(محطات في التصوف المغربي: 2) السلوك عند الإمام أبي حامد الغزالي يعد الإمام الغزالي من أئمة الإسلام البارزين، الذين ضربوا بسهم في العلوم العقلية؛ خاصة الفلسفة، والفقه، والأصول، والكلام، علاوة على خوضه في ميدان التصوف والتربية، مراسة وتأليفا وتربية، بحيث ترك تراثا ضخما منفردا في هذا المجال، وهو الأمر الذي جعله مرجعا من أهم مراجع الإسلام بحيث لا يكاد يخلو كتاب من الكتب من النقل عنه، احتجاجا أو استئناسا أو مناقشة. غير أن ما يعنينا الآن هو الجانب التربوي والسلوكي عند الإمام الغزالي، وهو الجانب الذي أضاف إليه هالة من الاحترام والتقدير، بل والقداسة إن صح التعبير، والذي يبلغ أوجه في كتابه "إحياء علوم الدين". إذ إن كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي من أهم الكتب التي جمعت بين علوم الكلام والفقه والتربية، وقد تلقته الأمة بالقبول، واحتفت به، وجعلته ناموسا يخطب به ويتربى بهديه وطريقته. وقد قسم المؤلف كتابه هذا إلى عدة كتب فرعية، من أهمها: كتاب "التوحيد والتوكل"، وهو من ربع المنجيات، أحد أرباع الكتاب، هذا الكتاب الذي ختمه المؤلف – رحمه الله – بنظريته الشهيرة: "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، والتي تبارى العلماء في الحديث والنقاش حولها جيلا وراء جيل، بين موافق مبرر، ومخالف ناقد. نشأ الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي الغزالي، المولود عام 450ه/ 1058م، يتيما، فكفله أحد أصحاب والده فاعتنى بعلمه وتهذيبه، فقد قام أبو حامد الغزالي بتعلم مبادئ اللغة والنحو كما حفظ القرآن الكريم وتعلم اللغة الفارسية، ثم انتقل بعد ذلك إلى جرجان، والتي عرفت بمدينة الفقهاء والمحدثين، فتتلمذ على يد علمائها، ثم عاد مرة أخرى إلى طوس حاملاً عددا من الكتب التي انكب على دراستها لمدة ثلاث سنوات. ثم انتقل الغزالي بعد ذلك إلى نيسابور وذلك عام 473ه - 1080م، والتحق هناك بإمام الحرمين ضياء الدين الجويني مدرس الفقه والمنطق في جامعتها النظامية إلى أن مات، وهناك تعلم الفقه والمنطق والفلسفة وأصول الفقه وغيرها من العلوم، وكان واحداً من تلاميذ الجويني الأذكياء وبعد أن أظهر الكثير من النبوغ عهد إليه بإلقاء الدروس. وقام الغزالي بجمع الكتب وحفظها فقوي علمه وترسخ في الدين، كما قام بالإطلاع على كتب الفلاسفة فتعمق بها ودرس بها مما أثرى معرفته. عظمت مرتبة الإمام الغزالي عند الملوك فمن دونهم، بل كلفه نظام الملك بالرد على طوائف الزنادقة والضالين، فكان بناظرهم ويفحمهم، غير أنه ما لبث أن ترك التدريس بالمدرسة النظامية، واتجه نحو الزهد والعبادة، وتنقل بين عدد من المدن الإسلامية، فبعد أن مكث بدمشق فترة من الزمن انتقل إلى القدس، ومنها إلى مكة ثم عاد مرة أخرى إلى دمشق فاعتكف بالجامع الأموي، آخذاً على عاتقه مهمة الإفتاء والوعظ، وبدأ في وضع كتابه "إحياء علوم الدين"، وبعد أن تنقل بين القدس والحجاز؛ عاد إلى بغداد وسعى من أجل إتمام "الإحياء". قام فخر الملك ابن الوزير نظام الملك بحمل أمر من السلطان إليه وذلك من اجل التدريس في جامعة "نيسابور" فقام بالتدريس بها لمدة عامين، ثم ترك التدريس وغادر إلى طوس وقام هناك بإنشاء "زاوية" صوفية وانقطع بها للعبادة وتدريس الفقه حتى وفاته. وقد قضى الغزالي حياته في نشر العلم والفكر الإسلامي، بالإضافة للبحث والتدقيق محاولاً استخلاص الحقائق، كما عمد إلى اتباع منهج الشك للوصول إلى اليقين، واتجه الغزالي نحو الزهد والتصوف، وتم تلقيبه بلقب "حجة الإسلام". توفى الشيخ أبو حامد الغزالي عام 505ه، بعد أن بذل الكثير من حياته من أجل خدمة العلم والإسلام، وبعد أن ترك مجموعة من الكتب القيمة التي يرجع إليها الكثيرون من طلاب العلم.. ويتصل سند الإمام الغزالي التربوي بالإمام الجنيد؛ فهو أخذ عن أبي المعالي الجويني عن أبي القاسم القشيري صاحب "الرسالة" في التصوف عن الشيخ الأستاذ أبي علي الحسن بن علي الدقاق عن الشيخ أبي القاسم إبراهيم بن محمد النصرأبادي عن الشيخ أبي بكر الشِبْلي عن الشيخ أستاذ الطائفة وسيدها أبي القاسم الجنيد بن محمد القواريري. وأخذ الجويني أيضا عن أبي طالب المكي صاحب "قوت القلوب"، عن أبي سعيد ابن الأعرابي عن الإمام الجنيد. وعن الإمام الغزالي أخذ أئمة؛ منهم: القاضي أبو بكر بن العربي المعافري، وعنه أبو الحسن علي