مما لا شك فيه أن المواسم الدينية والتجارية تعتبر مناسبة كبيرة لترسيخ وشائج التلاقي وتوطيد أصول العلاقات الاجتماعية، فضلاً عما يتولد عنها من تلاقح الأفكار، وتجديد الصلة بين ذوي الأرحام بشكل خاص، وبين عموم الناس بشكل أعم. وتعتبر اشتوكة أيت باها من أكثر المناطق المغربية احتفالاً بالمواسم الدينية والتجارية، فبعد مرور موسم تعلات، وسيدي سعيد الشريف الإكثيري، ها هو موسم للآ زينة يتجدد مرة أخرى كحلقة وصل بين ما مضى من المواسم، ومقدمة لما سيأتي منها. ترى من هي الصالحة للآ زينة ؟ وإلى أين ترجع أصولها ؟ وكيف كانت نشأتها ؟ وما سبب ذيوع شهرتها وانتشار صيتها ؟ هل هذا الموسم ينسب للآ زينة التي ما زالت باقية على قيد الحياة الآن ؟ أم ينسب لامرأة أخرى قبلها اشتركت معها في الاسم ؟ أو لَم ينسب لأي منهما ؟ الأصول التاريخية لموسم للآ زينة: استقيت معلومات تاريخية من السيدين الشريفين سيدي سعيد الراجي وأخيه السيد حسن أبناء السيدة الصالحة للآزينة التي ما زالت على قيد الحياة، من أن موسم للآ زينة كان في الأصل ذكرى لسيدي سعيد الشريف، وجرت العادة بتنظيمه بعد مرور خمسة عشر يوماً على موسم سيدي سعيد الشريف، وقد زرتهم بزاويتهم بمعية الطالب النجيب الكاتب سيدي مصطفى جبرك، مساء يوم الثلاثاء 15 ماي 2018. ومما لا يخفى على شريف علم الهشتوكيين أن موسم سيدي سعيد الشريف يصادف دائماً الخميس ما قبل الأخير من كل أبريل الفلاحي، وبعد مرور نصف شهر على الموسم؛ يبدأ موسم للآ زينة، لكن تحديده بالشهر الفلاحي فيه نظر، لاستحالة انطباقه مع الشهر الهجري الذي حُدّد به تاريخ سيدي سعيد الشريف، علماً بأن المواسم الدينية في المغرب، عادة ما تُقيد بالتاريخ الفلاحي، فصادف بذلك موسم للآ زينة هذه السنة 15-16-17 ماي 2018. توضيحات حول الأسماء المستعملة في البحث: سيقف القارئ في هذه المقالة على عدد من الأسماء المتشابهة أود بداءة أن أبينها، وهي ثلاثة نساء صالحات، الأولى: للآ خديجة، وهي التي أسست بداءة هذا الموسم، لكنه لم ينسب إليها، وهي زوجة الإبن المباشر لسيدي سعيد الشريف، سيدي محمد، والثانية: للآ زينة المتوفاة سنة 1979، تزوجها حفيد سيدي سعيد الشريف، وللآ زينة التي ما زالت على قيد الحياة الآن 2018 والمشهورة بين أهل اشتوكة أيت باها. هل هناك علاقة بين موسم سيدي سعيد الشريف وموسم للآ زينة: كان موسم سيدي سعيد الشريف يمتد لثلاثة أيام، أو أربعة، ويبدأ يوم الثلاثاء ويُختم يوم الجمعة، وكان يوم الأربعاء خاصاً بالطلبة، يختمون فيه السلكة، ويحزبون فيه القرآن، ويوم الخميس يُخصَّص عادة للنساء، ويشرف عليه وقتها سيدي عمر، بن سيدي محمد بن سيدي سعيد الشريف، وهذا الرجل -سي عمر- هو الحفيد المباشر لسيدي سعيد الشريف، وزوج للآزينة الأولَى المتوفاة أواخر سنة 1979 م، التي ينسب إليها الموسم تسامحاً. ثُم كانت النساء يحضرن يوم الخميس ويجتمعن عند للآ خديجة زوجة سيدي محمد بن سعيد الشريف، ثم لما أحَسَّت بنوع من الاختلاط بين الرجال والنساء؛ اقترحت تحويل موسم خاص بالنساء يؤجل وقته إلى ما بعد موسم سيدي سعيد الشريف بخمسة عسر يوماً، ومنذ ذلك الحين استُحدث لأول مرة موسم للآ خديجة، المشهور لاحقاً بموسم للآ زينة، ولا يبعد بهذا التقدير أن يكون موسم سيدي سعيد الشريف سبقه بأعوام أو عقود قليلة. أصل موسم للآزينة بين الحقائق التاريخية والروايات الشفوية: كثير من الناس يظنون أن موسم