يعتبر أن الكتابة شفاؤه من العدم حين يسكن الروح… هي صرخة في كهف الكون تنبه: هاأنذا. يؤمن بأنّ القصيدة يجب أن تتخلّص من الأوهام القديمة التي سكنتها ردحا من الزّمن، وهي تحميلها ما لا تطيقه؛ ولايرى أنّ القصيدة تغيّر مجتمعا، ولا تبدّل نسقا من القيم، ولا تؤسّس لمنظومة من المفاهيم. في هذا الحوار، ننصت لنبض شاعر اختار قارة القصيدة ليهجس بكل انفعالاته ومواقفه من الحياة والحب والوهم والزمن، والأشياء التي تنفلت منا في العابر والهامشي والمنسي، إنه الشاعر مصطفى ملَح.
– الشاعر مصطفى ملح، أنت أحد أبرز شعراء جيل التسعينيات في المغرب إلى جانب عدد من الشعراء المتميزين الذي تركوا حضورا طيبا في الساحة الشعرية المغربية، ولفتوا انتباه القراء والنقاد. ما هو تقييمك للحركة الشعرية التسعينية في المغرب ؟ – مصادفة، وجدت نفسي أنتسب إلى جيل سمي بالتّسعينيّات. عندما كتبت لم يكن هدفي أن أشكّل، إلى جانب مجايليّ، سربا متّحدا تجمع بين عناصره سمات مشتركة ومتجانسة. لم أكن على وعي بأنّني أنتمي إلى جيل ما، بقدر ما كنت أعتقد أنّني وحيد ومنعزل، وأنّني لا يعنيني تطوير قصيدتي، والبحث عن أفق جماليّ ما. بمعنى أنّ العصفور الذي يحلّق ويقوم باستدارات كما لو كان يراقص الرّيح، لا يملك وعيا بأنّه يشكّل استدارات فيزيائيّة في علاقة حركيّة متساوقة مع الرّيح. إنّ الطّيران، عنده، جزء من وجوده. هكذا كنت أكتب. الكتابة عندي هي الطيران عند العصفور، وهي الماء في الأوكواريوم بالنّسبة للسّمك. بمعنى أنّ الكتابة بالنّسبة إليّ كانت، وما زالت، شرط وجود، وليست فنّا أو لعبا مجازيّا. مع مرور الوقت اكتشفت أنّني أنتمي إلى جيل التّسعينيّات، غير أنّني لاحظت، كما لاحظ النّقّاد ساعتئذ، أنّ قصيدتي مختلفة عن قصائد مجايليّ. إنّني لا أفكّر في حداثة معطوبة منفصلة عن جذورها التّاريخيّة والحضاريّة، بينما معظم أصدقائي كانوا يعتبرون الحداثة الشّعريّة قطيعة استيتيقيّة وفكريّة مطلقة مع الماضي. ومن هنا شكّلتُ، إلى حدّ ما، اختلافا. هو اختلاف لم أسع إليه، قصدا، وإنّما هو ثمرة طبيعيّة لإيماني بانّ الشّاعر هو كائن مركّب إلى درجة الالتباس الحادّ: صعب أن ندفع الوعي إلى استشراف الغد في الوقت الذي نفرغه من ضوء الماضي. الشّاعر قارّة لها تاريخ، وأيّ محاولة لمحو ذلك التّاريخ، الشّخصيّ والجماعيّ، هي اغتيال لمنطق الأشياء. – دأب النقاد المغاربة على تقسيم الشعراء إلى أجيال ???? ستينيين وسبعينيين وثمانينيين وتسعينيين….). ما رأيك في هذا التجييل؟ وما هو الجيل الذي استمالتك أشعاره وأثر في شاعريتك.؟ – تصنيف الشّعراء اعتمادا على مفهوم المجايلة أمر فيه تعسّف كبير بخصوص تقويم تجارب الشّعراء، لأنّه يلغي خصوصية كلّ شاعر ويُعدم حقّه في اجتراح اختلافه. مثلا، دأب نقّاد الشّعر ومورّخوه على وسم شعراء السّبعينيّات بربطهم بالإيديولوجيا وتغييب الذّات، بينما ركّزوا على تذويت الشّعر الثّمانينيّ. وهذه الرّؤية لا تملك الحقيقة كلّها؛ فثمّة شعراء سبعينيّون يكتبون نصوصا تنشغل بأوجاع الذّات وما يعتريها من قلق وجوديّ حادّ، وفي الوقت ذاته نجد شعراء ثمانيّين تتّصل نصوصهم بقضايا كبرى كالقومية والوطنية والصّراع الطّبقيّ. عموما، قد نقبل هذا التّصنيف المعتمد على مفهوم الجيل من وجهة نظر منهجية إجرائيّة لتسهيل المقاربة خاصّة في جانبها التّاريخيّ، أمّا فنّيّا، فكلّ شاعر يمتح من مصادر قد تتعارض تارة مع معاجم مجايليه، وقد تندغم معهم تارة أخرى. شخصيّا، لا أجد نفسي منحازا إلى أيّ جيل. قرأت الشّعر وبحثت عن ينابيع الماء فيه، وكنت قارئا عطِشا، وكلّما رأيت الماء بلّلتُ حواسّي به. وفي كلّ جيل ينابيع تصبّ في باطني، وفي الوقت نفسه، ثمّة شعر لا يمنحني إلا مضاعفة العطش والعزوف عن الشّعر، وهذا النّوع البئيس من الشّعر كثير. – تحتفي كثيرا بالسيرة الذاتية والغيرية في أشعارك، وكأنك تؤرخ بشكل إبداعي جميل وأخاذ لحياتك وحياة العائلة ومن حولك … ما قصتك مع هذا الاختيار؟ – أنا لا أكتب الآخر الذي لا أعرفه. أنا أكتب (الأنا) الذي أزعم انّني أعرفه. لهذا فمعظم نصوصي تنخرط في السّيرة الذّاتيّة. لكنّني، وأنا أكتب عن نفسي، فإنّني في الوقت نفسه أصير (آخر)، وبالتّالي يندغم وجود الذّات بوجود الآخر اندغاما يسمح، شعريّا، بأن تصير قصيدتي سيرة للكائن أينما وجد. من جهة أخرى، أومن أنّ القصيدة يجب أن تتخلّص من الأوهام القديمة التي سكنتها ردحا من الزّمن، وهي تحميلها ما لا تطيقه؛ فلا أرى أنّ القصيدة تغيّر مجتمعا، ولا تبدّل نسقا من القيم، ولا تؤسّس لمنظومة من المفاهيم. هذه نظريّات طالما نادى بها شعراء لا يعرفون الواقع معرفة حقيقيّة؛ شعراء الجامعات والبلاطات والتّتويجات والأبراج العاجيّة. أمّا الشّعراء المهمّشون الذين بالكاد يعيشون، فلهم رهانات أخرى، أهمّها أن يوجدوا: بمعنى أنّ الكتابة في حدّ ذاتها هي تعبير عن وجودهم، ومحاولة لتأجيل موتهم إلى وقت غير معلوم. فعندما أكتب أقلّل من نسبة إصابتي بالعدم الذي يسكنني، كما لو كنت أصرخ في كهف، اسمه الكون، ها أنذا، ما زلت موجودا رغم محاولات الاغتيال اليوميّة التي أتعرّض لها.. أنا أكتب لكي لا أجنّ. أكتب لكي لا أصاب بالاكتئاب. أكتب لأسترجع الطّفولة التي تفرّ من بين أصابعي مثل زئبق لعين. لهذا أكتب عن عائلتي، لانّ أفرادهايموتون تدريجيّا. أكتب عن نفسي لأنّني أكبر وأشيخ ويزحف جسدي المثقل بالزّمن نحو الهاوية. – أغلب أشعارك ذات نفس طويل، ومحملة بمرجعيات تستحضرها عبر التناص الذي توظفه توظيفا راقيا لغرض أبداعي معين(قصيدة الطوفان- اللعب مع سيبويه – قصيدة يوسف…..). لماذا هذا النفس الشعري الطويل، وهل تسعى إلى استحضار كل تلك المرجعيات أم أنها تتسرب إلى نصوصك خلسة ؟ – النّصّ الذي أكتبه مثلي تماما. مركّب ومعقّد ومتوتّر وملتبس وفوضويّ. أنا كيمياء ممزوج بعناصر شتّى: الوعي، الطّفولة، الوهم، المعتقدات ما صحّ منها وما بطل، الحبّ، الكراهيّة، الخوف وما أدراك ما الخوف. هذا التّنوّع يقابله تنوّع في مصادري الشّعريّة. أمر طبعيّ أن تحضر نصوص أخرى إلى تجربتي، ومرجعيّات، وتعالقات نصّيّة. في منتصف التّسعينيّات، كنت أشتغل، شعريّا، على ما أسمّيه بالمفهوم الشّعريّ، وكنت واعيا بالمسألة تمام الوعي. وكان مفهوم (القبيلة) هو أوّل ما أثارني، وديواني الأوّل (دم الشّاعر) حافل بهذا الاشتغال، إذ حضرت القبيلة، بمختلف تجليّاتها ورمزيّتها في هذه النّصوص حضورا لافتا، وطوّرت هذا المفهوم، أو على الأقلّ، هكذا خيّل إليّ. بعد ذلك أحسست أنّني استنزفت الكتابة عن القبيلة، فكتبت قصيدتي: (تقرير حول اغتيال القبيلة)، فلاح في أفقي الشّعريّ مفهوم ثانٍ، وهو التّناصّ مع النّصّ الدّينيّ، وهو أمر مطروق من قبلُ مع شعراء آخرين، غير أنّني حاولت أن أحدث نوعا من التّطابق بين الشّخصيّة الدّينيّة وبين ذاتي، وما يؤشّر على هذا المنحى هو قصيدتي: (طبعة منقّحة من إصحاحات موسى المغربي). ومضت الأيّام، وحفلت نصوصي بهذا الحضور للنّصّ الدّيني. غير أنّ الميثولوجيا الإغريقيّة لم تنل نصيبا وافرا من انشغالي، في ذلك الوقت، إلا لماما. كنت أعتقد أنّها لا تمسّني ولا تعنيني، وأنّ السّيّاب قال ما ينبغي قوله، شعريّا. إذن، التّناصّ لم يكن لعبا استعاريّا مجّانيّا، بقدر ما كان جزءا مقنّعا من عملية البحث عن الذّات. ذاتي التي بتّ لا أعرفها. ذاتي الواحدة المتعدّدة. كنت أستعين بكلّ معرفة وتاريخ لاكشف عن الطّبقات المترسّبة فوقها منذ خلقها الله من طين أو صلصال. هل عرفت ذاتي؟ بالتّأكيد لا. والكتابة، منذ ذلك الوقت إلى الآن، ليست سوى بحث أبديّ عن الذّات الغارقة في غموضها العنيف. -فزت بجوائز في المغرب وخارجه ماذا أضاف إليك هذا الإنجاز؟ – في الحقيقة لم أفز بجوائز كثيرة. ولا شكّ انّ الجائزة هي اعتراف وتتويج وتقويم للتّجربة وتحفيز للشّاعر لمضاعفة الجهود قصد البحث عن رؤى جماليّة لم يتطرّق لها أحد من قبل، واستكشاف أراضٍ مجازيّة لم يحرثها أحد قطّ. بهذا المعنى أنا مع الجوائز، أمّا إذا كانت الجائزة توجّه التّجربة نحو نمط كتابيّ ما، وتصدّ ملكة التّجريب والتّحليق، وتجعل الشّاعر يكتب وفق ما تمليه قوانين المسابقة، فهذا أمر مرفوض كلّيّا، لانّه إقبار للتّجربة، وتسييجها بسياج غليظ من المعيقات التي تتعارض مع مبدإ الحرية، وكلّ قصيدة انعدم في خلقها عنصر الحرّيّة لن تكون إلاّ جثّة