بن حرزهم الفاسي، وعنه أمة من الناس؛ كأبي مدين التلمساني وأبي الحسن الشاذلي وغيرهما ممن تتصل بهم جل الطرق الصوفية المعروفة الآن. وقد ترك الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى عدة مؤلفات؛ منها في التربية والتصوف: "أيها الولد"؛ وهو نصيحة لابنه، ويعتبر كتابا أساسيا فيما يتعلق بتربية المبتدئين، و"المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى"، و"ميزان العمل"، و"المنقذ من الضلال" وهو كتاب سلوك وكلام عالي النفس، كتبه للأعلام والفلاسفة. و"إحياء علوم الدين"؛ وهو خزانة الإمام الغزالي التي نهل منها الناس جيلا بعد جيل، ودهرا وراء دهر. ولا يمكن للدارس في الجانب التروبوي والسلوكي عند الإمام الغزالي خاصة، وجوانبه كلها عامة أن يبحث فيها دون الرجوع إلى هذا الكتاب العظيم. هذا الكتاب – "إحياء علوم الدين" – أمضى الغزالي في تأليفه عشر سنوات، وكان مقصوده منه إعادة العلوم الشرعية إلى نفسها الروحي بعد أن صارت علوم آلة، ووسيلة للاختلاف والائتلاف، واكتساب الدنيا بالمناصب والجاه. وقد ضمنه كتبا؛ كقوت القلوب لأبي طالب المكي، و"الرسالة" للقشيري، و"الرعاية" للمحاسبي، وزاد عليها من علمه وتجربته، فجعله في أربعة أرباع، كل ربع يضم عدة كتب، والأرباع هي: العبادات، العادات، المهلكات، المنجيات. وبالنظر إلى مضمون هذه الأرباع يتجلى المنهج التربوي عند الإمام الغزالي؛ فنجد أن جزء "العبادات" يبحث فيه في آداب العبادات وخفاياه، وسننها وأسرار معانيها، بينما في جزء "العادات" يبحث في أسرار المعاملات الجارية بين الناس، وسننها، بالإضافة للدعوة إلى تبادل الفوائد الدينية والدنيوية، كما يبحث في الصداقة وشروطها، والنكاح، والكسب والسفر وآداب المعيشة وغيرها من الأمور. أما في "المهلكات" فيبحث فيه في الأخلاق والأفعال السيئة والتي أمر القرآن بالابتعاد عنها، فيتحدث عن تهذيب الأخلاق، وآفات اللسان، وذم الغضب والحقد والحسد، وذم الكبر والغرور وغيرها. وفي الجزء الخاص ب: "المنجيات"؛ يذكر كل خلق محمود وخصلة مرغوب فيها، وذلك من خصال المقربين والصديقين، والتي يتقرب بها العبد من رب العالمين، فيبحث في التوبة والصبر، والفقر، والزهد، والورع، والتوكل، والنية، والإخلاص، والصدق...وغيرها. وقد اختلف العلماء – أولا – في كتاب "الإحياء" بين معظم ومقزم، حتى بلغ الأمر بدولة الموحدين في المغرب أن أحرقوا نسخه في باديء الأمر، إلا أنه لم يمض وقت حتى كاد يتم الإجماع على فضله واعتماده، بل والتدريس به وشرحه في مشارق الأرض ومغاربها.خاصة بعد إفتاء إمام المغرب وقته أبي الحسن علي بن حرزهم بذلك.. بل عني كبار العلماء بمعارضته، واختصاره، وتخريج أحاديثه، وانتقاده، بل والتحشية عليه وشرحه؛ ولعل أعظم كتاب في الموضوع: "إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين" للحافظ الشيخ مرتضى الزبيدي. ولعل نظرة إلى باب واحد من أبواب هذا الكتاب؛ وهو "كتاب التوحيد والتوكل" الذي هو الكتاب الخامس من ربع "المنجيات" يصور بأسلوب أمين منهج الإمام الغزالي في السلوك. فالأصل في الكتاب هو ذكر التوكل، وجاء الحديث عن التوحيد باعتباره أصل التوكل، وأن التوكل لا يكون إلا بالتوحيد، قال الغزالي: "اعلم أن التوكل من باب الإيمان، وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم وحال وعمل، والتوكل كذلك ينتظم من - علم - هو الأصل - وعمل- هو الثمرة - وحال - هو المراد باسم التوكل... إنما نحتاج منها إلى ما نبني عليه التوكل وهو التوحيد" (4/ 377). ففصل "التوحيد" إنما هو جزء من كتاب "التوحيد والتوكل" من "الإحياء". وقد قسم المؤلف التوحيد إلى أربعة أقسام؛ قال: "فالرتبة الأولى من التوحيد: هي أن يقول الإنسان بلسانه "لا إله إلا الله" وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين. والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام. والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين". (4/ 377). ثم عرف كل نوع من أنواع التوحيد تعريفا موجزا، ومثل له بالجوزة، القسم الأول: قشرتها، والثاني لحاؤها، والثالث جوزتها، والرابع زيتها الذي يراد منها ويستفاد منه. وذكر كل قسم وما يقتضيه من حيث الشريعة. ثم جعل حديثه عن المرتبة الثالثة من مراتب التوحيد، وهي التي جعل التوكل مناطا بها، قال: "أما الرابع فلا يجوز