للآزينة ينسب إلى السيدة التي ما زالت على قيد الحياة الآن، 2018، أقصد: والدة الراجي سيدي مولاي إسماعيل، وليس الأمر كذلك، وآخرون يصححون للأوائل محتجين عليهم، وقائلين لهم: إن الموسم إنما ينسب إلى للآ زينة التي توفيت أواخر سنة 1979م، والتي عرفت بتطبيبها للنساء، وليس للآ زينة التي ما زالت على قيد الحياة، قلت: وهذا خطأ تاريخي آخر ينضاف للأول. وبيان ذلك؛ أن أصل الموسم مستمد من موسم سيدي سعيد الشريف الذي عادة ما يبدأ يوم الثلاثاء إلى الجمعة، ويخصص المشرفون على الموسم يوم الأربعاء للطلبة، ثم الذي بعده للنساء، ثم تحول ذلك اليوم من موسم سيدي سعيد الشريف إلى موسم آخر منفصل عنه ومستقل بنفسه، اصطُلح عليه في عرف الهشتوكيين بموسم للآ زينة. وهو في حقيقة نشأته ليس موسم للآ زينة، بل هو موسم للآ خديجة، وهي التي ابتكرته وأشرفت عليه، واشتَهر وقتها باسمها، وتجتمع عندها النساء في أغلب قبائل سوس للمذاكرة، والحضرة. للآخديجة في سطور: هي زوجة سيدي محمد بن سيدي سعيد الشريف، أصلها من دوار أُلْبْنْ الكائن بطريق تنالت، ولها أولاد وهم محمد، وعمر، وسعيد، وعيسى، وكلهم ماتوا، وبقيت الآن حفيدتها للآ فاطمة، وهي مسنة كبيرة، ما زالت على قيد الحياة، وتسكن قبالة مسجد الجزولي. وقد كان زوج للآ خديجة سيدي محمد يشرف على موسم الرجال والطلبة بموسم أبيه سيدي سعيد الشريف، وزوجته تشرف على النساء الحاضرات وتلقي لهن الأذكار، وتستقطبهن إلى زاويتها فيتدارسن ما يهمهن من أمور دينهن، وبقيت السيدة للآ خديجة محافظة على الموسم بطابعه الديني الصوفي الذي تَشْرَب من معينه الروحي كل الهشتوكيات، واستمرت على نهجها للآ زينة حتى توفيت أواخر سنة 1979، ثم بعدها تسلمت للآ زينة التي ما زالت على قيد الحياة الآن مشعل الموسم الروحي للنساء. تأويل حول تحديد تاريخ موسم للآ زينة : لو أردنا أن نحدد تاريخاً معيناً لموسم للآ زينة لصعب ذلك علينا، لانعدام تاريخ بدايته، وأغلب الظن أنه مر عليه ثمانون سنة على أدنَى تقدير، وربما مائة سنة، لأن ابن سيدي سعيد الشريف الموسوم بسيدي محمد هو الذي بدأ موسم للآ زينة في حياته، عن طريق زوجته للآ خديجة، وإن كانت للآ زينة الأولى، المتوفاة سنة 1979 في ذلك الوقت لم تلد بعدُ، أو أنها صبية صغيرة، لأن تاريخ الموسم سبقها، واشتهر فيما بعد باسمها، فظن كثير من الناس أنه حديث عهد بالظهور، وليس الأمر كذلك، ونشكر الأستاذ اليربوعي الذي حثنا على تقدير تاريخ الموسم ولو بالتأويل لتوضيحه في الأذهان، ولو بالتقريب. هل موسم للآ زينة موسم ديني أم تجاري: كان الموسم في أصله موسماً دينياً صرفاً تجتمع النساء الصوفيات من أحواز هشتوكة، فقد سألت نجلَيْ السيدة للآ زينة عن النساء اللواتي يحضرن، فقالا: بأن النساء يأتين من مناطق قريبة من اشتوكة كأيت ملول، والدشيرة، وإنزكان، وماسة، تنضاف إليهن فقيرات إِدَا وْمْحْمْدْ، وكل مجموعة تختار مكاناً منعزلاً داخل الزاوية، ويذكرن الله فيها بأذكار نبوية، وتوسلات دينية، وابتهالات مختلفة، ثم تتقدم واعظة فتعظهن بكلام رقيق، ثم يلقين بعض المشكلات والأسئلة حول دينهن فتجيبهن المقدمة بما فتح الله عليها من فهم وعلم. ولوحظ أن نساء ماسة بأغبالو لهن علاقة قديمة جداً بنساء إِدَا ومْحْمْدْ، وكن يتبادلن الزيارات حيث تزورهن فقيرات اشتوكة بموسم المولد النبوي فيستقبلنهن بأطيب التحايا وأصدق التبريكات، ويعملن ما يسمى في عرفهن