ...ولا تقطعوا شجرة مثمرة...وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع(الكنائس) فدعوهم...)[من وصية أبي بكر الصديق لجنوده . ابن الأثير، "الكامل في التاريخ".2/335].فهذه أخلاق الإسلام في الحرب ، ضد العدو وفي عقر داره؛ فكيف بنا نوجه سلاحنا إلى دواتنا ، وننتفض ضد أنفسنا تعبيرا عن سخطنا على عدونا ، وهو يسخر من سذاجتنا ؟ ! إن هذا الخروج ليس قط دليل حب الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ حبه- صلى الله عليه وسلم – لا يكون بمسيرات مدمرة للحرث والنسل ،الله وحده أعلم بنوايا منظميها ؛ بل يكون بالذود عن السنة الشريفة ، والعمل بمقتضاها التزاما وسلوكا . ولو قمنا باستطلاع وسط هذه الجموع الغفيرة ، وناشدناها الصراحة والصدق ، لألفينا أغلب أفرادها لا يعرفون من سيرة الحبيب إلا الاسم ، ولا يلتزمون من سنته إلا البسملة في بداية الطعام... !! حرية التعبير عندهم وعندنا: إن حرية التعبير عند الإنسان الغربي ذات قدسية خاصة ؛ كفلتها الدساتير ، وحمتها القوانين . وهي مكسب خارج أي مساومة أونقاش ، فهي مطلقة كما الدين عندنا سواء بسواء. وكل حديث عن لجم لحدودها، أو تقزيم لامتداداتها ؛ مس بقدسيتها . وهو الأمر الذي لا يفهمه أهلونا؛ إذ يعتقدون أن الإعلام هناك كما هو عندنا ، يكفي أن تنطق بما يقلق "مُقَدَّم" الحي لتجد نفسك وراء القضبان تنتظر محاكمة تأتي أولا تأتي ، والويل لك إن اقتربت ناحية الرؤوس الكبيرة ، فذلك يوم ستلعن فيه اليوم الذي أمسكت فيه القلم بين أناملك . إن للإعلامي الغربي مطلق الحرية في انتقاد سياسة حاكمه، والتعرض لأقواله ، والسخرية منه ، عبر رسوم وما شاكل ، دون أن يخشى على نفسه ، أو مستقبله ، أو عياله ؛ لأنه – بكل بساطة –يعتقد أنه يمارس حقا دستوريا مقدسا . وهو ذاته الإعلامي الذي أساء لنبينا الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم- وهو يعتقد أنه يمارس حقا من حقوقه يقدم به خدمة لقومه في معترك الصراع الحضاري ،ذي الجذور الصليبية ، الذي خاضه و يخوضه الغرب مع المسلمين منذ قرون؛ لذلك رفض الاعتذار ،وتمادى في غيِّه . دون أن يُفهم من هذا الفعل أنه مجرد عمل فردي اعتباطي ليست له أية امتدادات شعبية أو رسمية . فالغرب في معركة دائمة مع المارد الإسلامي الذي بدأ يتململ من قمقمه ، ويتموقع في مساحات مقلقة ، لكنه يخوض هذه المعركة وفق حسابات دقيقة جدا . فقد يضحي ببعض مبادئه الحضارية ليسجل نقطا في مرمى الخصم دون أن يفقد حياديته . لذلك لا يستبعد – في اعتقادنا – أن يكون هذا الفعل الشنيع مدفوعا من منتظم دولي أكبر من صحافي أو صحافة أو حتى وزارة إعلام ، بهدف جس النبض ، وقياس درجة رد الفعل فيما إذا مست مقدسات المسلمين أو استهين بها !! أخلاق الإسلام في الرد على الخصوم: لكن لو وقف المسلمون وقفة تأمل وتدبر وتمعن إزاء هذه الرسوم السخيفة ، ما تصرفوا مثل ذلك التصرف . فالرسول - صلى الله عليه وسلم – أكبر من أن تسئ إليه رسوم ، أو تنتقص من مكانته هلوسات صحافي أخرق. لقد فعل به المشركون ، زمن الاستضعاف ، أكثر من ذلك وهم يعلمون صدقه وأمانته ، ومع ذلك ظل يدعو لهم بالخير، ويقول ": اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" . ولما كانوا ينادونه "مذمم"وينتفض الصحابة – رضوان الله عليهم – يقول لهم ": دعوهم ، إنهم ينادون مذمما وأنا محمد". ولم ينتقم منهم ، زمن التمكين، بل قال لهم :" اذهبوا فأنتم الطلقاء ". لأنه – بكل بساطة – جاء رحمة للعالمين ، ولم يأت نقمة عليهم !!.لكن في المقابل ، أهدر دم بعض المنافقين (كعب بن أشرف مثلا)، ونفذ حكم الله تعالى في آخرين ، قتلا ، وسبيا ( بني قريضة) ، وحارب آخرين ؛ رحمة بالأمة ، لا نقمة عليها . على خلاف ، ما يعتقده ، من لا يعتبر بتغير الأحوال ، وتبدل الظروف ، كمرتكزات أساسة لفهم النصوص وتنزيلاتها المختلفة .