الخوض في بيانه، وليس التوكل أيضاً مبنياً عليه، بل يحصل حال التوكل بالتوحيد الثالث. وأما الأول؛ وهو: النفاق. فواضح. وأما الثاني؛ وهو: الاعتقاد. فهو موجود في عموم المسلمين، وطريق تأكيده بالكلام ودفع حيل المبتدعة فيه مذكور في عالم الكلام، وقد ذكرنا في كتاب: "الاقتصاد في الاعتقاد" القدر المهم منه. وأما الثالث؛ فهو الذي يبني عليه التوكل، فلنذكر منه القدر الذي يرتبط التوكل به دون تفصيله الذي لا يحتمله أمثال هذا الكتاب". (4/ 380). ثم قال في تعريف هذا النوع من التوحيد: "أن ينكشف لك أن لا فاعل إلا الله تعالى، وأن كل موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع وموت وغنى وفقر إلى غير ذلك مما ينطلق عليه اسم فالمنفرد بإبداعه واختراعه هو الله عز وجل لا شريك له فيه، وإذا انكشف لك هذا لم تنظر إلى غيره بل كان منه خوفك وإليه رجاؤك وبه ثقتك وعليه اتكالك، فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره، وما سواه مسخرون لا استقلال لهم بتحريك ذرة من ملكوت السموات والأرض". (4/ 380). فهو مفهوم وثمرة. وبعد ذلك أسهب الإمام الغزالي في وصف مفهوم التوحيد بهذا المعنى، وذلك بطريقة عقلية أحيانا، وطريقة كلامية أحيانا أخرى، وبطريقة صوفية كشفية أحيانا ثالثة، وبطريقة صوفية عرفانية أحيانا رابعة. واعتبر مشهد اعتقاد أن الله تعالى هو الفاعل المختار في العالم ذا مرتبتين؛ أولها: في أفعال الكون والجمادات. والثاني؛ وهو المهلكة الثانية: الالتفات إلى اختيار الحيوانات في الأفعال الاختيارية. ومن المهلكة الثانية، تطرق المؤلف - رحمه الله – إلى صفات الحق تعالى، كيف خالفت الحوادث، وكيف أن كلام الله تعالى بلا صوت ولا حرف، وأن صفاته مباينة – حتى صفات الذات – للمخلوقات من كل وجه، وكيف ينتفع السالك بهذا العلم وهذا الاعتقاد. وهو لا يفتأ يضرب للقاريء الأمثال، تبسيطا لفهم المعنى وتسهيلا. ومر المؤلف على معان وأذواق قربها بأسلوب تواق، فذكر عوالم الملك والملكوت والجبروت، قال: "عالم الملك والشهادة أولها، ولقد كان الكاغد والحبر والقلم واليد من هذا العالم، وقد جاوزتَ تلك المنازل على سهولة، والثاني: عالم الملكوت، وهو ورائي، فإذا جاوزتني؛ انتهيتَ إلى منازله، وفيه المهامة الفيح والجبال الشاهقة والبحار المغرقة، ولا أدري كيف تسلم فيها، والثالث هو: عالم الجبروت وهو بين عالم الملك وعالم الملكوت". (4/ 385). ومن هنا يلتفت المؤلف – رحمه الله – إلى أمر مهم من أمور العقيدة، وهو الصفات، فيفتح فيه غلقا طالما تقاتل عليه أهل الحديث وأهل الكلام، فيلج بين قوليهما بلسان ذلق أخاذ، يستحق أن يكون في نفسه مدرسة كلامية، قال: "أما علمت أن الله تعالى لا تشبه ذاته سوائر الذوات، فكذلك لا تشبه يده الأيدي ولا قلمه الأقلام، ولا كلامه سائر الكلام، ولا خطه سائر الخطوط، وهذه أمور إلهية من عالم الملكوت، فليس الله تعالى في ذاته بجسم ولا هو في مكان، بخلاف غيره، ولا يده لحم وعظم ودم، بخلاف الأيدي، ولاقلمه من قصب، ولا لوحه من خشب، ولا كلامه بصوت وحرف، ولا خطه رقم ورسم، ولا حبره زاج وعفص، فإن كنت لا تشاهد هذا هكذا؛ فما أراك إلا مخنثاً بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه!". (4/ 286). وقد ابتدأ المؤلف في جولانه الروحي الفكري من قصة تدور على القلم والدواة، إلى أن يتدرج من عالم الملكوت للجبروت، لعالم الملك، الذس يبتديء بالقلم الإلهي، ويتدرج من العلم للإرادة للقدرة عبر الصفات، ليصل إلى قاعدة هامة؛ وهي قوله عن سؤال القدرة عن سبب قدرتها فأحالته على القادر جل وعلا: "إذ العمدة على الموصوفات لا على الصفات!". (4/ 388). وجعل المرجع في كل هذه المقامات والمشاهدات للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مهما ارتقى فلن يبلغ رتبة الصحابة الكرام، فقال: "فنودي من وراء الحجاب: إياك أن تطمع في الثناء وتزيد على سيد الأنبياء، بل ارجع إليه فما آتاك فخذه وما نهاك عنه فانته عنه، وما قاله لك فقله... فقال: إلهي إن لم يكن للسان جرأة على الثناء عليك فهل للقلب مطمع في معرفتك، فنودي: إياك أن تتخطى رقاب الصديقين، فارجع إلى الصديق الأكبر فاقتد به؛ فإن أصحاب سيد الأنبياء كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، أما سمعته يقول: العجز عن درك الإدراك إدراك". (4/ 388). وبعد ذلك انطلق إلى إثبات