جيّل اليوم جيلٌ غير محظوظ بتاتاً.. جيل الضيّاع والتيّه والتفسّخ وفقدان الهوية والبوصلة، كل أمانيّه صارت محصّورة في لفافة حشيش، وقرصاً مهلوساً، وفتاة ليل يصطحبها لغرفته قتلتْ والدها مرتين؛ مرة، يوم كسرت كبرياءه ومزقت عنفوانه.. ومرة، يوم رمّت بنفسها في طريق لا يمكن أن ينتهي نهاية سعيدة.. جيّل تافه جعل من التفاهة أسلوب حياة.. لم يتعلم شيء عدا تسريّحات شعر غريبة يجربها على خَصلات شعرِ رأس فارغة.. جيل مدمّر من الداخل وإن حاول أن يبتسم مبدياً فرحاً مصطنع، والحقيقة، التي لا تُخفيها الملامح، تدل على شرود نفسي ينتهي في الغالب لوضع حد لحياة تافهة مليئة بالسخافة.. جيل يفتقد للمصداقية، مع نفسه أولاً، ومع محيطة.. يفتقد للأمانة بينه وبين التاريخ، ويجعل من الماضي التليد حلماً جميلا قد ولى وذهب إلى غير رجعة.. جيلٌ لم يعرف جامع الفناء يوم كان يحتضن رواد فنّ الحلقة الفعليين.. فليفْلة.. الصّاروخ.. الشرقاوي مول الحمام.. الخيزاوي الشهير "بكيلي جولي".. وقت كانت الأذن تلتقط الموشحات وقصص الأسلاف بنوع من الغرائبية والدهشة.. جمالية الحكي والوصف، فن الخطابة، عملية نقل الخبر.. كلها عوامل جعلت من فن الحَلقة مدرسة أنيّقة بعيدة كل البعد عن ما يحدث اليوم هناك؛ بالساحة، إذ تحول جامع الفناء لرقعة ضيقة تبيع الشرف والعرض بأثمان بخسة.. جيل اليوم افتقد لذلك ولم يبكي على فقدانه، وكل ما زار أحدهم جامع الفناء أسرع لالتقاط صورة مع قرد حزين ووحيد، أو مع حَنش مياه ضحلة فقد شهيّة العض واستسّلم بأنه بدوره ضحية اسفاف وضحّالة مشهد.. جيل فقد مُتعة الفكاهة المحترمة مع روّاد كثر؛ منهم من رحل لدار البقاء، ومنهم من لازال يقاوم الموت بصبر وإباء، يتألم ألميّن: ألم النسيان؛ وألم ما صار عليه الوضع اليوم.. جيل الستينيات، ومن تلاه، كان محظوظاً "بقشبال وزروال"؛ وثنائي الهناوات.. ثنائي التيقار.. "وعمو إدريس"؛ المنتصب بهامة طويلة وحيداً على خشبة مسرح يؤدي دور مظلوم من رجل سلطة ويرتجلُ حوارا – وهمياً – هزلياً يفرد فيه غطرسة السلطة على المستضعفين.. فمات عمّو ادريس مبكرا وفي حلقه غصة أنه نُسي كمصرع طائر.. يحدث اليوم أن نتصادف مع فكاهة المستنقعات، لا روح فيها ولا تُمثلنا.. فكاهة استطعمها جيل اليوم .. وجنّت عليه بأن دفعته لاستهلاكها كأي أفيون مدمّر للذوق.. جيل لم يعرف الماغوط، ولا أحمد مطر، ولا أمل دُنقل.. يجهل شعر أرثر رامبّو وبابلو نيرّودا ولوركا.. حين كان للشعر هدفاً ومغزى، بغض النظر هل سيجلب جائزة أم لا.. يحمل الشاعر همّا وقضيّة لا محفظة نقود ودفتر شيّكات .. يُوَّسَم بمدرسة اسمها الناس دون الالتفاتة لهبات سلطانية على مساعدته في تدجين جيل ورميّ أذواقه للحضيض.. شعراء جيل اليوم يرتادون الماكدونالد، ويطلبون "السّوشي"، ويعقدون لقاءات حميمية مع رجال السلطة، ويلبسون ربطة عنق وبذلة، وحذاءاً أسود ملمّع.. شاعرات اليوم بكعب عال وتنانير قصيرة؛ همهن البحث عن من يرمّم مشاعرهن المنكسرة، أو يطبطب على جراح قلوبهن المخدوعة في حبيب أخذ الحلوى وهرب.. شاعرات من جيل "الستريّنك"؛ وطبيعي، أن يكافئهن المخزن على براعتهن في تصويرهن لمنظر "الستريّنك"؛ ونور الشمعة ينعكس من تجاويفه فوق سرير ينام على يمينه رجل سكران.. يحصلن على وسام التقدير والامتنان من أعلى سلطة .. فهن أبلين البلاء الحسن في نشر "البلاء" الأدبي.. لهذا فجيل اليوم غير محظوظ حتى مع شعراءه وشاعراته.. جيل افتقد للكلمة والتِيّمة، وبدلهما، حضرت "التِ***" – كلنة قبيحة – بقوة.. جيل لم يعرف ليالي الحلمية.. ولا المال والبنون.. ولا الصعاليك.. ولا من دار لدار.. ولا مسلسلات تُحاكي المعيش اليومي.. جيل "سامحيني" ومظاهر خادعة مغشوشة.. مشاعر كاذبة لا تظهر إلا خلف الكاميرات، وكالحمقى، تلقفها جيل اليوم بفرح ولهفة وحاول تقليدها فسقط في حفرة الإبتذال والضياع.. اندثرت القيم وصار كل شيء مقبول.. لعنُ الأب في يومه العالمي.. التبرؤ من الأم.. قتل الله، مع أنه غير محتاج لهم، وليبرروا ميولاتهم الشهوانيّة راحوا يُحاججون "بنيتشه" ودوستوفسكي، ولحظة كتب دوستوفسكي كتب لجيل كان يعرف لينين وتروتسكي أكثر منه، ويقرأ لتولستوي بنهم وإدراك.. دوستوفسكي لم يقل يوما بأنه عليك بيع نفسك بأقل ثمن.. بقارورة عطر، أو بقنينة جعّة، أو بلفافة حشيش.. أو بخربشة كاذبة.. حتى وهو متشرد يلتقط الحشائش ليصمَّ ماءها، كان له موقف ورفض بيع حزام سرواله مقابل أن يأكل.. جيل لا يفهم ويتلقى المعلومة دون أن يراجعها.. يبلعها فتصيبهُ بعُسر أخلاق.. جيل لم يقرأ لنجيب محفوظ.. ولا سمع لناس الغيون.. لم يدرك حجم تضحيات عبد الرحمان منيف وغسان كنفاني وحيدر حيدر.. لم يتابع فصول حياة الشيخ إمام ولا سعيدة المنبهي.. جيل "سعد المجرد".. والشيخة التراكس وأمينوكس.. جِيّل كُتاب يتهافتون على الظهور في التلفاز أكثر من تفكيرهم في الخلود بقلوب الناس.. جيل استرق السّمع للغرف، وخطف نظرات للوحات مرسومة واعتقد بأنها حقيقة كل المدارس.. جيل يقول بأنه يبحثُ عن "النغمة".. عن النسيان؛ مع أنه لم يبدي أي نيّة في القضاء على ما يحاول هو أن يهرب منه.. ولو أنه هو أحد إمتداداته الشائكة.. باختصّار.. جيل ضائع..