بالحضرة، ولطالما رجوت أن أقابل بعض المسنات لاكتشاف طبيعة علاقتهن بالموسم؛ لكن للأسف لَم يحصل ذلك . واستمر الموسم على هذا النحو إلى الآن، أي: سنة 2018 حيث ما زالت تلك المجموعات يأتين ويذكرن الله متخشعات، فعلم الله سبحانه وتعالى ما في قلوبهن فأنزل السكينة عليهن، لكن للآ زينة يرجع إليها الأمر في كل شيء، لأنها مقدمَّة على جميع الزائرات، وكيف لا وهن في ضيافتها بزاويتها الكائنة قرب مدرسة سيدي سعيد الشريف. وهكذا تبقى جميع المريدات يذكرن الله في الزاوية من يوم الثلاثاء إلى يوم الجمعة، فتختم للآ زينة ذلكم المجمع بدعاء صالح بزاويتها بجوار مدرسة سيدي سعيد في فناء فسيح داخل الزاوية، وتتقدم الزائرات بهبات، وصدقات للشرفاء، في جو إيماني تقشعر له جلود اللواتي يخشين ربهن. وقد كان الموسم منذ نشأته إلى هذه العصور الأخيرة موسماً دينياً، فدخلته التجارة في الأعوام القليلة، وقد أخبرني بعض الشرفاء -لم يبلغ بعد الأربعين- أن تاجراً أو تاجرين فقط يأتيان قرب باب الزاوية ويضعان الحناء، والخلاخل، وبعض ما يستميل النساء عادة، ثم تطور الأمر إلى أن أصبحوا عشرة، والعشرين والمائة، حتى صار بهذا الشكل الذي سيشاهده من جال فيه الآن، وبالجملة فقد سَلَّمَت للآ زينة المتوفاة المشعل للآ زينة الأخرى؛ لتستأنف مسيرة موسم النساء الروحي من جديد. جهود للآ زينة في خدمة الموسم : هذه السيدة الصالحة ما زالت على قيد الحياة، ماي 2018 أصلها من تييوت بأيت ميلك، عُرفت بالزهد والصلاح وتطبيب النساء ك: للآ زينة الأولى رحمها الله المتوفاة سنة 1979، والتي كان لها ابن يسمى محمد بن عمر بن محمد بن سيدي سعيد، حفيد سيدي سعيد الشريف، وهو زوج للآ زينة التي ما زالت على قيد الحياة الآن، 2018 وهو أي محمد، تلميذ سيدي الحاج لحبيب، فقيه يمارس التجارة، حتى توفي في 21 رمضان سنة 1989 . ويستعد أبناء للآ زينة للذبيحة كل أربعاء استعداداً للضيوف، وتشرف والدتهم على جميع تفاصيل الموسم، وتوزع الفقيرات في بيوت خاصة لهن، ويذكرن الله فيها، كما تقوم بالدعاء في يوم الختم، وتتبرك النساء بها في موكب بهيج تضيق به عادة رحاب زاوية للآ زينة. هل للطب التقليدي دخل في موسم للآزينة: إن جميع النساء الصالحات اللواتي تعاقبن على الإشراف على موسم للآ زينة بدءاً من للآ خديجة، ومروراً ب: للآ زينة الأولى، وانتهاء بالثانية، كلهن يمارسن الطب التقليدي، وهو تقليد منغرس في أعراف نساء المجتمع المغربي منذ عهود مضت، إلَى الآن. واشتهر عند الهشتوكيات أنهن كلما أحسسن بضرر في صحتهن، أو ألم يؤلمهن، يتجهن صوب للآ زينة، فيجدن الشفاء على يديها، لخبرتها في ذلك التي راكمتها سنين عدداً بناء على ممارسات ومهارات خاصة، بعضها قابل للشرح، وبعضها لا، لكن على كلا التقديرين تحفظ تلكم المسببات على الصحة، وتصونها من كل أذى، مع تنقية البدن من الأمراض، والنفس من النزوات، واشتهرن جميعاً بالكي في أماكن خاصة في الجسم مما يسبب على وجه السرعة الانسداد في مجرى الطاقة، واستعادة توازنهن النفسي. ولا شك أن كثيراً من النساء يتَرجّيْن وصول هذا الموسم لاستعادة توازنهن النفسي، أو لتطبيبهن، أو المشاركة في الحضرة، أو التسوق تعددت الأسباب والموسم واحد، وهكذا ظل موسم للآ زينة متنفساً للنساء الصغيرات، والمسنات، والبنات، فيتجولن في السوق، ويزرن الزاوية، ويستشفين، في جو إيماني عجيب، تلتقي فيه أصالة الأذكار الروحية بأنصع صورها، ومعاصرة