عالمي الملك والملكوت، بطريقة عقلية وكلامية، فإنكار عالم الملكوت من منهج السمنية الذين لا يثبتون إلا ما يحس بالحواس الخمس، وإنكار عالم الملك من منهج السوفسطائية التي تشكك في المحسوسات. ويخلص إلى أن علم الكلام علم العوام الذين لا يفهمون سوى المحسوسات ولهم توكلهم الخاس بهم. وعلم الخاصة هو علم الكشف الذي يطلع على عالم الملك، وهم الأثبت في باب التوكل. ومن هنا تحدث المؤلف بإسهاب عن القدرة والاختيار بالنسبة للبشر، وخلص في ذلك إلى أن يخلص إلى أن الإنسان "مجبور في قالب الاختيار"، بل خلص في نهاية الفصل إلى قوله: "فقد ظهر الآن أن الكل جبر!". (4/ 296). واعتمد في هذا الباب علم الكلام، فقال في الاختيار: "فالاختيار: عبارة عن إرادة خاصة، وهي التي انبعثت بإشارة العقل فيما له في إدراكه توقف، وعن هذا قيل: إن العقل يحتاج إليه للتمييز بين خير الخيرين وشر الشرين". (4/ 292)، ثم هنا خلص المؤلف إلى قاعدة كلامية مهمة، فقال: "وجميع الألفاظ المذكورة في اللغات لا يمكن أن تستعمل في حق الله تعالى إلا على نوع من الاستعارة والتجوز". (4/ 292). ومن هنا عرج المؤلف على القول بالقدرة الأزلية، وأن العلم والقدرة والإرادة والفعل بالنسبة للمخلوقات غير مترتب بعضه على بعض، وأسهب في الحديث عن "القدرة الأزلية"، وأن العالم كله مسخر لخدمة الله تعالى، وأنه مخلوق بالحق، فلا تقديم وتأخير فيه إلا بحسب الفهم لا الأصل، فليس في الصفات الإلهية تقديم والأخير بحسب نسبتها لله تعالى، "فكل ما بين السماء والأرض حادث على ترتيب واجب وحق لازم لا يتصور أن يكون إلا كما حدث، وعلى هذا الترتيب الذي وجد فما تأخر متأخر إلا لانتظار شرطه". (4/ 393)، "فهكذا ينبغي أن تفهم صدور المقدّرات عن القدرة الأزلية مع أن القدرة قديمة والمقدورات حادثة، وهذا قرع باب آخر لعالم آخر من عوالم المكاشفات". (4/ 394). ثم استطرد في مسألة تعلق الفعل بقدرتين، وهي مسألة كلامية شائكة، خلص فيها إلى أن قدرة المخلوق من قدرة الخالق تعالى، إنما هي مستحدثة وقدرة الخالق أزلية، ليحل إشكال التناقض بين التوحيد والشرع. وانتهى المؤلف – رحمه الله تعالى – إلى نظريته الشهيرة، وهي: "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، وهي النظرية التي تضاربت آراء الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والصوفية فيها، وألف كل فيها بحسب فهمه وإدراكه، ولكن باعتبار أن الدنيا واللآخرة شيء واحد، فما نقص في الدنيا عوض في الآخرة، وما زاد فيها عوض منها. التوحيد من "الإحياء" مقسم في مفهومه إلى عدة مراتب: المنافقين والعامة، والخاصة، وخاصة الخاصة، لينفرد المؤلف بالحديث عن توحيد العامة والخاصة من حيث المواجيد والشعور، والتأمل والتأله، وما يترتب على ذلك من يقين يكون سببا في التخلق والتحلي بمقام التوكل، وتفرع إلى الحديث عن عوالم الملك والملكوت والجبروت، والقدرة والإرادة والعلم، والجبر والاختيار، كل ذلك لا من حيث الإثبات ولكن من حيث الثمرة. وقد عني الإمام الغزالي في كتاب "التوحيد والتوكل" بذكر ثمرة التوحيد، وثمرة ما ينتج عنه، ووصف ذلك، وإثبات الصفة والمواجيد من حيث علم الكلام، وعلم الحقائق، والمعقوليات، والمنطق، وضرب الأمثلة التقريبية ليجعل القاريء يستشعر ما هو بصدد الحديث عنه، فهو مزيج بين عدة مناهج عقلية وروحية. فمن هنا يظهر لنا أن السلوك عند الإمام الغزالي يبتديء بمراحل؛ وهي: - السلوك الأولي، أو: سلوك العامة، الذي يبتديء بالمحافظة على أحكام الشريعة وآدابها. - السلوك الأوسط: وهو المتعلق بتدريب النفس على استحضار الله تعالى في جميع تصرفاتها، ومراعاة الإخلاص وأعمال القلوب، ومداواة أمراضها وعللها. - ثم السلوك العالي، وهو: سلوك خاصة الخاصة، وهو التأمل في ذات الله تعالى، واستجلاء المعارف الإلهية التي لا تدرك بالعقول والحواس، إنما تنال بالعلم اللدني الكسبي. والإمام الغزالي قليل الكلام في هذه العلوم، بل يكثر الإشارة بأنه لا يصح إفشاؤها للعامة. فرحم الله الإمام أبا حامد الغزالي الذي بقي شجرة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، استقى منها أرباب كل الفنون، حتى من غير المسلمين، وقد كتب الباحثون قديما وحديثا عن تأثر فلاسفة أوروبا بأفكاره؛ كمارتن لوثر، وديكارت، وكانط..والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. السلوك عند الإمام أبي حامد الغزالي بقلم: محمد حمزة الشريف الكتاني: يعد الإمام الغزالي من أئمة الإسلام البارزين، الذين ضربوا بسهم في العلوم العقلية؛ خاصة الفلسفة، والفقه، والأصول، والكلام، علاوة على خوضه في ميدان التصوف والتربية، مراسة وتأليفا وتربية، بحيث ترك تراثا ضخما منفردا في هذا المجال، وهو الأمر الذي جعله مرجعا من أهم مراجع الإسلام بحيث لا يكاد يخلو كتاب من الكتب من النقل عنه، احتجاجا أو استئناسا أو مناقشة. غير أن ما يعنينا الآن هو الجانب التربوي والسلوكي عند الإمام الغزالي، وهو الجانب الذي أضاف إليه هالة من الاحترام والتقدير، بل والقداسة إن صح التعبير، والذي يبلغ أوجه في كتابه "إحياء علوم الدين". إذ إن كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي من أهم الكتب التي جمعت بين علوم الكلام والفقه والتربية، وقد تلقته الأمة بالقبول، واحتفت به، وجعلته ناموسا يخطب به ويتربى بهديه وطريقته. وقد قسم المؤلف كتابه هذا إلى عدة كتب فرعية، من أهمها: كتاب "التوحيد والتوكل"، وهو من ربع المنجيات، أحد أرباع الكتاب، هذا الكتاب الذي ختمه المؤلف – رحمه الله – بنظريته الشهيرة: "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، والتي تبارى العلماء في الحديث والنقاش حولها جيلا وراء جيل، بين موافق مبرر، ومخالف ناقد. نشأ الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي الغزالي، المولود عام 450ه/ 1058م، يتيما، فكفله أحد أصحاب والده فاعتنى بعلمه وتهذيبه، فقد قام أبو حامد الغزالي بتعلم مبادئ اللغة والنحو كما حفظ القرآن الكريم وتعلم اللغة الفارسية، ثم انتقل بعد ذلك إلى جرجان، والتي عرفت بمدينة الفقهاء والمحدثين، فتتلمذ على يد علمائها، ثم عاد مرة أخرى إلى طوس حاملاً عددا من الكتب التي انكب على دراستها لمدة ثلاث سنوات. ثم انتقل الغزالي بعد ذلك إلى نيسابور وذلك عام 473ه - 1080م، والتحق هناك بإمام الحرمين ضياء الدين الجويني مدرس الفقه والمنطق في جامعتها النظامية إلى أن مات، وهناك تعلم الفقه والمنطق والفلسفة وأصول الفقه وغيرها من العلوم، وكان واحداً من تلاميذ الجويني الأذكياء وبعد أن أظهر الكثير من النبوغ عهد إليه بإلقاء الدروس. وقام الغزالي بجمع الكتب وحفظها فقوي علمه وترسخ في الدين، كما قام بالإطلاع على كتب الفلاسفة فتعمق بها ودرس بها مما أثرى معرفته. عظمت مرتبة الإمام الغزالي عند الملوك فمن دونهم، بل كلفه نظام الملك بالرد على طوائف الزنادقة والضالين، فكان بناظرهم ويفحمهم، غير أنه ما لبث أن ترك التدريس بالمدرسة النظامية، واتجه نحو الزهد والعبادة، وتنقل بين عدد من المدن الإسلامية، فبعد أن مكث بدمشق فترة من الزمن انتقل إلى القدس، ومنها إلى مكة ثم عاد مرة أخرى إلى دمشق فاعتكف بالجامع الأموي، آخذاً على عاتقه مهمة الإفتاء والوعظ، وبدأ في وضع كتابه "إحياء علوم الدين"، وبعد أن تنقل بين القدس والحجاز؛ عاد إلى بغداد وسعى من أجل إتمام "الإحياء". قام فخر الملك ابن الوزير نظام الملك بحمل أمر من السلطان إليه وذلك من اجل التدريس في جامعة "نيسابور" فقام بالتدريس بها لمدة عامين، ثم ترك التدريس وغادر إلى طوس وقام هناك بإنشاء "زاوية" صوفية وانقطع بها للعبادة وتدريس الفقه حتى وفاته. وقد قضى الغزالي حياته في نشر العلم والفكر الإسلامي، بالإضافة للبحث والتدقيق محاولاً استخلاص الحقائق، كما عمد إلى اتباع منهج الشك للوصول إلى اليقين، واتجه الغزالي نحو الزهد والتصوف، وتم تلقيبه بلقب "حجة الإسلام". توفى الشيخ أبو حامد الغزالي عام 505ه، بعد أن بذل الكثير من حياته من أجل خدمة العلم والإسلام، وبعد أن ترك مجموعة من الكتب القيمة التي يرجع إليها الكثيرون من طلاب العلم.. ويتصل سند الإمام الغزالي التربوي بالإمام الجنيد؛ فهو أخذ عن أبي المعالي الجويني عن أبي القاسم القشيري صاحب "الرسالة" في التصوف عن الشيخ الأستاذ أبي علي الحسن بن علي الدقاق عن الشيخ أبي القاسم إبراهيم بن محمد النصرأبادي عن الشيخ أبي بكر الشِبْلي عن الشيخ أستاذ الطائفة وسيدها أبي القاسم الجنيد بن محمد القواريري. وأخذ الجويني أيضا عن أبي طالب المكي صاحب "قوت القلوب"، عن أبي سعيد ابن الأعرابي عن الإمام الجنيد. وعن الإمام الغزالي أخذ أئمة؛ منهم: القاضي أبو بكر بن العربي المعافري، وعنه أبو الحسن علي بن