ِ تتمة أ في المجال الأعم : لقد كانت الصدمة الغربية للعالم العربي الإسلامي بالفعل أكبر حدث في تاريخه الحديث ، وكانت من القوة والعنف بحيث زلزلت كيان هذا العالم واهتزت لها العديد من الثوابت والمؤسسات ، وفي أوج هذا الارتجاج الحضاري الضخم فرض الغرب نفسه نموذجا حضاريا باهرا يملك كل إمكانات الامتداد والتأثير في الذات حتى آخر الحدود ، وأصبح النموذج الغربي " المثال الأوحد الممكن " في ميدان الحضارة والتمدن ، وتخلق هذا المثال في الوعي العربي والإسلامي بشكل كامل ، وتم استنباته داخل الأنسجة النفسية المنهارة بفعل تراكم الزمن 1- » مجتمع النخبة « د . برهان غليون ص : 226. 2- » المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب « شكري محمد عياد .ص : 17 . 3- نفسه ص : 146 المتخلف وبفعل صدمة الحضارة الغربية القوية لهذه الأنسجة . بل إن "الوعي العربي " نفسه الذي انبثق مع بداية ماسمي بعصر النهضة جاء في رؤيته لذاته ماضيا وحاضرا ومستقبلا كرد فعل، منذ أن وجد نفسه إزاء الغرب وما توصل إليه من علم ؛ أي مع بداية الصدمة الحضارية التي أحدثها الغزو الغربي للعالم الإسلامي وبالتحديد مع الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونبارت عام 1798 م والذي اصطحب معه مالا يقل عن مائة وخمسين عالما في مختلف العلوم .«. ¹ هكذا كان المثال الغربي الجاهز معطى جوهريا لا يمكن تجاوزه البتة في ملامسة أسئلة الواقع المنهار والمتعلقة بسبل النهوض من رماد التخلف . بل أصبح هذا المثال بمثابة المركز الذي تؤول إليه مختلف الأسئلة والهواجس التي تنبثق في الذاكرة والشعور ، وإطارا مرجعيا قائما بذاته له القدرة على تحديد سقف الأحلام وصياغة مدى الطموح ، ولهذا لم يكن عجبا أن سؤال النهضة في الواقع العربي اختزل ضمن هدف محدد ، تعددت من حوله الأسماء والصياغات من قبيل : كيف نصل إلى ما وصله هذا الغرب الغازي ؟ . والسؤال كما هو واضح يستبطن حدا عاليا من الانبهار بهذا النموذج ورغبة جامحة لتحقيق " التماثل " ، وذلك لن يتأتى إلا باستشراف حد أقصى من " التمثل " لهذا النموذج . والتمثل اختيار في الحياة والتفكير والشعور يستلزم عقلية تبعية من خصائصها الميل الشديد إلى التبسيط والتجريد في ملامسة الواقع ومفرداته ، مع التبني المطلق لمبدأ " التعميم " باعتباره آلية إجرائية طيعة ومسعفة في هذه الملامسة . وبذلك صرنا أمام تراتبية منطقية عجيبة تعكس شكلا سائدا من أشكال الرد على التحدي المزدوج الذي عاشته الأمة والمتمثل في امتداد الزمن المتخلف من جهة واستعلاء المثال الغربي الجاهز من جهة ثانية ، وقد عبرت النخبة تعبيرا واضحا عن تبنيها لهذه التراتبية بمستوياتها الأربع والتي يمكن التمثيل لها على الشكل التالي : 1 - زينب ابراهيم - مجلة المنطق ع 99 ص : 39 1 مستوى صدمة المثال الجاهز 2 مستوى البحث عن التماثل 3 مستوى التمثل 4 مستوى التعميم إذا كانت الصدمة تمثل مستوى الاحتكاك المفاجئ بالنموذج الغربي فإن المستويين الثاني والثالث يعكسان حالة من تشكل بنية التمثل على مستوى الأنسجة النفسية والذهنية ، في حين يعتبر التعميم الأفق والتجسيد العملي للبنية واكتمالها . وهذا التعميم يتحول إلى نوع من المأزق أو النفق المنهجي الذي يتم فيه الحجر على مفهوم الإبداع حيث يسقط الباحث في فخ إغراءات السهولة ، ويتبناه حلا سحريا جاهزا و إجابة مقنعة عن سؤال الإبداع وفي هذا التعميم المنهجي الفج تنمحي المسافات بين الأشياء والحضارات وتندغم الفروقات الجوهرية والفرعية في زاوية الإهمال والتغافل ، وتكون المراهنة الكلية على ماقد يبدو قواسم مشتركة بين التجارب البشرية المختلفة، وهذا رهان هش بالتأكيد . إن " المثال الجاهز" هو بالفعل تحد كبير ويتحول إلى مثير خارجي تختلف وظيفته باختلاف مستوى الاستجابة من قبل الذات المتلقية له ؛ فإما أن تكون هذه الاستجابة ردا على التحدي استنادا إلى نسيج نفسي يقبله ،وتعمل من خلال ذلك الذات على الاستيعاب والتمثل من أجل النهوض والتجاوز وليس إعادة الإنتاج ، وإما أن تكون تلك الاستجابة حالة من الانبهار التي تستدعي الانهيار والتسليم المطلق لهذا المثال الجاهز وتحديد سقف الطموح ضمن