الطب الشعبي بأحلى مظاهره، ولكل امرئ ما نوى. دعوة خاصة للشباب: أهيب بالشباب الهشتوكيين أن يتصدوا لتاريخ بلدهم، وأن يصونوا تراثه من الدخيل، حتى لا يلتبس فيه الصحيح بالعليل، وأن يسارعوا إلى توثيق ما بات يصطلح عليه في العلوم الإنسانية بالتراث اللامادي، أي: جمع الروايات الشفوية حتى لا تضيع، وتدوين تاريخه الديني والاجتماعي حتى لا يندرس، ورغم أنني من المبتدئين في هذا المجال؛ لكني لا أبخل عمن يبحث عن المساعدة، فأنا مستعد لتقديمه آليات البحث، وطرق جمعه، ومناهج توثيقه. فقد جمعت قبل هذا المقال، تاريخ تعلات، وسيدي الحاج الحبيب، والفقيه البوشواري، وترجمت لعدة فقهاء هشتوكيين، وألفت كتاباً آخر قبل كل ذلك، فتحصل لي من مجموع ما هنالك؛ أن منبع الروايات الشفوية آخذها غالباً عن المسنين أصحاب الثمانين والتسعين، أما بعضها الآخر، فبعد محاوراتهم ومحاصراتهم بالأسئلة الدقيقة؛ قالوا: لم نسأل عليها، أو لا ندري، أو لو سألنا فلاناً لأجاب ؟ لكنه للأسف مات العام الماضي !! وبعضهم الآخر يتمثل قول الله تعالى: (إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين) فإذا كان هؤلاء المسنون لا يعرفون إلا نزراً يسيراً من تراث اشتوكة حالاً؛ فكيف الظن بشبابهم مستقبلاً ؟ وهكذا حال البحث الميداني في اشتوكة، فقد تعذر علي العثور على كثير من المعلومات التاريخية ولم أتوصل بها من قبيل: متى بدأ موسم للآ زينة بالتحديد ؟ بل متى احتفلت للآ خديجة بأول موسم ؟ وكيف انفصل عن موسم سيدي سعيد ؟ هل هو حقيقة مستقل بنفسه ؟ أم فرع عنه ؟ وهل المشرفات على الموسم شريفات النسب أم لا ؟ وهل يمكن اعتبار الموسم دعاية للتشهير بالطب الشعبي ؟ أم أنه أسس على التقوى من أول يوم ؟ أسئلة وغيرها يتعذر الإجابة عنها الآن، وإذا لم يتنبه الشباب إلى توثيق تراثهم عاجلاً غير آجل، فستموت تلك المصادر، وسيبقى جانباً كبيراً من تراثهم مجهولاً، وإن شئت قلتَ مفقوداً إلى الأبد. نصيحة تاريخية للشباب: كلما أفكر في موضوع يتعلق بالنساء وأخبارهن إلا وتجد سيلاً من الانتقادات تأتيني من أصحابي الباحثين عن اليمين وعن الشمال، ويسخرون مني تارة، ويستهزئون أخرى، ونصيحتِي لمن يجمعون التراث الشفهي للظواهر الاجتماعية -سيما ما يتعلق منها بأخبار العوام، والنساء، وعوائد الطبقة الشعبية- أن يتجاهلوا تلك الأسمار ويهملوها، فإنها سم قاتل دُسَّ بأيْد بريئة من أبناء جلدتنا، فأصبحت للأسف حصوننا الثقافية بسوس مهددة من داخلها. مسك الختام: لَم يقف بعض الباحثين الأكادميين عند ذلك الحد، بل لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، غير أن ما يقض مضجعي أكثر، أن بعض هؤلاء؛ من كبار المثقفين والباحثين، أما من دونهم فلا نسترسل معهم إلا بمقدار، وإن كانوا من أهل الدار، وسيجدهم الباحث مرصدين له فِي الطريق، ويعوقونه عن السير كأحجار عثرة فِي كل مرحلة. ويكفيك أن المختار السوسي لما كان يجمع تراث سوس العلمي؛ اتُّهم بأنه مجنون، وأنه مغفل، لكنه لم يبال بهؤلاء، فذهبت صيحتهم في واد، وبقي تراث المختار السوسي عقداً نفيساً يتزين به التراث السوسي في المجالس والمنتديات، ويتباهى به السوسيون القبائل الأخرى، فرحمك الله يا محمد مختار السوسي، لأن كتاباتك التاريخية ستبقى حصناً منيعاً سينهل منها السوسيون ما سيحتاجونه في أصول تاريخهم العلمي والاجتماعي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.