حرزهم الفاسي، وعنه أمة من الناس؛ كأبي مدين التلمساني وأبي الحسن الشاذلي وغيرهما ممن تتصل بهم جل الطرق الصوفية المعروفة الآن. وقد ترك الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى عدة مؤلفات؛ منها في التربية والتصوف: "أيها الولد"؛ وهو نصيحة لابنه، ويعتبر كتابا أساسيا فيما يتعلق بتربية المبتدئين، و"المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى"، و"ميزان العمل"، و"المنقذ من الضلال" وهو كتاب سلوك وكلام عالي النفس، كتبه للأعلام والفلاسفة. و"إحياء علوم الدين"؛ وهو خزانة الإمام الغزالي التي نهل منها الناس جيلا بعد جيل، ودهرا وراء دهر. ولا يمكن للدارس في الجانب التروبوي والسلوكي عند الإمام الغزالي خاصة، وجوانبه كلها عامة أن يبحث فيها دون الرجوع إلى هذا الكتاب العظيم. هذا الكتاب – "إحياء علوم الدين" – أمضى الغزالي في تأليفه عشر سنوات، وكان مقصوده منه إعادة العلوم الشرعية إلى نفسها الروحي بعد أن صارت علوم آلة، ووسيلة للاختلاف والائتلاف، واكتساب الدنيا بالمناصب والجاه. وقد ضمنه كتبا؛ كقوت القلوب لأبي طالب المكي، و"الرسالة" للقشيري، و"الرعاية" للمحاسبي، وزاد عليها من علمه وتجربته، فجعله في أربعة أرباع، كل ربع يضم عدة كتب، والأرباع هي: العبادات، العادات، المهلكات، المنجيات. وبالنظر إلى مضمون هذه الأرباع يتجلى المنهج التربوي عند الإمام الغزالي؛ فنجد أن جزء "العبادات" يبحث فيه في آداب العبادات وخفاياه، وسننها وأسرار معانيها، بينما في جزء "العادات" يبحث في أسرار المعاملات الجارية بين الناس، وسننها، بالإضافة للدعوة إلى تبادل الفوائد الدينية والدنيوية، كما يبحث في الصداقة وشروطها، والنكاح، والكسب والسفر وآداب المعيشة وغيرها من الأمور. أما في "المهلكات" فيبحث فيه في الأخلاق والأفعال السيئة والتي أمر القرآن بالابتعاد عنها، فيتحدث عن تهذيب الأخلاق، وآفات اللسان، وذم الغضب والحقد والحسد، وذم الكبر والغرور وغيرها. وفي الجزء الخاص ب: "المنجيات"؛ يذكر كل خلق محمود وخصلة مرغوب فيها، وذلك من خصال المقربين والصديقين، والتي يتقرب بها العبد من رب العالمين، فيبحث في التوبة والصبر، والفقر، والزهد، والورع، والتوكل، والنية، والإخلاص، والصدق...وغيرها. وقد اختلف العلماء – أولا – في كتاب "الإحياء" بين معظم ومقزم، حتى بلغ الأمر بدولة الموحدين في المغرب أن أحرقوا نسخه في باديء الأمر، إلا أنه لم يمض وقت حتى كاد يتم الإجماع على فضله واعتماده، بل والتدريس به وشرحه في مشارق الأرض ومغاربها.خاصة بعد إفتاء إمام المغرب وقته أبي الحسن علي بن حرزهم بذلك.. بل عني كبار العلماء بمعارضته، واختصاره، وتخريج أحاديثه، وانتقاده، بل والتحشية عليه وشرحه؛ ولعل أعظم كتاب في الموضوع: "إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين" للحافظ الشيخ مرتضى الزبيدي. ولعل نظرة إلى باب واحد من أبواب هذا الكتاب؛ وهو "كتاب التوحيد والتوكل" الذي هو الكتاب الخامس من ربع "المنجيات" يصور بأسلوب أمين منهج الإمام الغزالي في السلوك. فالأصل في الكتاب هو ذكر التوكل، وجاء الحديث عن التوحيد باعتباره أصل التوكل، وأن التوكل لا يكون إلا بالتوحيد، قال الغزالي: "اعلم أن التوكل من باب الإيمان، وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم وحال وعمل، والتوكل كذلك ينتظم من - علم - هو الأصل - وعمل- هو الثمرة - وحال - هو المراد باسم التوكل... إنما نحتاج منها إلى ما نبني عليه التوكل وهو التوحيد" (4/ 377). ففصل "التوحيد" إنما هو جزء من كتاب "التوحيد والتوكل" من "الإحياء". وقد قسم المؤلف التوحيد إلى أربعة أقسام؛ قال: "فالرتبة الأولى من التوحيد: هي أن يقول الإنسان بلسانه "لا إله إلا الله" وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين. والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام. والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين". (4/ 377). ثم عرف كل نوع من أنواع التوحيد تعريفا موجزا، ومثل له بالجوزة، القسم الأول: قشرتها، والثاني لحاؤها، والثالث جوزتها، والرابع زيتها الذي يراد منها ويستفاد منه. وذكر كل قسم وما يقتضيه من حيث الشريعة. ثم جعل حديثه عن المرتبة الثالثة من مراتب التوحيد، وهي التي جعل التوكل مناطا بها، قال: "أما الرابع فلا يجوز الخوض