من كلمات مكفّنة وعبارات تتحوّل إلى مومياوات. – فزتَ أيضا بجائزة «ماري لويز الهوي لأدب الطفل الأخلاقي» عن مجموعتك الشعرية «عصافير الطفولة» سنة 2008. وأنا شخصيا فوجئت حينها وأعجبت باهتمامك بأدب الطفل، وتساءلت ومازلت : كيف استطاع الشاعر مصطفى ملح الشاعر العميق أن يوفق في النزول إلى مجال كتابة الطفل التي عدها المتخصصون من أصعب أنواع الكتابة الأدبية؟ – في ما يتعلّق بجائزة النّعمان الأدبيّة المخصّصة لأدب الطّفل الأخلاقيّ، سنة 2008م، كانت الجرس الأوّل الذي رنّ في الفراغ. لم يكن أحد ساعتئذ قد اكتشف انّني أكتب للطّفل، فكانت مجموعتي الشّعريّة (عصافير الطّفولة) هي الولادة الأولى للاهتمام بأدب الطّفل. أنا لم أكتب للطّفل من باب التّنويع أو المغايرة والاختلاف، بل لأنّني عشت التّجربة وتمثّلتها عميقا، فقد مارست التّعليم واقتربت من ضوء الطّفولة العظيم الذي لسعني كما لو كان نحلة سماويّة تغرز محبّتها في داخلي. ما زلت أذكر في يوم من الأيّام، عند نهاية الموسم الدّراسيّ، وبعد انتهاء الحفلة المدرسيّة، حلّت لحظة الوداع الأليمة. عانقني الأطفال وبكوا بكاء متّصلا إلى أن بلّلوا قميصي الأزرق. كانت تلك الدّموع هي المحفّز لكتابة قصيدتي (ملائكة الأرض). ومن هنا تعمّق اشتغالي بالكتابة عن الأطفال والفتيان، وقد يحتاج الأمر إلى تفصيل، لكنّني سأوجز قدر الإمكان. حاولت أن أكتب لطفل يعيش في الأرض وليس في السّماء. لطفل يعيش في الحاضر والواقع وليس في الماضي وفي الأساطير. بمعنى أنّني بتّ أرفض الكتابات التي تتحدّث عن حبّ الأميرة للرّاعي، وعن علي بابا والأربعين حرامي، والسّندريلا… بدأت أكتب عن معاناة الطّفل الواقعيّ، وعن أحلامه المعقولة، ليكون الأثر الأدبيّ قريبا من نبضه، وليس مجرّد تخييل مجنّح لا علاقة له بالواقع. وأعتقد أنّني غير محظوظ في نشر أعمالي الموجّهة للأطفال، وأشير إلى أنّني كتبت مجموعتين قصصيّتين بعنوان: (أعشاب تنمو في القلب) و(دموع الحوريّة) ورواية للفتيان: (الطّفل الذي هزم الغول) ومجموعة شعريّة: (عيلاد ميلاد القمر). وهذه الأعمال غير منشورة، وقد وقّعت عقد نشر بعضها مع دور نشر مغربيّة. – لا تعترف تجربتك الشعرية بالانغلاق في شكل معين؛ فقد فرضت اسمك في الساحة الشعرية عبر القصيدة التفعيلية، وكتبت أيضا ما سمي بقصيدة النثر، وأنت في السنوات الأخيرة شرعت في نشر عدد مهم من القصائد العمودية. كيف يتم عبور هذه الأشكال الشعرية لديك؟ – أومن بأنّ الشّعر ليس هو الشّكل. الشّكل معمار. بناية ذات تصميم هندسي خاضع لرؤية مكانيّة. والشّعر يستوعب أكثر من شكل، سواء كان النّصّ تفعيليّا أو ينتسب إلى القصيدة ذات نظام الشّطرين، أو قصيدة النّثر. وقد كتبت هذه الأشكال الثّلاثة، غير أنّني أعتبر نفسي تفعيليّا، بسبب أنّ التّفعيلة هي الشّكل الذي كتبت فيه أكثر، وهي التي تنسجم مع طريقة وجودي. وجدير بالذّكر أنّني أومن بديمقراطيّة اختيار الشّكل الشّعريّ، وأعتب على من يضرم الحروب الخاسرة بين أنصار هذه الأنماط التّعبيريّة. فهناك من يدافع عن نمط كاشفا عن مكامن القوّة فيه، ضاربا عرض الحائط الأنماط التّعبيريّة الأخرى زاعما أنّها لا تنتسب إلى العصر، وأنّها غير حداثيّة. وهذا قصور في الفهم، لأنّ الشّعر ضوء مجازيّ وليس شكلا، فيمكنك أن تجد شعرا حداثيا في بعض أبيات أبي تمّام أو المتنبّي ولا تجدها في دواوين كثيرة تنتمي إلى قصيدة النّثر، والعكس صحيح، يمكنك أن تجد شعرا حقيقيّا في شعر محمد الماغوط ولا تجده في دواوين كثيرة لشعراء تفعيليّين أو شعراء القصيدة العموديّة. الشّعر أنّى يكون، فإنّي مطارده، وإنّي أحد حواريّيه. لا أحد يكره أن يعمّ الضّوء ويغرس مخالبه الجميلة في جثّة العتمة. كلّ قصيدة جميلة هي صباح مشرق. – عندما أقرأ أشعارك خصوصا قصائدك الملحمية الجميلة التي تتحدث فيها عن جوانب من سيرتك أستحضر الشاعر محمود درويش. ما قصتك مع هذا الشاعر الكبير؟ – لكلّ شاعر عصره: امرؤ القيس في العصر الجاهلي، جرير في العصر الأمويّ، المتنبّي في العصر العبّاسيّ، محمود درويش في عصرنا. أعرف جيّدا أنّ هذا التّقسيم غير عادل، لانّه انتقائيّ وإقصائيّ، فثمّة تجارب شعريّة أخرى عظيمة، لكنّني اعتمدت هذه الرّؤية التّصنيفيّة، ليس قياسا إلى التّجربة الشّعريّة نفسها، وإنّما إلى الحضور الشّعريّ لأولئك الشّعراء السّابق ذكرهم، وإلى قدرتهم على التّأثير والتّغلغل في الكيان الجماعيّ للأمّة. محمود درويش لا يمثّل سربا، وإنّما جزءا أساسيّا من السّرب. قرأت بحبّ وتامّل للسّيّاب والبياتي وأمل دنقل وأدونيس، كما قرأت لأنسي الحاج وسركون بولص وسيف الرّحبي. حتّى نزار قبّاني أفادني، إيقاعيّا. لكنّ درويش لم يكن مجرّد شاعر، بل كان حضورا آسرا. مع درويش تابع النّاس الشّعر وأحبّوه، واستمتعوا به يقرأ بصوت يخترق الصّمت صانعا الدّهشة. هذه هي علاقتي بدرويش: الجسد وأوداج العنق تنتفخ واحمرار الوجنتين وهو يصهل: (سقط القناع..). لا يمكن أن نقرأ درويش خارج هذا السّيّاق: القراءة والإنشاد وفلسطين. وأشير إلى أنّني، شعريّا، لا أقترب من درويش أبدا، لأنّني صرت مغرما بالدّنوّ من الأشياء البسيطة الملموسة أكثر، وصرت مسكونا بالزّمن الذي يبيدني يوميّا، وصرت منشغلا بالتّافه المنسيّ اللاّمرئيّ، فيما كان درويش مسكونا بدم الأنطلوجيا ووجع الأسطورة. ولكي أكون منصفا، فقد استطاع محمود درويش أن يُنزِلَ الظّاهرة الشّعريّة إلى الأرض في دواوينه الأخيرة، مثل: (الجداريّة). غير أنّ رائحة السّماء، ودم الأسطورة، ظلّ لصيقا، بمعنى من المعاني، بتجربته الشّعريّة.