حيز مغلق هو " التماثل " معه ، بل إن هذا المثال يحول متمثله إلى كتلة عاجزة عن الإبداع خارج شبكته الممتدة وأنماطه القائمة الأركان . وبفعل الانخراط ضمن سيرورته وشبكته من باب التمثل بما يستدعيه ، كما سبقت الإشارة ، من تبعية وتسليم يُفقد العقل المتمثل الكثير من مقومات كينونته ليستعيض عن ذلك بتبني الاجترار والاستهلاك والتقليد والترجمة . وتلك هي النتيجة الطبيعية للاستجابة من داخل الهزيمة الحضارية والتي مارستها النخبة ولازالت تمارسها على نطاق واسع . وهنا ينبغي أن نلاحظ أن الاستجابة للتحدي من داخل الهزيمة الحضارية بما تعنيه من تلقف للنموذج الغربي هي " بدعة " طارئة في الرد على التحديات الخارجية حين الاصطدام والاحتكاك بالنماذج الحضارية الأخرى ؛ فمعلوم أن الحضارة العربية الإسلامية كانت طيلة تاريخها الطويل من القوة والامتداد بحيث احتكت بالعديد من الحضارات والأمم الأخرى وكانت في كل ذلك تمتلك قدرة هائلة على التماسك والتأثير واستيعاب المؤثرات الخارجية بحيث تقوم بتحويلها إلى عناصر قوة جديدة في نسقها أو نموذجها المتميز سواء تعلق الأمر بطرائق البحث والمعرفة أو بباقي أنماط الحياة الأخرى بل إن هذه القدرة الاستيعابية من أهم خصائص النموذج الحضاري الإسلامي ككل ، فلنلاحظ كيف استطاعت الفتوحات الإسلامية أن تمتد بعيدا في ظرف زمني وجيز، واستطاعت أن تصهر أنساقا حضارية كاملة بما فيها من أعراق وأعراف لغات ومعارف … وأن تحولها إلى أنساق إسلامية وروافد جديدة تصب في منظومة حضارية واحدة هي منظومة الإسلام . بل إننا نقف في هذه الاحتكاكات على نماذج فريدة من نوعها : فلقد احتكت الحضارة الإسلامية بحضارات اليونان والروم والفرس والهند وأثرت فيها كما تأثرت بها مستوعبة جوانبها الإيجابية دونما سقوط أو استشعار للدونية أمام نماذجها البراقة . واحتكت الأمة خلال الحروب الصليبية احتكاكا عنيفا بأوربا خرجت منه منتصرة ظافرة ، وأثرت في الغرب كله تأثيرا بالغا ويكفي أن هذا الالتقاء كان بداية لانتقال مشعل المدنية من البلاد العربية الإسلامية إلى المنطقة الأخرى من العالم . بل والأغرب من ذلك احتكت الأمة بجيش الماغول الجبار واستطاعت بقوة حضارتها وعظمة دينها أن تستقطب هذا الغازي نفسه وأن تحوله مواطنا في أرضها بعد تعليمه أبجدية الحضارة والتمدن . تلكم هي طبيعة الاستجابة التي كانت ترد بها الأمة على التحدي الخارجي إلا أن الاختلال
الطارئ في الزمن الراهن امتد بعيدا في النسيج الذاتي لهذه الأمة وطال هذا المنهج في الأداء الحضاري نفسه بحيث فقدت القدرة حتى على الدفاع الذاتي بله الاستيعاب والتأثير ،وأصبحت مجرد جسم مترهل قابل للانفعال دون الفعل . أما أبناؤها فقد خلف من بعدهم خلف أضاعوا الحضارة واتبعوا الغرب في كل شيء ، وإن كان الصراع مازال محتدما كما يقول مالك بن بني رحمه الله » بين أولئك الذين يريدون الدفاع عن القلعة والذين يريدون تسليمها إلى الأفكار الأجنبية « .¹ بناء على ما سلف ينبغي القول أن الإشكال حتما لا يكمن في الانبناء المسبق لهذا النموذج الغربي سالف الذكر باعتباره معطى من معطيات الموضوع والذات لاتملك قدرة إلغائه من سيرورة التاريخ، ولكن المشكل يتمثل في الطريقة التي تم من خلالها استيعاب هذا المعطى القائم وفي طبيعة الأداء داخل ساحة الحضارة من خلال عقدة هذا المثال الجاهز ، فعوض استيعابه بشكل عقلاني واعتباره تجربة بشرية تمتلك جوانب الصواب وكذلك عناصر الخلل ، تم النظر إليه كمثال ينبغي احتذاؤه في كل شيء ، وحدد لفاعلية الإبداع أفق ضيق هو إعادة إنتاج هذا النموذج على أرض الذات وضمن خصائصها المتميزة . والمعضلة لاتكمن في الإشكال المغلوط الذي أثير والذي لا زال ينخر في ذواتنا لحد الآن والمتعلق بسؤال : هل نتفاعل مع الغرب أم لا ؟ هل نحن ضد الغرب أم معه ؟ هل نقتبس حضارة هذا الغرب أم ننطوي على ذواتنا في شرنقة وضمور …؟ . المعضلة تكمن في تبني المثال الغربي الجاهز واعتباره سلطة مرجعية وحقلا للاستيراد وبديلا عن الواقع بما يستلزمه من معاناة من أجل الإبداع . أما التبني سابق الذكر فهو المأزق الفعلي للعقل العربي وللخيارات المنهجية التي يستهويها الظل كثيرا .ِ يتبع