في بيانه، وليس التوكل أيضاً مبنياً عليه، بل يحصل حال التوكل بالتوحيد الثالث. وأما الأول؛ وهو: النفاق. فواضح. وأما الثاني؛ وهو: الاعتقاد. فهو موجود في عموم المسلمين، وطريق تأكيده بالكلام ودفع حيل المبتدعة فيه مذكور في عالم الكلام، وقد ذكرنا في كتاب: "الاقتصاد في الاعتقاد" القدر المهم منه. وأما الثالث؛ فهو الذي يبني عليه التوكل، فلنذكر منه القدر الذي يرتبط التوكل به دون تفصيله الذي لا يحتمله أمثال هذا الكتاب". (4/ 380). ثم قال في تعريف هذا النوع من التوحيد: "أن ينكشف لك أن لا فاعل إلا الله تعالى، وأن كل موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع وموت وغنى وفقر إلى غير ذلك مما ينطلق عليه اسم فالمنفرد بإبداعه واختراعه هو الله عز وجل لا شريك له فيه، وإذا انكشف لك هذا لم تنظر إلى غيره بل كان منه خوفك وإليه رجاؤك وبه ثقتك وعليه اتكالك، فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره، وما سواه مسخرون لا استقلال لهم بتحريك ذرة من ملكوت السموات والأرض". (4/ 380). فهو مفهوم وثمرة. وبعد ذلك أسهب الإمام الغزالي في وصف مفهوم التوحيد بهذا المعنى، وذلك بطريقة عقلية أحيانا، وطريقة كلامية أحيانا أخرى، وبطريقة صوفية كشفية أحيانا ثالثة، وبطريقة صوفية عرفانية أحيانا رابعة. واعتبر مشهد اعتقاد أن الله تعالى هو الفاعل المختار في العالم ذا مرتبتين؛ أولها: في أفعال الكون والجمادات. والثاني؛ وهو المهلكة الثانية: الالتفات إلى اختيار الحيوانات في الأفعال الاختيارية. ومن المهلكة الثانية، تطرق المؤلف - رحمه الله – إلى صفات الحق تعالى، كيف خالفت الحوادث، وكيف أن كلام الله تعالى بلا صوت ولا حرف، وأن صفاته مباينة – حتى صفات الذات – للمخلوقات من كل وجه، وكيف ينتفع السالك بهذا العلم وهذا الاعتقاد. وهو لا يفتأ يضرب للقاريء الأمثال، تبسيطا لفهم المعنى وتسهيلا. ومر المؤلف على معان وأذواق قربها بأسلوب تواق، فذكر عوالم الملك والملكوت والجبروت، قال: "عالم الملك والشهادة أولها، ولقد كان الكاغد والحبر والقلم واليد من هذا العالم، وقد جاوزتَ تلك المنازل على سهولة، والثاني: عالم الملكوت، وهو ورائي، فإذا جاوزتني؛ انتهيتَ إلى منازله، وفيه المهامة الفيح والجبال الشاهقة والبحار المغرقة، ولا أدري كيف تسلم فيها، والثالث هو: عالم الجبروت وهو بين عالم الملك وعالم الملكوت". (4/ 385). ومن هنا يلتفت المؤلف – رحمه الله – إلى أمر مهم من أمور العقيدة، وهو الصفات، فيفتح فيه غلقا طالما تقاتل عليه أهل الحديث وأهل الكلام، فيلج بين قوليهما بلسان ذلق أخاذ، يستحق أن يكون في نفسه مدرسة كلامية، قال: "أما علمت أن الله تعالى لا تشبه ذاته سوائر الذوات، فكذلك لا تشبه يده الأيدي ولا قلمه الأقلام، ولا كلامه سائر الكلام، ولا خطه سائر الخطوط، وهذه أمور إلهية من عالم الملكوت، فليس الله تعالى في ذاته بجسم ولا هو في مكان، بخلاف غيره، ولا يده لحم وعظم ودم، بخلاف الأيدي، ولاقلمه من قصب، ولا لوحه من خشب، ولا كلامه بصوت وحرف، ولا خطه رقم ورسم، ولا حبره زاج وعفص، فإن كنت لا تشاهد هذا هكذا؛ فما أراك إلا مخنثاً بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه!". (4/ 286). وقد ابتدأ المؤلف في جولانه الروحي الفكري من قصة تدور على القلم والدواة، إلى أن يتدرج من عالم الملكوت للجبروت، لعالم الملك، الذس يبتديء بالقلم الإلهي، ويتدرج من العلم للإرادة للقدرة عبر الصفات، ليصل إلى قاعدة هامة؛ وهي قوله عن سؤال القدرة عن سبب قدرتها فأحالته على القادر جل وعلا: "إذ العمدة على الموصوفات لا على الصفات!". (4/ 388). وجعل المرجع في كل هذه المقامات والمشاهدات للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مهما ارتقى فلن يبلغ رتبة الصحابة الكرام، فقال: "فنودي من وراء الحجاب: إياك أن تطمع في الثناء وتزيد على سيد الأنبياء، بل ارجع إليه فما آتاك فخذه وما نهاك عنه فانته عنه، وما قاله لك فقله... فقال: إلهي إن لم يكن للسان جرأة على الثناء عليك فهل للقلب مطمع في معرفتك، فنودي: إياك أن تتخطى رقاب الصديقين، فارجع إلى الصديق الأكبر فاقتد به؛ فإن أصحاب سيد الأنبياء كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، أما سمعته يقول: العجز عن درك الإدراك إدراك". (4/ 388). وبعد ذلك انطلق إلى إثبات