فتنفيذ حكم الله تعالى بالموت في حق البعض ، هو حياة لآخرين ؛ وعفوه – صلى الله عليه وسلم – عن طائفة ؛ حياة لها ولغيرها.فتأمل !! ولنا في سلف هذه الأمة – أيام تحرر العقل وانطلاق الفكر- القدوة الحسنة والسلوك الحضاري الرفيع لمواجهة مثل هكذا حالات . ومن يقرأ التاريخ يجد من الأمثلة المشرقة ،والنماذج الرائعة التي هزت أركان الكفر وقلبت موازين الاعتقادات الفاسدة، ما يحير اللبيب ، ويدهش الفطن النبيه. فهذا الفضيل بن عياض يلتقي في طريقه يهوديا يجر كلبه ، ويقول له اليهودي ":ألحيتك – يا فضيل – أطهر أم ذنب كلبي ؟". فيرد عليه الفضيل رد المؤمن الواثق بوعد ربه ، الداعي إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، المستعلي عن التعصب والتشنج والردود العاطفية الخرقاء": إن كانت في النار فذنب كلبك أطهر منها ، وإن كانت في الجنة فهي أطهر من ذنب كلبك". فكانت النتيجة أن صرخ اليهودي ": والله إنها لأخلاق الأنبياء؛ أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله". !! بمثل هذا السلوك الحضاري كان قمين بنا أن نرد على هذه الترهات، فنزداد عزا في أنفسنا باستعلائنا على هذه السفاسف، وشرفا ومحبة من عدونا بحسن ردنا "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" (فصلت،الآية :34)صدق الله العظيم . نعم للمسيرات ، والانتفاضات ، ولكن... لكن في المقابل ، يجب ألا يفهم من كلامي هذا أني ضد المسيرات و الوقفات بإطلاق ، لكن بشرط أن تكون سلمية ذات رسالة حضارية تؤديها ؛ كأن يكون الهدف منها إظهار قوة المسلمين ، ووحدتهم أمام أعدائهم . ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بسلوك حضاري ، يبهر العدو ، ويسقط في يده .فتكون الرسالة قد وصلت ، والهدف قد تحقق.ولنا في مسيرات الغرب "الكافر" أفضل مثال .( مسيرات الشعب الأمريكي ضد هجمات 11سبتمبر، ووقفات الإسبان إثر الأحداث الإرهابية التي شهدتها مدريد ، ووقفات لندن وغيرها..). أما الانتفاضات ضد الأعداء الذين لا يؤمنون إلا بلغة الحِرَاب، حينما تتزايل الصفوف ، ويحمى الوطيس ؛ فلا يصلح معها إلا القوة ، ما دام الهدف هو رد العدوان ، واسترجاع الأرض : "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة "(الأنفال، الآية:16)."لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما".(الفتح،الآية 25). على سبيل الختم.. وأخيرا، أقول لمن يحملون لواء الدعوة إلى الله: إنكم ورثة النبي –صلى الله عليه وسلم- الرحمة المهداة، للناس كل الناس، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[الأنبياء،107]، فالتزموا هديه في التعامل مع أعدائه، ودعوته إياهم. ولا تكونوا متشنجين، ولا متعصبين و أنتم تقدمون هذا الدين للعالمين، بل كونوا رحماء بمن تدعون،علماء بما تدعون، فأنتم دعاة رحمة ومغفرة، لا دعاة غضب وحقد، فأمروا بالمعروف بمعروف، وانهوا عن المنكر بلا منكر. والْتُحْسِنوا استغلال هذه الحرب المشينة في خدمة الإسلام، والدعوة إليه وتحبيبه إلى الناس، بدل التنفير منه، وتكثير أعدائه. وأقول للمناضلين والمناضلات من التيار اليساري والليبرالي، الذين شاركوا جماهير المواطنين في الدفاع عن المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: إن لكل حب حقيقة، فما حقيقة حبكم للرسول الكريم؟ إن حب الحبيب المصطفى يستلزم العمل بشريعته، والدفاع عن رسالته، والمنافحة دون مشروعه العالمي. فهل أنتم مستعدون لجعل أحزابكم، وهيئاتكم الثقافية، وتنظيماتكم المدنية في خدمة هذا المشروع ، والقطع مع مواقفكم السابقة في التشكيك في قدرة الدين على النهوض والإقلاع والانعتاق؟ .. هذا ما نتوسمه فيكم .وكل "انتفاضة" وأنتم على موعد !