عالمي الملك والملكوت، بطريقة عقلية وكلامية، فإنكار عالم الملكوت من منهج السمنية الذين لا يثبتون إلا ما يحس بالحواس الخمس، وإنكار عالم الملك من منهج السوفسطائية التي تشكك في المحسوسات. ويخلص إلى أن علم الكلام علم العوام الذين لا يفهمون سوى المحسوسات ولهم توكلهم الخاس بهم. وعلم الخاصة هو علم الكشف الذي يطلع على عالم الملك، وهم الأثبت في باب التوكل. ومن هنا تحدث المؤلف بإسهاب عن القدرة والاختيار بالنسبة للبشر، وخلص في ذلك إلى أن يخلص إلى أن الإنسان "مجبور في قالب الاختيار"، بل خلص في نهاية الفصل إلى قوله: "فقد ظهر الآن أن الكل جبر!". (4/ 296). واعتمد في هذا الباب علم الكلام، فقال في الاختيار: "فالاختيار: عبارة عن إرادة خاصة، وهي التي انبعثت بإشارة العقل فيما له في إدراكه توقف، وعن هذا قيل: إن العقل يحتاج إليه للتمييز بين خير الخيرين وشر الشرين". (4/ 292)، ثم هنا خلص المؤلف إلى قاعدة كلامية مهمة، فقال: "وجميع الألفاظ المذكورة في اللغات لا يمكن أن تستعمل في حق الله تعالى إلا على نوع من الاستعارة والتجوز". (4/ 292). ومن هنا عرج المؤلف على القول بالقدرة الأزلية، وأن العلم والقدرة والإرادة والفعل بالنسبة للمخلوقات غير مترتب بعضه على بعض، وأسهب في الحديث عن "القدرة الأزلية"، وأن العالم كله مسخر لخدمة الله تعالى، وأنه مخلوق بالحق، فلا تقديم وتأخير فيه إلا بحسب الفهم لا الأصل، فليس في الصفات الإلهية تقديم والأخير بحسب نسبتها لله تعالى، "فكل ما بين السماء والأرض حادث على ترتيب واجب وحق لازم لا يتصور أن يكون إلا كما حدث، وعلى هذا الترتيب الذي وجد فما تأخر متأخر إلا لانتظار شرطه". (4/ 393)، "فهكذا ينبغي أن تفهم صدور المقدّرات عن القدرة الأزلية مع أن القدرة قديمة والمقدورات حادثة، وهذا قرع باب آخر لعالم آخر من عوالم المكاشفات". (4/ 394). ثم استطرد في مسألة تعلق الفعل بقدرتين، وهي مسألة كلامية شائكة، خلص فيها إلى أن قدرة المخلوق من قدرة الخالق تعالى، إنما هي مستحدثة وقدرة الخالق أزلية، ليحل إشكال التناقض بين التوحيد والشرع. وانتهى المؤلف – رحمه الله تعالى – إلى نظريته الشهيرة، وهي: "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، وهي النظرية التي تضاربت آراء الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والصوفية فيها، وألف كل فيها بحسب فهمه وإدراكه، ولكن باعتبار أن الدنيا واللآخرة شيء واحد، فما نقص في الدنيا عوض في الآخرة، وما زاد فيها عوض منها. التوحيد من "الإحياء" مقسم في مفهومه إلى عدة مراتب: المنافقين والعامة، والخاصة، وخاصة الخاصة، لينفرد المؤلف بالحديث عن توحيد العامة والخاصة من حيث المواجيد والشعور، والتأمل والتأله، وما يترتب على ذلك من يقين يكون سببا في التخلق والتحلي بمقام التوكل، وتفرع إلى الحديث عن عوالم الملك والملكوت والجبروت، والقدرة والإرادة والعلم، والجبر والاختيار، كل ذلك لا من حيث الإثبات ولكن من حيث الثمرة. وقد عني الإمام الغزالي في كتاب "التوحيد والتوكل" بذكر ثمرة التوحيد، وثمرة ما ينتج عنه، ووصف ذلك، وإثبات الصفة والمواجيد من حيث علم الكلام، وعلم الحقائق، والمعقوليات، والمنطق، وضرب الأمثلة التقريبية ليجعل القاريء يستشعر ما هو بصدد الحديث عنه، فهو مزيج بين عدة مناهج عقلية وروحية. فمن هنا يظهر لنا أن السلوك عند الإمام الغزالي يبتديء بمراحل؛ وهي: - السلوك الأولي، أو: سلوك العامة، الذي يبتديء بالمحافظة على أحكام الشريعة وآدابها. - السلوك الأوسط: وهو المتعلق بتدريب النفس على استحضار الله تعالى في جميع تصرفاتها، ومراعاة الإخلاص وأعمال القلوب، ومداواة أمراضها وعللها. - ثم السلوك العالي، وهو: سلوك خاصة الخاصة، وهو التأمل في ذات الله تعالى، واستجلاء المعارف الإلهية التي لا تدرك بالعقول والحواس، إنما تنال بالعلم اللدني الكسبي. والإمام الغزالي قليل الكلام في هذه العلوم، بل يكثر الإشارة بأنه لا يصح إفشاؤها للعامة. فرحم الله الإمام أبا حامد الغزالي الذي بقي شجرة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، استقى منها أرباب كل الفنون، حتى من غير المسلمين، وقد كتب الباحثون قديما وحديثا عن تأثر فلاسفة أوروبا بأفكاره؛ كمارتن لوثر، وديكارت، وكانط..والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. يتبع .